الشهيدة بنت الهدى

الشهيدة بنت الهدى

 

نبذة عن حياتها:

فتحت آمنة الصدر عينيها، على قباب الكاظمين «ع» الذهبية، في يوم من ايام عام 1937م(1357هـ)، وسميت آمنة تيمناً باسم ام الرسول الأكرم محمد «ص».

والدها، هو الفقيه المحقق آية الله السيد حيدر الصدر، وهو من ابرز العلماء المسلمين في العراق، وما لبث والدها ان ترك فراغاً في قلبها ـ وهي لمّا تزل طفلة تحبو ببراءتها على الارض ـ برحيله لدار الخلود،  فجهدت امها الفاضلة «اخت المرجع المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين»، واخواها السيدان اسماعيل ومحمد في أن يمحيا عن قلبها المفجوع هذه الذكرى المؤلمة.

كانت زهرة نضرة، تقطر ذكاء وقدرة على التعلم، اهتم بها اخواها، وعلّماها النحو والمنطق، والفقه والاصول.. في البيت، وبالرغم من انها لم تذهب إلى المدارس الرسمية، إلاّ انها اظهرت ميلاً ورغبة قوية في ان تنهل من الكتب والمطبوعات، فكانت تنفرد ساعات من النهار، في غرفتها، تغوص في أعماق الكتب ـ التي كانت اكثرها مستعارة من معارفها وزميلاتها ـ لتروي ظمأها إلى المعرفة، وتلهفها للثقافة..

وقد أبدى عمها المجاهد السيد محمد الصدر ـ وهو احد المشاركين في ثورة العشرين العارمة ضد الاحتلال البريطاني للعراق ـ اهتماماً بها وبأخويها، وشجعهم على مواصلة دراساتهم، سواء في البيت ـ كالفتاة الذكية آمنة ـ أو في الحوزة العلمية في النجف الاشرف، كأخويها السيدين اسماعيل ومحمد..

وأصبح هم هذه الفتاة الرسالية، تحرير النساء من قيود الجهل والسطحية، فبدأت رحلتها المباركة، وهي لمّا تزل يافعة..

إشراف الشهيدة على مدارس البنات:

في عام 1958م تشكلت في العراق «جمعية الصندوق الخيري الاسلامي» في مدينة بغداد، وسرعان ما توسعت هذه الجمعية، وأنشأت لها فروعاً في البصرة، الديوانية، الحلة، والكاظمية.

كانت هذه الجمعية، متميزة بنشاطاتها الخيرية المتعددة. وفي الحقل التعليمي، كانت تشرف على كلية أصول الدين في بغداد، ومدارس الامام الجواد «عليه السلام» للبنين، بمرحلتيها الابتدائية والثانوية، ثم مدارس الزهراء «عليها السلام» للبنات، بمرحلتيها الابتدائية والثانوية أيضاً.

وتم اختيار السيدة آمنة الصدر في عام 1967، لتكون المشرفة على مدارس الزهراء «عليها السلام» في الكاظمية.

ورحبت السيدة بنت الهدى، بهذه المهمة المقدسة، التي اعتبرتها خطوة اخرى، في توسيع نطاق نشاطها الاسلامي العام، وتمكنت بفطنتها وذكائها وثقافتها الرفيعة، من اكتساب احترام وحب النسوة اللائي، كن على اتصال معها..

كانت السيدة العلوية، دقيقة ومنظمة ـ كما ينبغي للانسان الرسالي المسلم ان يكون ـ ولذا كنت تراها تنجز اعمالها في الاشراف على مدارس الزهراء «عليها السلام» اضافة إلى مدرسة اسلامية اخرى للبنات، في النجف الاشرف، ثم تنفق ما تبقى من نهارها، في الالتقاء بمعلمات مدارس الزهراء «عليها السلام» وكن في الغالب خريجات دار ومعهد المعلمات، اضافة إلى الالتقاء بالطالبات الجامعيات، والمؤمنات الملتزمات، لتفيض في حديثها لهن عن مسؤولية المرأة المسلمة، في وقت بدأت بوادر الصحوة الإسلامية تلوح في الاُفق، منذرة المستكبرين وعملاءهم، بأن مد البحر الاسلامي الهادر حان وقته، بعد جزر استغرق القرون الماضية..

وحين يزحف الظلام ببطء، وتقف السيدة آمنة، بين يدي ربها، تناجيه، وتستمد منه القوة والعزم، والقدرة على العطاء، تنتحي زاوية في غرفتها وتتناول قلمها لتسطر على صفحات الورق بعضاً من خواطرها، ومقالاتها وقصصها، أو لتنادم كتبها، وهي لا تستشعر تصرم الوقت، وخلود الطبيعة ـ فيما حولها ـ للسبات والهدوء.. واستمرت هذه السيدة الفاضلة تؤدي واجبها الاسلامي، بحزم واخلاص، حتى صدر قرار عن «مجلس قيادة الثورة» البعثي، عام 1972 نص على تأميم المدارس الاهلية كافة، وكان الهدف من هذا القرار ـ كما هو واضح ـ القضاء على «قلاع الحجاب» هذه ـ حسب وصف احدهم لها..

وبالرغم من ان القانون يشمل كل المدارس الاهلية ـ حسب ما ورد فيه ـ إلاّ ان سلطات البعث الكافر، سرعان ما اعادت «الشرعية» للمدارس المسيحية والارمنية، والمدارس الاهلية الاخرى، مع دعمها مالياً واعلامياً..

واتضح بعدئذ، بأن الهدف كان هو هذه المدارس وتمكن منجنيق البعث من هدم هذه القلاع الشامخة، ولم يكن امام السيدة الفاضلة إلاّ ان تخرج، وقلبها يتفطر اسى وحزنا..

بعد كل هذه الرحلة الطويلة، مع اجيال الطالبات الملتزمات يمد الاخطبوط البعثي اذرعه الثمانية، ليمتص الحيوية الإسلامية التي كانت تسم المدارس الإسلامية الاهلية.

لم تقتنع السيدة الفاضلة، ابداً، بالرجوع إلى موقعها، بالرغم من الكتب الرسمية التي بعثت اليها.. كانت تجيب من يسألها عن سبب قرارها الحازم هذا، من خلال دموعها، وآهاتها الحرّى التي تصبغ كلماتها بلون، كلون الدم: «لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة، إلاّ نوال مرضاة الله، ولمّا انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها، فما هو جدوى وجودي بعد ذلك؟»..

أدبها:

كتبت السيدة الشهيدة، النثر والشعر، وكانت تهتم بالمضمون اكثر من الشكل، ولم يكن همها ان تخرج كتاباً كيفما اتفق، بل انها دأبت على ان تنقل ما ترصده عيناها من ظواهر حياتية، يعيشها أيّ منا، ولكن ضمن حبكة قصصية، تضفي عليها الصبغة الادبية، التي تهوى اليها النفوس باعتبارها حاجة اصيلة لدى الإنسان..

تقول سيدتنا الفاضلة، في مقال لها، نشرته آنذاك في مجلة الاضواء، في عام 1960: «استحال بعض ادبائنا مع  الاسف، إلى مترجمين وناشرين لا أكثر ولا أقل...» وهذا الادراك المبكر لمحنة الأدب العربي (المكتوب باللغة العربية) هو الذي أعطاها زخماً قوياً، لكي تسهم في تعديل هذه الصورة المقلوبة، ولو بشكل يسير، وكان شعورها بخواء الاقلام التي تنشر آنذاك، والتي كانت في أغلب الاحيان مقلدة لما يكتب في الغرب أو الشرق قد جعلها تلج هذا الميدان الواسع، متسلحة بأيمانها وثقتها بنفسها واحساسها بظلامة المرأة ـ وخاصة المسلمة منها ـ وان من اولى واجباتها هو الاسهام في ازاحة حجب الافكار المستوردة عن عقول النساء المسلمات..

كتبها:

هذه نبذة مختصرة عن كتب السيدة الشهيدة، وأغلبها كانت قصصاً، زرعتها الشهيدة بنصائحها للفتاة المسلمة، بالالتزام بقيم السماء، التي جاء بها خاتم الانبياء محمد «ص» في مثل هذا الوقت الذي ألقى فيه الشرق والغرب القفازات، وهبوا لدخول معركة طويلة مع ابناء هذه الاُمّة العظيمة.

الفضيلة تنتصر:

في «الفضيلة تنتصر» وهي اولى قصصها، نلتقي بنموذجين للمرأة المسلمة المعاصرة، «نقاء» التي تمثل الفتاة المسلمة الملتزمة، و«سعاد» ابنة خالتها وهي فتاة مفتونة بالحياة الغربية، وتسعى بشكل متواصل وراء الازياء والتقليعات..

«سعاد» تخون زوجها «محمود» الضعيف الشخصية، وتنفق امواله في سبيل نزواتها التي لا تنتهي، وفي كل هذا، تشعر بأن الحقد يأكل قلبها، بسبب اعتصار «نقاء» بدينها وقيمها، وتحاول، آخر الأمر، اغواء «محمود» للتعرض إلى «نقاء» مستغلة في ذلك فرصة سفر «ابراهيم» زوج «نقاء» إلى اوروبا، لمناقشة رسالة الدكتوراه.

ويكتشف «محمود» الحقيقة، آخر الأمر، ويعمد إلى التخلص من زوجته الخائنة «سعاد» بتطليقها...

امرأتان ورجل:

في «امرأتان ورجل» نلتقي مرة اخرى بهذين النموذجين المتمثلين في «حسنات» المؤمنة الملتزمة، و«رحاب» اختها المفتونة أيضاً بمظاهر التقدم في الغرب، فتحاول جهدها، الحيلولة دون زواج اختها «حسنات» من «مصطفى» الذي كان يدرس في المهجر...

وتتمكن رحاب من اصطياد الرسائل التي كان يبعثها مصطفى، وترد عليها باسم اختها، املاً في انّه سوف يراجع موقفه، وربما يتخلى عن حسنات، ولكن «مصطفى» يتذرع بالصبر، ويرد على شبهات «خطيبته» ولكن هذه العملية تنتهي بإيمان «رحاب» واهتدائها لينبوع الحقيقة..

وتنتهي القصة بزواج «مصطفى» وأخيه «محمد» من «حسنات» واختها «رحاب»..

الباحثة عن الحقيقة (سنة 1979):

تدور القصة، حول شخصيتين رئيسيتين، هما العالم الديني «الذي لا تذكر الكاتبة له اسماً، ويمكن ان يكون رمزاً  لكل عالم ملتزم، هدفه التغيير»، و«سندس» وهي فتاة غير مسلمة، تسعى إلى الزواج من فتى مسلم «فؤاد»، غير ان العالم الديني يدخل مع «سندس» في حوار طويل، يستمر اياماً، ينتهي باقناعها بأن الإسلام هو الدين الحق وبعد ان يدخل الايمان قلبها بقوة، تقرر هي و«فؤاد» الزواج.

الخالة الضائعة «مجموعة قصصية ـ 1974»:

تتضمن القصص القصيرة التالية: الخالة الضائعة، نكران الجميل، زيارة عروس، اختيار زوجة، صافرة انذار، نداء الضمير، رسائل وخواطر (عبارة عن مجموعة رسائل متبادلة بين فتاتين هما: زهراء وأسماء، تعرض فيها السيدة الفاضلة المفاهيم الإسلامية بشكل هادىء)، عملية جراحية.

ليتني كنت أعلم «مجموعة قصصية ـ 1977»:

تتضمن القصص القصيرة التالية: ليتني كنت اعلم، صفقة خاسرة، آخر هدية، الأيام الاخيرة، الفاقة المالية، فترة الركود، الانفتاح من جديد، الساعات الاخيرة، مغامرة، وهي مجموعة رسائل متبادلة بين فتاتين هما: «رجاء» و«وفاء»، تصور فيها الشهيدة شكر «رجاء» العميق لزميلتها «وفاء» لانها كانت السبب في هدايتها.

صراع من واقع الحياة «مجموعة قصصية»:

تتضمن القصص القصيرة التالية: صراع، صمود، ثبات، مقاييس، مذكرات، قلب يتعذب، فكر في مهب الريح، حشرجة روح، بقايا كيان.

ذكريات على تلال مكة:

«خواطر عن ايام الحج التي شهدتها السيدة الفاضلة».

كلمة ودعوة:

«مجموعة احاديث موجهة للمرأة المسلمة، تبحث فيها الكاتبة عن منزلة المرأة في الإسلام، وتنتقد بعض الظواهر الاجتماعية الخاطئة».

بطولة المرأة المسلمة:

«تتحدث فيه الكاتبة عن المرأة المسلمة، ومسؤولياتها في ميدان حمل الدعوة، والفكر، والعمل في سبيل الله تعالى».

المرأة مع النبي:

تطرح الكاتبة فيه مفاهيم اسلامية، توضح قيمة المرأة ومنزلتها في الإسلام، وتتحدث عن مسؤولياتها، سواء كانت فتاة، ام زوجة، أم أما».

لقاء في المستشفى «آخر ما كتبته الشهيدة»:

بفضل الطبيب الدكتور «سناد»، تهتدي الدكتورة «معاد» للايمان، وعندما تبدأ احداث القصة، تكون معاد طبيبة في مستشفى ما.

في يوم ما، تزور فتاة محجبة تقليدية «ورقاء» وجدّتها، المستشفى الذي تعمل فيه معاد، وبعد فترة من التزاور، تستجيب «ورقاء» لافكار «معاد» فتعرض عليها الاخيرة الزواج من اخيها «سناد»، ولكن جدة «ورقاء» ترفض هذا الزواج، بسبب وهم الجدّة بأن والد «ورقاء» راح ضحية لمؤامرة دبرها والد «معاد»..

وبعد اتضاح حقيقة الامر يوفق الطرفان للزواج، وتكون مساعي «معاد» قد آتت اكلها..

شعرها:

كتبت السيدة الفاضلة قصائد، ومقاطع شعرية، حاولت فيها التركيز على غرس روح التحدي والثبات لدى المرأة المسلمة، ولم يكن شعرها ترفاً، بل كان نابعاً من حاجة تراها الشهيدة فكانت تخاطب اخواتها وبناتها بأسلوب واضح لا لبس فيه، وعاطفة متأججة:

اختاه هيا للجهاد وللفدا***والى نداء الحق في وقت الندا

هيا اجهري في صرخة جبارة***إنّا بنات محمّد لن نقعدا

إنّا بنات رسالة قدسية***حملت لنا عزّاً تليداً أصيدا

وتؤكد الشهيدة ثبات موقفها، واصرارها على المضي حتى نهاية الشوط، مهما تلبد الافق بسحب المصاعب والمشاكل، انها ماضية في غاية أسمى، ألا وهي الجهاد:

قسما وان ملىء الطريق***بما يعيق السير قدما

قسماً وان جهد الزمان***كي يثبط فيّ عزما

أو حاول الدهر الخؤون***بأن يريش إليّ سهما

وتفاعلت شتى الظروف***تكيل آلاماً وهما

فتراكمت سحب الهموم***بأفق فكري فبادلهما

لن انثني عمّا أروم***وإن غدت قدماي تُدمى

كلا، ولن أدع الجهاد***فغايتي أعلى وأسمى

وتؤكد السيدة الفاضلة، مفهوم ان سالكي طريق الحق قلة لوحشته ولكن النصر يكون حليف هؤلاء القلائل، ولم يكن في اختيارها لهذا الطريق جهل أو نزوة، بل انّه كان عن قناعة، فهو طريق طويل، مليء بالأشواك، موحش:

أنا كنت اعلم ان درب الحق بالاشواك حافل
خال من الريحان ينشر عطره بين الجداول
لكنني اقدمت أقفو السير في خطو الأوائل

فلطالما كان المجاهد مفرداً بين الجحافل
ولطالما نصر الإله جنوده وهم القلائل
فالحقّ يخلد في الوجود وكل ما يعدوه زائل
سأظل أشدو باسم اسلامي وأنكر كل باطل

ولا ترى الشهيدة بنت الهدى، في هذا الطريق إلاّ الخلود، والشموخ، طريق تهون دونه كل الصعاب فالاسلام عال، وستبقى رايته ترفرف إلى الأبد:

اسلامنا أنت الحبيب وكل صعب فيك سهل
ولأجل دعوتك العزيزة علقم الأيام يحلو
لم يعل شيء فوق اسمك في الدنا، فالحق يعلو

وعندما تشتكي الفتاة المسلمة في العراق، للسيدة الفاضلة، عن وحدتها وعن كيل الاتهامات التي توجه لها، ومنها أنّها «رجعية» في زمن «التقدم والتطور»، تطمئنها الشهيدة، وتشد على يدها، وتطلب منها ان تجهر بالحقيقة، وهي ان الحجاب ليس عائقاً يحول دون تقدم المرأة، ومشاركتها في تحمل مسؤولياتها في المحيط الذي تعيش فيه.

تقول السيدة الشهيدة، بصوت جهوري، وبلهجة حازمة:

«رجعية» ان قيل عنك! فلا تبالي واصمدي
قولي، أنا بنت الرسالة، من هداها اهتدي
لم يثنني خجلي عن العليا، ولم يعلل يدي
كلا، ولا هذا الحجاب يعيقني عن مقصدي
فغد لنا، اختاه، فأمضي في طريقك واصعدي
والحقّ يا أختاه يعلو فوق كيد المعتدي

ومما يلاحظ على كتابات السيدة العلوية الشهيدة، انها ترصع نثرها وشعرها، بالمصطلحات الدعوتية، مما يعبر عن قوّة انشدادها للحركة الإسلامية في العراق، وهي تتحدث في بعض الاحيان بصراحة، خذ مثلاً على ذلك قولها:

ولأجل دعوتك العزيزة علقم الأيام يحلو

يلاحظ أيضاً على أدب الشهيدة انّه يدور في الغالب ـ في محيط المرأة، فهي تعالج اموراً اُسرية، كالزواج، والطلاق، التعلم بالنسبة للمرأة، العلاقات الاُسرية.. ذلك لأنها ادركت خلو الساحة ـ تقريباً ـ من النساء الموجهات الرساليات.

ويمتاز أدب الشهيدة أيضاً، بطابعه الفكري ـ إذا جاز التعبير ـ فهي تناقش مثلاً، مسألة سبق الدين على التناقضات الطبقية، وعدم مجيئه لتعزية الإنسان الضعيف، ففي قصتها «امرأتان ورجل»، أو مسألة الحاجة إلى الدين واعجاز القرآن، وشمولية التشريع الاسلامي في قصتها «الباحثة عن الحقيقة»..

مواقف جهادية:

بحكم كونها شقيقة المرجع الكبير السيد الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر، مؤسس الحركة الإسلامية في العراق، وراسم خطها ومسيرتها، كانت السيدة الشهيدة، واعية لدورها الرسالي الحركي، وكانت تعاصر، هي الاخرى، نمو الحركة إلى جانبها شقيقها الشهيد، فكانت ساحة عملها، هي القطاع النسوي..

وقد عاشت كل الاحداث التي مرّ بها الشعب المسلم في العراق، ابتداء من عام 1972، حينما اودع النظام الجائر شقيقها السيد الشهيد مستشفى مدينة الكوفة ـ بعد اعتقاله ـ  مقيداً إلى سريره بسلاسل حديدية، وهي السنة ذاتها التي اعدم فيها الشهيد الحاج أبو عصام، احد مؤسسي الحركة الإسلامية في العراق، ومروراً بسنة 1974، حينما اعدم النظام قبضة الهدى الشيخ السعيد عارف البصري ورفاقه الأبرار، وأحداث انتفاضة صفر عام 1977، حينما اعتقل السيد الشهيد بتهمة التحريض للانتفاضة..

وهتفت السيدة الشهيدة مكبرة في مرقد الإمام علي «عليه السلام»، عام 1979، بعد ان اعتقل جلاوزة النظام السيد الشهيد قائلة: «الظليمة.. الظليمة.. أيها الناس، هذا مرجعكم قد اعتقل»، ودوى صوتها هادراً وهي تخاطب مدير أمن النجف المجرم أبو سعد وجلاوزته: «الناس الآن نيام، لكنهم لن يبقوا نياماً، ولابدّ للشعب أن يستقيظ من سباته ويهب من نومه».

وعلى اثر ذلك انطلقت التظاهرات، في النجف الاشرف أولاً، وفي أغلب انحاء العراق ثانياً، استجابة لاستغاثة السيدة الشهيدة..

وأطلق النظام سراح السيد الشهيد، ولكنه وضعه تحت الإقامة الجبرية، مع شقيقته الفاضلة، واستمرت الإقامة فترة عشرة أشهر تقريباً، عانى فيها البيت الكريم الأمرّين من الأذى والإضطهاد، إذ كانوا قد حوصروا بشكل تام، من قبل أزلام السلطة، وسجلت الشهيدة معاناتها في كتاب «أيام المحنة»..

وفي 5 نيسان 1980م، اعتقل المرجع الشهيد الصدر، مع شقيقته الفاضلة، وأودعا أحد سجون بغداد، حيث أعدما بشكل فجيع، بعد ثلاثة أيام..

ولم تنثن «بنت الهدى» ولم تتراجع، وبرّت بقسمها الذي قطعته على نفسها، وحققت أملها، الذي أعلنته لإحدى تلميذاتها بقولها: «إنّ حياتي من حياة أخي، وسوف تنتهي مع حياته إن شاء الله».

بنت الهدى كما تراها إحدى تلميذاتها

          كتبت السيدة الفاضلة أم تقى الموسوي  عن أستاذتها الشهيدة بنت الهدى رحمها الله ما يلي :

     " اضاءت  حياة الشهيدة بنت الهدى معالم باهرة ، فهي العالمة الجليلة ، والأديبة الفاضلة ، نشأت في أحضان أخوين عالمين ، وأم مهذبة بصيرة ، وقد دأب هذا الثلاثي الطاهر على تربية هذه البنت تربية صالحة نموذجية لتصبح بعد حين علما للمرأة المسلمة الرسالية ، ولتكون السراج المنير في الليلة الظلماء لمن ضعن في متاهات الغواية والإغراء ، وكان لديها دافع التقبل والقدرة على إستيعاب ما يلقى عليها من التوجيهات والدروس والمحاضرات التي كانت تعدها لمستقبلها الخطير .

     وتقول أم تقى أنه عندما كانت الدكتورة بنت الشاطئ في النجف الأشرف حيث التقت الشهيدة  سألتها الدكتورة :

     ـ من أي كلية تخرجت ؟

     ـ قالت الشهيدة ببسمة وادعة ( أنا خريجة مدرسة بيتنا ).

     فدهشت الدكتورة لهذه المفاجأة المذهلة التي لم تكن تتوقع سماعها حيث تجد نفسها تقف أمام مفكرة إسلامية لم تدخل مدرسة قط .

     وتتكلم عن الجانب الأخلاقي للشهيدة فتقول :

     والمعلم البارز الذي اشرقت به الحياة العلمية للمجاهدة الشهيدة وجعلها كالشمس المنيرة ، وفتح لها الأبواب على مصاريعها في القلوب فأثرت تأثيرها المشهود هو إطلاعها الواسع في علم الأخلاق الذي تكاملت بواسطته وانطلقت بأنواره  لتكميل غيرها ، وهذا جانب مهم وخطير في حياتها ، وكان لابد لها منه كمؤمنة رسالية رائدة ومعلمة هادية ، وكانت لها ـ رضوان الله عليها ـ دراية كافية بهذا العلم وقد نذرت نفسها لخدمة هذا الجانب الكبير الذي أشار إليه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".

     وقد كان همها أن تقّوم هذا الأمر في شخصية المرأة المسلمة التي غدت العوبة اللاعبين وقد اضلوها عن الطريق المستقيم ، ومشوا بها في متاهات الدروب الملتوية والمسالك الوعرة ،وكانت أكثر كتاباتها ومحاضراتها تتركز على هذا الأمر . ولكون كلمتها كانت بمنتهى الصدق والإخلاص ، ومن أعماق قلبها كانت كلمة مؤثرة مغيّرة ، وقد استطاعت بها أن تصنع جيلا نسويّا فرض التيار الإسلامي على الصعيد النسوي ، وفي وسط المجتمع وعلى كل المستويات .

تواصل أم تقى كتابتها عن الشهيدة فتقول:

      لم تكن الشهيدة تمتلك في قلبها إلا الهم المقدس ، وهو هم العقيدة ، وقد انصرفت عن كل هموم الحياة الدنيا ومشاغلها ، وكأنها قد خاطبت الدنيا خطاب جدها أمير المؤمنين ( يا دنيا إليك عني ) فلم تفكر في نفسها ولم يكن لديها توجّه لذاتها ، وقد عزفت عن الشؤون الإعتيادية التي تهتم بها بنات جلدتها والتي هي أمور أساسية في الحياة بالنسبة لغيرها كالزواج والبيت والإستقرار المعيشي مع الزوج المطلوب والتفكير بالمستقبل والحصول على النصيب المفروض للإنسان من متاع الحياة الدنيا .

     لم نكن نرى في حياة الشهيدة الا قضية واحدة مركزية هي قضية العقيدة ، وما سواها من القضايا كان هامشيا جدا في حياتها ومسخرا للقضية الأولى ، وكمثال على ذلك قضية اللباس الذي كانت تحاول أن تجعله موضع قبول الموسرات اللواتي يلتقين بها في بغداد أو في النجف ، فقد كانت فلسفة موقفها في هذا الأمر كما تبين هي ذلك استخدامه وسيلة جذب وخلق صورة طيبة عن أمثالها من المؤمنات العاملات في نفوس الكثير من النساء اللواتي يرين في حسن الملبس لونا من ألوان الثقافة والذوق ومجاراة العصر ، ومواكبة المدنية ، ومعايشة لروح الزمان ، وكن يتصورن إن بنات المتدينين ونساءهم متخلفات حتى في لباسهن ولا يمتلكن ذوقا متحضرا ، ولا فهما لروح المدنية المتطورة التي اتحفت الدنيا بكل جديد من انتاج ذوقها المتفتح على الحياة . لذا نجد أن السيدة الشهيدة تعلم كيف تجذب الكثيرات إلى الإسلام بدعوتها الكثيرات إلى الاهتمام بكل ما هو من شأنه خدمة الإسلام ولكن في حدود الزهد مع الأناقة .

           اما اذا اردنا أن نتكلم وان نتعمق في شخصيتها فتقول أم تقى :  إنها كانت رحمها الله تجسيدا حيا ومصغرا لدور جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي وصفه أمير المومنين بأنه : " طبيب دوار بطبه " فكانت كثيرة الحركة والتنقل بين بغداد والنجف والديار المقدسة بمسؤوليتها العظيمة مسؤولية الهداية ، وكان قلبها ممتلئا بعشق هذه المسؤولية ، ولم يكن يوجد إلى جنبه في قلبها الطاهر المتمحص للإسلام عشق لشئ آخر ، كانت دائبة النشاط لا لغرض دنيوي ولا لمتاع ارضي بل لهداية إنسان أو إسناد قضية إسلامية ، أو مساعدة محتاج ، أو إصلاح ذات بين ، أو نفود هادف في المجتمع . وكانت كل خطواتها محسوبة مدروسة في ضمن برنامج ، وكانت بروحها السامية الطلقة تتألق في ذري البشر ، وكانت في نفس هذا الوقت الذي تبدو فيه مبتسمة منشرحة تحمل في نفسها هم الإسلام العظيم وتطوي بين جوانحها حرارة ذلك الهم الكبير وهموم الوضع القائم والإنحراف عن المسيرة التي راح الظلم يطبق على نهارها ويواري شمسها . لقد كانت حليمة عاقلة تقابل الإساءة بالإحسان والعقوق بالغفران ، وكانت صامدة راسخة لا تهزها الرياح العاتية ، ولا تحركها الزوابع الضارية ، فكانت تشد جراحنا وجراح المتعبات بذلك الصمود الزينبي في أيام المحن ، وكنا نأسو كلومنا وننسى همومنا في إشراق تلك البسمات عند أدلهمام الخطوب . والحق أقول لقد اجتمعت في شخصية الشهيدة بنت الهدى من خصال الخير ما لم يجتمع عند الكثير من نسائنا كسمو النفس ، وطهارة الروح ، وعلو الهمة ، وصفاء الطبع ، والمسارعة إلى الخير ، والإيثار والتضحية ، وبشاشة الوجه ، وطلاقة المحيا ، فكانت في هذا مثال المؤمن الذي وصفه الإمام علي عليه السلام ( المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه ) . وإن كان هناك الكثير الذي أصابها بأسى ولوعة اختفاء أخو زوجة أخيها السيد موسى الصدر الذي كان عضدا قويا للشهيد الصدر ، وكان من أركانه التي يعتمد عليها في الخارج ، وكان أحد وسائل ضغطه على النظام الحاكم في العراق . وفقد خالها آية الله العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين وأخيرا مهاجمة جلاوزة النظام بيتها واعتقال السيد الصدر ( قدس سره الشريف ) إلا أنها كانت أكثر ثباتا وقوة في العقيدة فلم تبعدها الظروف عن هدفها الا وهو خدمة الإسلام العظيم لذا كانت دائما تقول ( لا أريد أن أهرم ويترك الزمان علي أثره بل أنا التي تترك عليه أثرها ) . قالت والزمان نافر جامح قد أبى بعوامل سلطته ونفوذه إلا إن يقهرها، فقد اجلب لهذه خيله ورجله ، واعد عدته وشحذ اسلحته ، لكنه حين واجهته بنت الهدى بقوة الصبر ، وصلابة التجلد ، وصمود الاحتمال ، واقتدار الاحتساب ، والتوكل على الله في بطولة الإيمان ، وحماسة التقوى وشموخ اليقين ، استخذى استخذاء المستسلم الذليل وأسلم معصميه لأغلال الهوان معترفا لدى ( بنت الهدى ) وأباح لها أن تترك عليه أثرها الذي أرادته فسجلت على جبينه نصرها المؤزر وسجل لها هو بميسم الذل اعترافه بالاستسلام .  

شهادتها ودفنها

الإجرام والوحشية ، القسوة والإرهاب ، صفات وخصائص النظام العفلقي الحاكم في العراق ، لم يتورع النظام من استعمال كل وسائل الإرهاب  في معالجة مشاكله مع الشعب العراقي أو مع الدول المجاورة للعراق .

      هل يمكن لحاكم يعيش في  بلد الحضارات وفي القرن العشرين أن ينهج نهجا قمعيا لفرض سيطرته على الشعب ؟

     نعم هذا ما فعله صدام مع جيرانه من البلدان حينما قصف المدن الإيرانية بالصواريخ وقتل المدنين فيها ، وكذلك عندما قصف حلبجة بالغازات السامة  " وحلبجة مدينة عراقية لا اسرائيلية " . ثم هجومه على الكويت آخر ضحية لهذا الطاغية ، فما جرى لشعبها من قتل وتعذيب وانتهاكات للقيم والأخلاق وحتى لابسط المبادئ الإنسانية لا يمكن أن يصدق لولا الوثائق الدامغة التي لا تقبل الشك .

      وبقيت مأساة العراق في جانبها الأعظم غير موثقة ، وهي مأساة لا نظير لها في تاريخ البشرية .

     لقد قام المجرم التكريتي بقتل السيد الصدر واخته بنت الهدى ـ رضوان الله عليهما ـ بنفسه فهو الذي أطلق النار عللقد كانت حليمة عاقلة تقابل الإساءة يهما بعد أن شارك في تعذيبهما .

     يتحدث صاحب كتاب الشهيدة بنت الهدى كيف روت له ثلاثة مصادر كيفية حدوث المأساة كما يرويها أحد قوات الأمن ممن كان حاضرا في غرفة الاعدام قال :

      " احضروا السيد الصدر إلى مديرية الأمن العامة فقاموا بتقييده بالحديد ثم جاء المجرم صدام التكريتي فقال باللهجة العامية : ( ولك محمد باقر تريد تسوي حكومة ) ثم أخذ يهشم رأسه ووجهه بسوط بلاستيكي صلب .

      فقال له السيد الصدر : ( أنا تارك الحكومات لكم ) وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعن علاقته بالثورة الإسلامية في إيران مما أثار المجرم صدام فأمر جلاوزته بتعذيب السيد الصدر تعذيبا قاسيا . ثم أمر بجلب الشهيدة بنت الهدى ـ ويبدو أنها كانت قد عذبت في غرفة أخرى ـ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جرا فلما رأها السيد استشاط غضبا ورق لحالها ووضعا . فقال لصدام : إذا كنت رجلا ففك قيودي . فأخذ المجرم سوطا وأخذ يضرب العلوية الشهيدة وهي لا تشعر بشئ ثم أمر بقطع ثدييها مما جعل السيد في حالة من الغضب فقال للمجرم صدام ( لو كنت رجلا فجابهني وجها لوجه ودع أختي ولكنك جبان وأنت بين حمايتك ) فغضب المجرم وأخرج  مسدسه فاطلق النار عليه ثم على أخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم "

      وفي مساء يوم التاسع من نيسان عام 1980 م وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساء ا قطعت السلطة التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف . وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات الأمن إلى دار المرحوم الحجة السيد محمد  صادق الصدر ـ رحمه الله ـ فطلبوا منه الحضور إلى بناية محافظة النجف وهناك سلموه جنازة السيد الشهيد وأخته الطاهرة بنت الهدى ، وحذروه من الإخبار عن شهادة بنت الهدى ، ثم أخذوه إلى مقبرة وادي السلام ووارهما الثرى  .

         ذهبت شهيدتنا الغالية إلى ربها راضية مرضية لتحيا  عند أمها الزهراء ، وتشكو لها عذاب تسعة أشهر ما أقساها ، وسياط المجرمين وتعذيبهم وما أشدها ، وتقطيع جسد طاهر نذرته لرسالة جدها " عليه السلام ". لتشكو لها خذلان الخاذلين ، وسكوت الساكتين وشماتة الشامتين ، وتفرج المتفرجين .

     ذهبت بنت الهدى وبقى دمها في أعناق الجميع أمانة ما أثقلها في ميزان حساب الأمم عند الله تعالى وعند التاريخ .

     سلام على بنت الهدى يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حية . والحمد لله رب العالمين

أعلام الجهاد