الشهيد آية الله سيد أسد الله المدني

 

الشهيد آية الله سيد أسد الله المدني

 

ولادته ودراسته

ولد آية الله السيد أسد الله المدني عينيه عام 1323هـ ق [1293هـ ش] في دهخوارقيان (آذرشهر). والده المرحوم آقامير علي كان بزازاً في سوق آذرشهر.

فقد الشهيد المدني أمه في سن الرابعة عشرة وأباه في السادسة عشرة وقضى صباه في معاناة وصعوبة.

قصد في عنفوان شبابه مدينة قم المقدسة لطلب العلم والكمال، وانهمك في دراسة العلوم الدينية على الرغم من مشكلاته الشخصية لفقدانه والده واستبداد الشاه رضا خان في عصره.

وبعد أن أنهى المرحلة التمهيدية (المقدمات) أخذ يدرس لدى كبار أساتذة الفقه والأصول والفلسفة. فحضر مدة دروس آية الله حجت كوه كمري (ره) وآية الله السيد محمد تقي الخونساري (ره)، كما حضر مدة أربع سنوات دروس الفلسفة والعرفان والأخلاق لدى الإمام الخميني (قدس سره).

وبعد مدة، هاجر السيد أسد الله المدني إلى النجف الأشرف، وأخذ إلى جانب مواصلة دروسه في المراحل العليا بإعطاء دروس في مرحلة السطح ( المرحلة المتوسطة)، واستلم بأمر السيد الحكيم ( ره) مقعد تدريس اللمعة والرسائل والمكاسب والكفاية ليصبح خلال فترة وجيزة أحد الأساتذة المعروفين في الحوزة العلمية في النجف الأشرف. لقد حضر شهيد المحراب في النجف الأشرف دروس البحث الخارج للمرحوم آية الله السيد عبد الهادي الشيرازي (ره) والمرحوم آية الله السيد الحكيم (ره) والمرحوم آية الله السيد الخوئي (ره)، كما حصل على إجازة اجتهاد من كبار المراجع كآية الله السيد الحكيم في النجف وآية الله حجت كوه كمري في قم، وآية الله الخوانساري.

 

أيام الجهاد الأولى

بدأ الشهيد الكبير آية الله المدني جهاده السياسي والاجتماعي في أيام دراسته في مدينة الجهاد والشهادة قم، فكان أول نشاط له هو مواجهته للبهائية كعنصر تفرقة وانحراف في منطقة آذرشهر.

فما يحكيه التاريخ هو أن رضا خان وعملاء الاستعمار في إيران أخذوا آنذاك بتهيئة الأجواء لنشاط البهائية وغيرها من الفرق المفتعلة من أجل ضرب الدين والمذهب الشيعي بشكل خاص، بحيث استطاع الأثرياء من البهائيين في أذربيجان ـ ولاسيما في ضواحي تبريز ـ السيطرة في مدة قصيرة على بعض معامل الطاقة الكهربائية. وعندما علم آية الله المدني بالأوضاع المتأزمة في تلك المنطقة وأحس بالخطر الذي يحدق بالمسلمين هناك، تحرك من فوره إلى مسقط رأسه ليبدأ جهاده ضد الفرقة البهائية.

فقد قام في خطبه بفضح البهائيين وتعبئة الناس ضد من يتعاون معهم ويدعو إليهم. فحرم استخدام الطاقة الكهربائية التي تنتجها معاملهم وكذلك التعامل مع هذه الفرقة الضالة ليصعد من أجواء الاعتراض على البهائية، وليتمكن أخيراً من تطهير مدينة آذرشهر الدينية من لوث هذه الفرقة الاستعمارية.

وكانت الشرطة آنذاك تتابع الأحداث، فاعتبرت السيد المدني المدبر الوحيد لتلك التحركات المضادة للبهائية وقامت بإبعاده إلى همدان.

 

القيام بوجه المفاسد الاجتماعية عام 1331 في آذرشهر

عاد المجاهد الشهيد المدني من النجف إلى مسقط رأسه في عام 1331، فاستقبله أهالي آذرشهر وصلى بهم جماعة في مسجد الحاج كاظم. وفي أول خطبة له في أهل آذرشهر قال: يا أهالي آذرشهر، عند مجيئي إلى إيران، سألوني في كرمانشاه: من أين أنت؟ قلت: من آذرشهر. قالوا: آذرشهر خمرها جيد ومشهور في كل إيران. ثم قال: وجود معمل للمشروبات الروحية ماذا يعني؟ لو كنتم منعتم بيع المواد الأولية لهم من أول الأمر لذهبوا.

وفي خطبة أخرى تحدث عن القبعة البهلوية والزي الموحد، وقال: أوصيت أن يأتوا من تبريز بقبعات من الجلد. كل من يضع قبعة بهلوية مرة أخرى، لا يأت لصلاة الجماعة في المسجد. وهكذا أخذ يحارب مظاهر الطاغوتية والاستبداد.

وفي عيد الفطر من تلك السنة، أقام صلاة العيد على المرتفع الذي بجانب المدينة. فقام المصلون عند عودتهم من الصلاة بمسيرة احتجاجية وتوجهوا إلى معمل المشروبات الروحية. فخرج أفراد النظام لمواجهتهم مهددين باستخدام الأسلحة. وبعد هذه الحادثة، جاء المدعي العام لتبريز إلى موقع التظاهرة للتفاوض مع السيد المدني، فوعده بإيقاف المعمل خلال خمسة عشر يوماً، إلا أنه من بعد ذلك استدعي آية الله المدني إلى تبريز ليبلغ من قبل إدارة المحافظة بمغادرة آذرشهر.

 وبهذا الشكل، ترك آية الله المدني مسقط رأسه ليعود مع أسرته إلى النجف الأشرف.

 

مع آية الله الكاشاني والشهيد نواب صفوي

دخل آية الله المدني ساحة الجهاد السياسي والاجتماعي منذ أيام شبابه، فكان على علاقة بآية الله الكاشاني. هذه العلاقة كانت إلى حد أنه عندما أراد آية الله المدني السفر إلى تبريز، أبرق آية الله الكاشاني إلى آية الله مهدي أنكجي يأمره بإكرامه عند دخوله تبريز.

وعندما كان الشهيد نواب صفوي في النجف الأشرف يفكر بمقارعة النزعة الكسروية، وعلم آية الله المدني ـ الذي كان من أساتذة الحوزة في النجف ـ أن نواب صفوي لا يملك ما يقوم به بهذه المهمة، باع كتبه وأعطى المال لنواب صفوي بحيث يقول أصحابه: السلاح الذي اشتراه نواب كان بثمن الكتب التي باعها الشهيد آية الله المدني.

 

جهاده في النجف الأشرف

لم يغفل آية الله المدني وهو يمارس نشاطه العلمي في الحوزة العلمية في النجف، لحظه واحدة عن النشاط السياسي، وكان دوماً الرائد في القضايا السياسية الجهادية ضد نظام الطاغوت في ايران.

فعلى عهد جمال عبد الناصر، سافر على رأس وفد من علماء وفضلاء النجف إلى مصر للكشف عن طبيعة نظام الطاغوت الجائر في إيران.

وعندما قيل أن آل السعود سيطروا على الحجاز، جمع الطلاب وقال: يجب أن ننطلق من النجف لمحاربة آل سعود. كان آية الله المدني يفكر بضرورة وجود حرب عصابات في الحجاز، إلا أنه لكثرة نشاطه وفاعليته أصيب بنزيف في البلعوم والصدر وأصبح طريح الفراش.

وعلى عهد عبد الكريم قاسم ـ حاكم العراق آنذاك ـ خرج آية الله المدني يرتدي الكفن بين الناس لأنه كان يعتقد أنه إذا لم يتمكن من تحريك الكاظمية وبغداد والنجف، فيموت بلبس لباس الموت لعله يوجد بذلك حركة ويبعث على التحرك، لأن الحكومة العراقية كانت تواجه الإسلام من خلال نشرها للفكر الماركسي.

وفي العام 1342هـ ش [1963م] بدأ الشعب الإيراني المسلم حركته الكبرى بقيادة الإمام الخميني للإطاحة بنظام الشاه، فكان آية الله المدني أول من لبي نداء الإمام "هل من ناصر ينصرني" في النجف، إذ عطل دروسه وأقام مجالس الخطابة للكشف عن الوجه الكريه للنظام البهلوي الغاشم. فكان على ذلك العهد في النجف رائد الدفاع والدعم لحركة الإمام الخميني، وكان يوضح للطلاب وقائع الأحداث في إيران.

يُنقل عن الشهيد أنه قال: جمعت العلماء في مسجد الهندي، جاء المرحوم آية الله الشاهرودي وآية الله الخوئي وغيرهم، فتحدثت إليهم أن استنقذوا الإسلام، ورجوت العلماء، فبكيت هناك وبكى العلماء. ويقول أيضاً: سمعت باعتقال الإمام، فذهبت مع مجموعة من الطلاب للقاء آية الله الحكيم رضوان الله تعالى عليه، فلم يكن في النجف، ذهبت إليه إلى كربلاء، قبلت يده وقلت: سيدي، اليوم السيد الخميني يمثل رمزاً للإسلام. فقال: حسناً، أفعل كل ما تقول. قلت: تدخل في الأمر. فبعث مباشرة ببرقية إلى الشاه.

ومنذ نفي الإمام إلى النجف، كان آية الله المدني دوماً رفيق الإمام ونصيره الذي وقف يحارب الظلم والظالمين إلى جانب مقتداه. فمن المعروف أنه كلما لم يكن باستطاعة الإمام الحضور لإقامة صلاة الجماعة، كان آية الله المدني يقيمها مكانه.

 

أسفار الدعوة والتبليغ

عندما كان آية الله المدني يقيم في النجف، كان يأتي باستمرار إلى إيران في العطلة الدراسية الصيفية للدعوة والتبليغ في شتى المدن. وكانت محاربة الفساد في المجتمع ومعالم الطاغوت هي إحدى أكبر مهامه. فإلى أي ديار كان يسافر أو ينفى يجعل هذه الحرب على رأس قائمة أعماله ونشاطاته وتحركاته.

 

همدان من 1341 إلى 1351هـ ش

بدأ آية الله المدني حركته التبليغية من همدان ومن قرية "درة مراد بيك" بشكل خاص من أجل التبليغ وتنفيذ برامجه الإصلاحية، حيث يقول هو في هذا الصدد:

"رأيت أنه يجب عليّ أن أحرك همدان وأبدأ العمل من إحدى القرى ليرى الناس ويرغبوا في الأمر".

فأعطى أمراً بمنع دخول النساء من دون حجاب إسلامي. كما منع بيع المشروبات الكحولية ليجعل من دره مراد بيك قرية نموذجية. فأدى عمله هذا إلى رغبة أهالي همدان فيه، فاجتمعوا إليه ودعوه إلى همدان، لينتقل إليها ويأخذ بتوسيع نشاطه هناك.

وكان آية الله المدني في سفراته إلى همدان يبقى على اتصال بقائد مسيرة الجهاد الإسلامي ليؤدي دوره الحساس بشكل كامل على مدى مراحل الحركة. كما كان يعمل على توعية الناس حول مخططات النظام الطاغي ويدعوهم في كلماته للتحرك والنهضة.

في عام 1341هـ ش، عندما أراد نظام الشاه من خلال إعلامه المكثف أن يقوم باستفتاء حول ما سمي بالثورة البيضاء، ألقى آية الله المدني بتاريخ 9/9/1341هـ ش في المسجد الجامع بهمدان خطبة شديدة ضد انتخابات لجان المحافظات والمدن منبهاً الناس على عواقبها الوخيمة. فقال في هذه الخطبة: "أيها الناس إلى أي حد أنتم لا تشعرون! إذا لم تلغ هذه الانتخابات فإنكم محاسبون يوم القيامة، يجب عليكم التعاون مع علماء قم ودعم السادة العلماء".

هذه النشاطات التي قام بها آية الله المدني في همدان دفعت الساواك في منطقته إلى إرسال كتاب بتاريخ 8/9/1341هـ ش إلى المديرية العامة للساواك تطالب بمنعه من دخول إيران مرة أخرى بعد عودته إلى النجف. إلا أن المديرية العامة للساواك لم توافق على ذلك لعدم وجود رخصه بمنعه من الدخول، ولكنها أعطت أمراً بمراقبة كل تحركاته. ولذلك أخذ رجال الساواك يشددون الرقابة على الشهيد المدني بحيث كانت ترسل تقارير دقيقة إلى المديرية العامة عن تاريخ دخوله وخروجه بين إيران والعراق، وسفره إلى مختلف مدن إيران، وخطبه ولقاءاته، ووسائط النقل التي يستخدمها، وموضع خروجه من الحدود وغير ذلك. وبعد انتفاضة 15خرداد ونفي الإمام، صعد آية الله المدني من جهاده، فكان يعمل على توعية الناس وتنبيههم في شتى المناسبات من خلال طرح مرجعية السيد الإمام وإلقاء الخطب الثورية التي كان يكشف بها عن ممارسات النظام. كما عمل بالتنسيق مع علماء معروفين في همدان على الإفراج عن العلماء المعتقلين.

وبتنامي نفوذ آية الله المدني بين الناس، أصبح الساواك يواجه أحد أشد أنصار الإمام الخميني، فقام في عام 1346هـ ش بمنع عدد من العلماء عن الخطابة وارتقاء المنبر، كان أحدهم آية الله المدني.

وفي الأجواء البوليسية التي كان يضيق فيها الساواك الخناق على أنصار الإمام ويواجه بكل قوة أي إعلام يصب في صالح المرجعية بحيث كان ذكر اسم الإمام أو اقتناء رسالته العملية يعد جريمة لا تغتفر، في مثل هذه الأجواء كان آية الله المدني يطرح بكل شهامة وشجاعة مرجعية الإمام ويدعو إليه، بحيث يقول الساواك في تقرير بتاريخ 31/5/1349هـ ش: الشخص المذكور (آية الله المدني) يعمل في همدان لصالح [الإمام] الخميني وجعل أكثر من ثلث سكان همدان من مقلدي [الإمام] الخميني، وهو يشيد في كل مجلس ومحفل بـ [الإمام ] الخميني ويعتبره المجتهد الأعلم.

واستمراراً لأسفار الدعوة والتبليغ يقرر آية الله المدني في عام 1351هـ ش الذهاب إلى مسقط رأسه ـ آذرشهرـ ليلقي خطبة هناك يفضح فيها النظام، الأمر الذي دعا الساواك إلى إرسال تقرير مستعجل في هذا الصدد ليأتي أمر من المديرية العامة إلى ساواك تبريز بمراقبته ومنعه من صعود المنبر وإلقاء الخطب.

وإضافة إلى نشاطه الجهادي، كانت لآية الله المدني في همدان خدمات جليلة وآثار باقية، منها مدرسة شعبية باسم المدرسة الدينية في قرية دره مراد بيك، ومدرسة في همدان، ومؤسسة مهدية، وصندوق تعاون الشؤون الاجتماعية وغيرها.

 

عام 1343هـ ش

في 5/4/1343هـ ش يعود آية الله المدني للسكن في مدرسة آخوند، فيأتي الناس والعلماء لزيارته ولقائه.

وفي خريف تلك السنة سافر مرات إلى ملاير واستقبله الناس هناك بحفاوة. وفي ملاير دفع الناس إلى تقديم خدمات دينية كتأسيس ثانوية شعبية دينية.

في 4/9/1343هـ ش عاد آية الله المدني إلى العراق ليرجع في 14/10/1343هـ ش إلى همدان. يقول هوشمند ـ مدير الساواك في همدان ـ في تقرير إلى المديرية العامة: منذ دخوله همدان اجتمع حوله مجموعة من الغوغائيين من أنصار [الإمام] الخميني بصدد شراء بناية مدرسة ثانوية. ويضيف أن المشار أليه يتحدث في المنابر بقضايا مثيرة ومخلة بالنظام والمصلحة العامة. كما يطلب من الشعبة الثانية للساواك عدم منحة رخصة بالخروج.

في ذلك الوقت اعتقل النظام آية الله محيي الدين أنواري، فأبرق آية الله المدني مع مجموعة من علماء همدان إلى آية الله ميرزا أحمد الآشتياني في طهران يطالبونه بالعمل على إطلاق سراحه.

 

عام 1345هـ ش

في تاريخ 8/5/1345هـ ش دخل آية الله المدني همدان قادماً من النجف الأشرف، فتسارع الساواك والشرطة بمجرد دخوله إلى إعلام المديرية العامة بذلك.

وبعد أسبوع قضاه في همدان توجه آية الله المدني إلى طهران. هذا الأمر مذكور في تقارير الساواك ويحكي عن مراقبتهم له. توجه آية الله المدني في تاريخ 21/7/1345هـ ش إلى النجف مرة أخرى.

 

همدان 1346هـ ش

في تاريخ 15/1/1346هـ ش عقد الساواك جلسة أمنية قرر فيها منع بعض علماء الدين في المنطقة من ارتقاء المنبر ومنهم آية الله المدني. وللحيلولة دون أي محاولة يمكن أن يقوم بها علماء الدين ضد النظام في شهري محرم وصفر من تلك السنة، اتخذوا التدابير اللازمة وقرروا في حال ارتقاء هؤلاء العلماء المنبر، ومنهم آية الله المدني، فإنهم سيعتقلون فوراً ويبعث بهم إلى الساواك. كما أمروا بمراقبة علماء الدين الذين ينوون التبليغ للحيلولة دون أي حديث من شأنه المساس بالنظام. وتقرر كذلك معرفة العلماء القادمين من خارج همدان للتبليغ فيها وأخذ تعهدات منهم.

دخل آية الله المدني همدان بتاريخ 18/4/1346هـ ش قادماً من النجف الأشرف، وجاءت مجاميع الناس للقائه. فكان هو يبين للناس في هذه اللقاءات طبيعة الأوضاع في النجف الشرف. يقول الساواك في تقريره بعد ذكر هذه الأمور: السيد أسد الله المدني هو أحد أفراد المعارضة الأشداء ممن يواجه الحكومة بإعلامه بشتى الطرق.

كان آية الله المدني يطرح السيد الإمام في مناسبات مختلفة، ويفضح إلى جانب ذلك نظام الشاه.

وفي سفره هذا جاء معه ببيان الإمام ضد إسرائيل من النجف لينشره في همدان وليتحدث هو بنفسه في مناسبات مختلفة على إسرائيل الغاصبة.

غادر آية الله المدني همدان إلى النجف الشرف في تاريخ 27/7/1346هـ ش. وعند اقتراب شهر رمضان، قام مقدم ـ مدير عام الشعبة الثالثة للساواك ـ بإبلاغ مدير ساواك همدان بمنع آية الله المدني من صعود المنبر.

في تاريخ 10/4/1347هـ ش دخل آية الله المدني همدان مرة أخرى قادماً من النجف، فأرسل الساواك فوراً تقريراً بدخوله ووضعه تحت الرقابة.

فأخذ هو كالعادة بطرح شخصية قائد الأمة الذي يعيش في المنفى بين الناس، وبالكشف عن طبيعة النظام.

 في تاريخ 10/7/1347هـ ش توجه إلى العراق، فأوعز الساواك في العراق بمراقبة أعماله وتحركاته والإبلاغ بها قبل عودته إلى إيران.

في تاريخ 5/5/1348هـ ش عاد من النجف الأشرف إلى همدان، فتحدث منذ جلسته الأولى مع الناس عن أوضاع العراق والنجف، وكشف عن خطط الاستعمار وأهدافه المشتركة في إيران والعراق للنيل من علماء الدين.

وفي تاريخ 5/6/1348هـ ش أصدر مقدم ـ مدير الشعبة الثالثة للساواك ـ أمراً بمراقبة أعماله وتحركاته بكل دقة.

في تاريخ 1/6/1348هـ ش سافر آية الله المدني إلى طهران، حيث يذكر تقرير الساواك التاريخ وساعة التحرك ومحل الإقامة، الأمر الذي يحكي عن شدة مراقبتهم له. وفي 4/7/1348هـ ش عاد من جديد إلى النجف.

 

1351 إلى 1354هـ ش ـ خرم آباد

في أوائل عقد الخمسينات (الإيراني) كانت مدينة خرم آباد تعاني من وجود فراغ واضح لعالم مجاهد يرجع إليه الناس في قضايا الدين والسياسة، ويقود العلماء الثوريين الملتزمين في المنطقة. وقبل ذلك كان آية الله روح الله كمالوند هو الذي تعهد ولسنين طويلة بالزعامة الروحية في المنطقة وبالإشراف على الشؤون الدينية والاجتماعية والسياسية في محافظة لرستان، إلا أنه سارع إلى لقاء ربه وبقي مكانه الرفيع شاغراً لا يشغله أحد. فقامت مجموعة من علماء الدين المعروفين الملتزمين في خرم آباد بدعوة آية الله المدني إلى الانتقال من همدان إلى خرم آباد، فاستجاب لهم وذهب إلى خرم آباد ليبدأ فصلاً جديداً من حياته الجهادية المثيرة.

بدأ آية الله المدني نشاطه في خرم آباد بإلقاء دروس البحث الخارج في حوزة كمالوند العلمية، ثم التزم من بعد مدة شؤون الحوزة بحكم ممن الإمام الخميني (ره).

وبعد مدة قصيرة عيّنه الإمام الراحل (ره) وكيلاً وممثلاً عنه لدى علماء وأهالي خرم آباد، فأخذ هو باستلام الأموال الشرعية، ودفع الرواتب للطلاب، وتقديم المساعدة للمحرومين والمحتاجين، وبناء المؤسسات الخيرية ليخطو بذلك خطوات كبيرة في إصلاح شؤون الناس. كما واصل جهاده في خرم آباد من خلال الدعوة إلى مرجعية الإمام الخميني ونشر كتبه بين الناس، واستطاع استقطاب الشباب المتدين والثوري، ووحد العلماء الملتزمين تحت رايته في المنطقة. وتحولت بذلك المدرسة الكمالية والحسينية الفاطمية ومسجد شاه آباد إلى مراكز جهادية يجتمع فيها المتدينون والثوريون بين الحين والآخر لسماع خطبه ومواعظه، حتى أن خطبه الثورية في الحسينية الفاطمية ومسجد شاه آباد لن تمحى من ذاكرة الملتزمين من أهالي خرم آباد.

وكانت التقارير المستمرة التي يرسلها الساواك إلى طهران عن تحركات ونشاطات آية الله المدني قد أخافت أزلام النظام، الأمر الذي جعل مسؤولي الساواك يصدرون الأمر تلو الآخر بمراقبته ورصد تحركاته.

وخلال العامين 1353 و1354هـ ش حاول مرتزقة النظام الإساءة بدعواتهم المضلة إلى سمعة آية الله المدني من أجل القضاء على شخصيته بين الناس وزلزلة القاعدة الشعبية التي كان يمتلكها، لينهوا بذلك نشاطه وتحركه ويشوّهوا صورته لدى الناس. وكان هذا العمل من الساواك قد تم في جو أعدت أرضياته من قبل مناوئي آية الله المدني ممن اتبع هواه وأعان العدو على أخيه. فقد كانوا يبتغون من خلال توزيع منشورات ضده وتوجيه إهانات إليه، أن يدفعوه إلى مغادرة خرم آباد.

ووثائق الساواك الموجودة في ملف آية الله المدني تحكي عن أن الساواك كان يحاول بلوغ أهدافه هذه من خلال الطرق التالية:

أ ـ بعث رسائل تهديد إلى أنصاره ومن حوله وإيجاد الفرقة بينهم.

ب ـ كتابة وتوزيع رسائل تمس بشخصيته.

ج ـ تكليف أفراد معروفين من رجال الساواك في خرم آباد بالذهاب إلى آية الله المدني وإشاعة خبر ارتباطه بجهاز الساواك.

د ـ بث الفرقة بين علماء الدين في المنطقة، وشحذ الاختلافات الموجودة، وتقوية موقع بعض المتظاهرين بالعلم ممن تزلزل موقعه بقدوم آية الله المدني إلى خرم آباد.

هـ ـ وفي حال عدم جدوى الأساليب المذكورة فالاستدعاء الرسمي والطرد والنفي من المنطقة.

وتحقيقاً للفقرة "ب" المذكورة أعلاه، اختُلق الكثير من الرسائل التي تمس شخصيته لنشرها بين الناس والشخصيات المعروفة حيث توجد نماذج منها في وثائق الساواك. في بعض هذه الرسائل المغلقة يطلب صريحاً من آية الله المدني مغادرة خرم آباد، حيث كان لهذه الرسائل من الوقع المؤلم في نفسه ما جعله يقرر الخروج منها، إلا أن عدم موافقة علماء الدين الملتزمين والثوريين من أهل المنطقة حالت دون ذلك.

وفي إحدى المجالس في مسجد فاطمية، أشار آية الله المدني أثناء كلامه إلى هذا الأمر، فذكر بعضاً من الخدمات التي قدمها خلال سنتين وقال: لقد جئت بطلب من بعض الناس وأردت الذهاب مراراً ولكنهم لم يوافقوا. عند ذلك قام إليه أحد الحاضرين وقال: سيدي، أي شخص أو مسؤول يريد إيذاءك فإنه يتلاعب بأرواحنا. فتأثر بهذا الحديث غيره من الحاضرين. وعلى الرغم من الأجواء التي كان يختلقها مناوئوه ورجال الساواك، إلاّ أنه واصل جهاده ووسّع من حركته وجاهر بها. فقد كان في خطبه ينتقد النظام ويدعو الناس إلى التحرك حيث سنتعرض فيما بعد إلى توضيحات أكثر في هذا الصدد. وفي 7/7/1352هـ ش أرسلت المديرية العامة للساواك كتاباً إلى ساواك همدان تأمر فيه برصد اتصالاته بالعناصر المعارضة للنظام.

في هذا الحين، كان هو يوزع كتب الإمام كتوضيح المسائل وتحرير الوسيلة في خرم آباد، ويدعو إلى مرجعية الإمام في مختلف المناسبات على الرغم من الجو الخانق آنذاك. كما كان في كل فرصة يجدها يدعو الناس وبأشكال مختلفة إلى التنبّه واليقظة، ويفتح عيونهم على مفاسد النظام، ويكشف عن خطط الاستعمار والنظام البغيضة، ويعرف الناس بقائدهم الواقعي، ويرفع الستار عن الوجه القذر للشاه. وكان إلى جانب إدارة الحوزة العلمية وصندوق القرض الحسن الرضوي، يعمل على تأسيس مستشفى لمساعدة الفقراء والمحرومين ممن لا معيل لهم بما فيهم عوائل السجناء.

وكان الساواك إلى جانب مراقبته الشديدة له، يعمل بشتى الوسائل على زرع العراقيل في طريقه غير متردد لأجل ذلك في استخدام الشائعات والتهم والافتراءات.

 

رسائل غامضة

وكلما مرت الأيام على آية الله المدني في خرم آباد، كانت قاعدته الشعبية تأخذ بالاتساع، ويتجلى دور هذا العالم الرباني في توعية الناس أكثر فأكثر. كان الثوريون والشباب المؤمنون قد اجتمعوا حوله وراح محبوه يتزايدون يوماً بعد آخر. فأدى هذا النفوذ المتزايد لآية الله المدني إلى فزع الساواك وأهل الدنيا من مخالفيه، وأخذوا يفكرون بطريق لمواجهته وإبطال مشاريعه وخططه.

فجاءت هذه الرسائل من عام 52 إلى عام 1354هـ ش، وتصاعدت لهجتها بالتدريج.

محتوى هذه الرسائل ملؤه التهم البذيئة والتهديدات التي يجل القلم عن ذكرها، إلا أن بعض محاور هذه الرسائل الغامضة هو بالشكل التالي:

أ ـ طلب خروجه من خرم آباد.

ب ـ اتهامه بشراء دار له من الأموال الشرعية وسهم الإمام.

ج ـ اتهامه بالتعاون مع السلطة بدليل أن نظام الشاه لم يفعل له شيئاً على الرغم من كل اعتراضاته، ولم يلق عليه القبض.

د ـ دعوة الناس إلى إخراجه من خرم آباد.

هـ ـ شتى الافتراءات والتهم غير الأخلاقية.

وكان رد فعل الناس قبال هذه الرسائل الغامضة متفاوتاً كما تستشف من الوثائق المتوفرة:

1 ـ فبعض البسطاء صدقوا تلك الرسائل بالتدريج إلى حد يبدي فيه الساواك ارتياحه من تزلزل موقعية آية الله المدني ويخطط لمواصلة العمل بها.

2 ـ وبعضهم يبقى في حيرة وتردد ولا ينبس ببنت شفة لنصرة الحق.

3 ـ ومجموعة من الواعين وأصحاب الضمائر الحية تتنبه إلى هدف هذه الرسائل ومن يكمن خلفها لتعتبر الساواك وبعض من يعارض بقاء آية الله المدني في المنطقة هو المدبر لها. فيقوم هؤلاء لمواجهة هذا التحرك الغامض، ويبدو أسفهم على تأثر آية الله المدني بهذه الرسائل وعزمه على الخروج من خرم آباد، ويحولوا دون ذلك، مؤكدين دعمهم وولاءهم له، وآخذين بفضح هذه المؤامرات والدسائس التي تمت من وراء الكواليس، حيث شكل أغلب هؤلاء فئات من الشباب والطلاب والشخصيات المعتمدة في المنطقة.

 

عام 1354هـ ش

وعلى الرغم من كل معارضة الساواك، واصل آية الله المدني رسالته في خرم آباد، فلم يتخل عن مسؤوليته الثقيلة في إدارة الحوزة العلمية وتوعية الناس وإرشادهم فحسب، بل وأخذ يصعد من نشاطه ويجاهر بجهاده حتى أنجز مهمته كعالم واع وفقيه مجاهد على أفضل وجه.

تتحدث وثائق الساواك عن أن آية الله المدني في هذه المرحلة كان يوجه سهامه إلى الحكومة والشاه. فمن أحاديثه في مناسبات مختلفة يشار إلى كلمة له بتاريخ 23/3/1354هـ ش هاجم فيها حزب رستاخيز (البعث)، وقام بدعوة الناس إلى الثورة قائلاً: كل من يقر فتح مكتب هذا الحزب، فإنه سيكون شريكاً في جميع الجرائم والاعتداءات التي ترتكب في هذا البلد.

كما قام بدفع الناس إلى الجهاد في خطبة له بتاريخ 11/4/1354هـ ش في الذكرى الثانية عشرة لانتفاضة 15 خرداد.

 وبعد انتفاضة طلاب المدرسة الفيضية في قم عام 1354هـ ش والهجوم الغاشم لأفراد النظام على المدرسة ودار الشفاء وضربهم واعتقالهم للطلاب، قام آية الله المدني في خطبه بإخبار الناس عن مجريات أحداث قم، وقرر عدم الذهاب إلى صلاة الجماعة تضامناً مع علماء قم، كما أبلغ علماء المنطقة بعدم الذهاب إلى المساجد.

وفي تاريخ 21/3/1354هـ ش أشار إلى أحداث المدرسة الفيضية في قم، وقال إن ما تذكره الصحف ليس له واقع، وإن جميع أئمة الجماعة في قم امتنعوا عن الذهاب إلى صلاة الجماعة بسبب هذه الحادثة المؤلمة.

وفي 15/7/1354هـ ش صرح بأن أعوان إسرائيل هم أولئك الذين يقدمون المساعدة لها بأي نحو من الأنحاء. وفي معرض حديثه عن إحدى فتاوى الإمام الخميني، طلب من الناس الدعاء للإمام معتبراً نفيه عملاً مخالفاً للدين.

وفي 21/4/1354هـ ش وجه "ثابتي" أمراً إلى كل مراكز الساواك بتحديد هوية الوكلاء الرسميين للإمام وتوقيفهم ليحقق معهم عن الأشخاص الذين يستلمون منهم المال وكيف ينفقونه أو يرسلونه إلى النجف، كما تتم معرفة طبيعة عملهم ونشاطاتهم.

وعلى أثر ذلك قام الساواك في خرم آباد في تاريخ 3/4/1354 و 5/4/1354 و 25/4/1354هـ ش بإرسال المعلومات المطلوبة عن آية الله المدني إلى المديرية العامة للساواك.

في تاريخ 23/4/1354هـ ش أصدرت المديرية العامة للشعبة الثالثة للساواك بلاغاً بالعمل بالفقرة الأولى من الاقتراحات (توزيع رسائل إهانة وتشديد الاختلافات) لمدة ثلاثة أشهر.

وفي يوم عيد الفطر، اجتمع عدد كبير من المصلين في مسجد شاه آباد في خرم آباد لأداء صلاة الظهر. وقبل الصلاة، قال آية الله المدني: ليتنح مقلدو آية الله إلى جانب واحد. فأخذ مجموعة من الحاضرين جانب مقلدي آية الله الخميني. بعد ذلك دعا أثناء الخطبة للإمام بطول العمر، ثم ذكر فتواه في خصوص زكاة الفطرة. انتهت الصلاة من دون أي مشكلة، وعاد آية الله المدني إلى داره يصحبه بعض المصلين والمحبين دعماً له كي لا يعود إلى همدان. وفي ذلك المجلس تم جمع مليون تومان لتجديد بناء مسجد سلطان. فكانت حادثة عيد الفطر هذه قد شكلت خطراً جدياً بالنسبة للنظام وأفزعت أزلام الشاه.

فقد أدركوا أن موقع آية الله المدني لم يعد يتزلزل وأن محاولاتهم السابقة قد باءت بالفشل، ولذلك أبرقوا بالحادثة إلى المديرية العامة للساواك. فكتب "ثابتي" إلى جانب هذا التقرير جملة قصيرة: "ينفى". فأرسل الساواك فوراً من قبل "ثابتي" إلى خرم آباد بلاغاً بتشكيل لجنة أمنية اجتماعية تدرس وضعيته لينفى لمدة أقصاها ثلاث سنوات إلى نور آباد ممسني في محافظة فارس ويتم إبلاغ النتيجة.

وفي تاريخ 16/7/1354هـ ش جاءت برقية من مديرية الساواك في محافظة لرستان تطالب بنتيجة المقررات السابقة، فجاء جواب البرقية بتاريخ 20/7/1354هـ ش ليدرس محاولات التضعيف، ويذكر أموراً أخرى من قبيل الطرق الممكنة في التعامل مع آية الله المدني، ونفيه، و مواجهة الحوادث المحتملة وما يمكن أن يقوم به أنصاره فيما بعد.

ومن ذلك ما جاء في الفقرة الثانية للحيلولة دون أي تحرك من أنصاره الذين يشكلون فئة ذات نفوذ وكبيرة نسبياً، وذلك باستدعاء خمسة من المؤثرين منهم بحظور المحافظ وتحذيرهم من مغبة الأمر. فكتب برويز ثابتي في تاريخ 22/7/1354هـ ش في الجواب: يتم العمل بالفقرة الثانية. وعلى أثر هذه المراسلات، شكلت لجنة أمنية اجتماعية لمحافظة لرستان بحضور المحافظ ورئيس العدلية وقائد اللواء 84 ومدير ساواك المحافظة وقائد قوات الدرك هناك ومدير الشرطة ورئيس المحكمة العسكرية ليقروا محضر جلستهم بالشكل التالي:

"عملاً بالكتاب المرقم 3045/515 ـ 19/7/54 الصادر من ساواك محافظة لرستان إلى إدارة محافظة لرستان في تشكيل لجنة أمنية اجتماعية حول النشاطات الإعلامية للسيد مير أسد الله المدني دهخوارقاني التي لصالح [الإمام] الخميني والإثارات العلنية للشخص المذكور، فقد شكلت اللجنة أعلاه في الساعة 00: 18 من يوم 27/7/54 في مكتب قائمقامية خرم آباد، وتقرر حكم المشار إليه بالإقامة الجبرية مدة ثلاث سنوات في نور آباد ممسني في محافظة فارس.

كما قررت هذه الجلسة كيفية اعتقاله ونفيه، وطريقة أخذ تعهد من خمسة أشخاص من أنصاره، وكذلك التدابير الأمنية اللازم اتخاذها في المدينة من قبل الشرطة وفي السيطرات من قبل قوات الدرك، وأصدروا أمراً بالشكل التالي:

"ستمنع أي تظاهرة وتجمع وتوزيع منشورات وخطب استفزازية. ولذلك توضع سرية مجهزة من اللواء 84 تحت إمرة الشرطة ليستعان بها عند الحاجة".

 

عملية الاعتقال

بعد إصدار حكم النفي، بدأ العمل على اعتقال آية الله المدني لنفيه، فأخذ رجال الساواك أولاً بإعداد تقرير دقيق مفصل عن عمله اليومي (وقت خروجه، الأماكن التي يرتادها، وغير ذلك) لتبلغ إلى مدير ساواك همدان.

فأصدر هو الأوامر الأمنية المطلوبة واتخذ التدابير الأمنية اللازمة للحيلولة دون التحركات المحتملة. وفي الصباح الباكر من يوم 27/7/1354هـ ش عند الساعة الرابعة والنصف استقرت قوات الساواك حول دار آية الله المدني وأخذت بمراقبته. وكان هناك خمس سيارات للشرطة تقوم بمراقبة المنطقة. في الساعة السادسة إلا خمس دقائق، وعلى خلاف ما كان يتوقعه الساواك، لم يخرج آية الله المدني لصلاة الصبح كما هو معتاد، فباشر رجال الساواك المهمة بأنفسهم فهاجموا داره واعتقلوه وأخرجوه سريعاً من خرم آباد في الساعة السادسة والربع بصحبة أربع سيارات.

كانت خشونة الساواك وهلعهم من اطلاع الناس قد بلغ حداً بحيث لم يسمحوا معه لآية الله المدني بأخذ عباءته. كما وضعوا في الطريق أشرطة الموسيقى إيذاءً له.

 

إجراءات الساواك بعد الاعتقال والنفي

بعد اعتقال ونفي آية الله المدني، قام الساواك بالإجراءات التالية:

أ ـ إيجاد جو بوليسي داخل المدينة ورقابة شاملة.

ب ـ تعبئة أفراد الساواك في كل مراكز المدينة لجمع المعلومات ومراقبة تحركات الناس.

ج ـ إعلام قوات الشرطة برد فعل الناس والتحركات المحتملة لأنصار آية الله المدني وتوجيهها إلى المراكز والأماكن الحساسة كالمدارس وبعض المساجد للحيلولة دون توزيع أي منشور أو كتابة شعار أو تحركات جماعية ولاسيما في الليل حيث وضعت لذلك سرية مجهزة من المشاة تحت إمرة الشرطة.

د ـ استدعاء خمسة أشخاص من أنصار آية الله المدني ليؤخذ منهم تعهد بعدم القيام بأي تحرك.

هـ ـ اتخذت تدابير لإلقاء القبض على أنصار آية الله المدني في حال تحركهم، واعتقل بعضهم على أثر ذلك.

و ـ يبعث مدير ساواك لرستان تقريراً سريعاً عن قضية النفي وما يتعلق بها إلى ثابتي المدير العام للشعبة الثالثة للساواك 313، ويقوم بإصدار الأوامر اللازمة.

ز ـ المدير العام للشعبة الثالثة 313 (ثابتي) يبلغ فوراً ساواك شيراز بقضية نفي آية الله المدني إلى نور آباد ويعطي أمراً بمراقبته ورصد أي اتصال يقوم به مع الآخرين.

ح ـ يرسل مدير ساواك خرم آباد كتاباً إلى قائد قوات الدرك في منطقة لرستان ليعلمه بالموضوع ويطلب منه اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون أي اضطرابات وتحركات محتملة.

 

موقف الناس

أ ـ تخبر زوجة آية الله المدني أحد الجيران باعتقاله ليقوم الجار بنشره في المدينة.

ب ـ يأخذ الناس بالحديث في الأسواق والشوارع عما جرى.

ج ـ يجتمع الطلاب في صحن المدرسة الكمالية ليتداولوا الأمر ويدلوا بتصريحات ضد الحكومة.

د ـ يقوم بعض أنصار آية الله المدني عند الغروب في مسجد شاه آباد بإطفاء بعض المصابيح إبداءً للحزن والأسى.

هـ ـ يعطل عدد من علماء الدين في المدينة صلاة الجماعة اعتراضاً على ما حدث.

و ـ تهرع بعد أيام من نفي آية الله المدني فئات مختلفة من الجماهير الثورية في خرم آباد للقائه على الرغم من المراقبة المكثفة للساواك، لتحفظ بذلك اتصالها به.

وفي كتاب لثابتي في تاريخ 10/8/1354هـ ش إلى ساواك شيراز، يمنع به لقاء الناس بآية الله المدني. كما يتم إبلاغ جلاوزة النظام في خرم آباد بالتضييق على من قدم مساعدة مالية إلى أسرة آية الله المدني وعلى غيرهم من أنصاره، وليبلغوا بأنهم إذا استمروا على هذه الحالة فإنه ستتخذ بحقهم قرارات أشد.

على أثر تعطيل بعض العلماء في خرم آباد لصلاة الجماعة، صدر أمر من في تاريخ 20/8/1354هـ ش من المديرية العامة إلى ساواك خرم آباد بنفي هؤلاء الأفراد في حال قيامهم بتحركات أخرى.

وبعد إصدار وتنفيذ حكم نفي آية الله المدني، تم إبلاغه ـ للتغطية ـ بإمكان الاعتراض على حكم اللجنة، فقام هو بعد ذلك بالاعتراض على الحكم، وعقدت محكمة للنظام بتاريخ 29/9/1354هـ ش جلسة أيّدت فيها حكم اللجنة الأمنية بالنفي بتهمة الإخلال بالأمن.

 

نور آباد ممسني عام 1354هـ ش

واصل آية الله المدني جهاده حتى في منفاه، إذ حافظ على اتصاله بالثوريين من أهالي خرم آباد وكان يدعوهم إلى مواصلة الجهاد. فكان يوصي من يأتي لزيارته إلى خرم آباد:

"حافظوا على المساجد والحوزة العلمية. ربّوا مجتهدين. سلاحكم الدعوة والتبليغ. التبليغ مقابل الظلمة أمضى من القنبلة الذرية".

وفي أواخر عام 1354هـ ش منع آية الله المدني من الخروج من البلاد. فقد أعلن ثابتي في كتاب عن منع واحد وستين من علماء الدين عن الخروج، وكان آية الله المدني أحدهم.

لقد جعل آية الله المدني نور آباد مقراً لمقاومة النظام بحيث كان يأتيه الناس من مختلف المناطق كشيراز وكازرون وغيرها من مدن محافظة فارس ولرستان ـ القريبة منها والبعيدة ـ ليتلقوا عنه رسالة الثورة والجهاد. فهلع الساواك من هذا الموقع الجديد الذي أصبح لآية الله المدني في نور آباد، وأعطى أمراً بمنع لقائه بالناس في منفاه أيضاً، إلا أنهم لم يصلوا إلى نتيجة بقرارهم هذا أيضاً. ولذلك قرروا في نهاية العام الثاني تغيير منفاه إلى گنبد كاووس في شمال إيران.

وفي تاريخ 11/4/1356هـ ش وصل أمر إلى مديرية ساواك لرستان أنه بالنظر إلى فعالياته الأخيرة في تشجيع الناس على جمع الأموال لتأسيس مصرف إسلامي وكذلك للمضايقات التي سببتها توجيهاته للعوائل البهائية، تقرر تغيير محل إقامته الجبرية إلى گنبد كاووس.

في تاريخ 29/4/1356هـ ش عقدت اللجنة الأمنية الاجتماعية في لرستان جلسة لتغيير منفى آية الله المدني من نور آباد ممسني إلى مدينة گنبد كاووس. وعلى أثر ذلك، قام بعض أفراد الحكومة في تاريخ 17/5/1356هـ ش بنقله موقوفاً إلى گنبد كاووس. بعد ذلك كتب ثابتي إلى مدير ساواك مازندران: المشار إليه أحد علماء الدين المتطرفين من أنصار[الإمام] الخميني في محافظة لرستان. وبعد إعطاء تقرير عن سوابقه، طلب من ساواك مازندران مراقبته عند دخوله إلى المنطقة.

 

گنبد كاووس عام 1356هـ ش

و بمجرد دخول آية الله المدني قضاء گنبد كاووس، صدر كتاب من مديرية ساواك محافظة مازندران إلى ساواك گنبد كاووس يعرف آية الله المدني كأحد علماء الدين المتطرفين ويأمر بالمراقبة الدقيقة له.

ومن بداية دخول آية الله المدني إلى القضاء، استقطب علماء الدين في المنطقة ليجعل المدرسة المنظرية والمسجد الجامع مقراً لجهاده. فلم يلبث طويلاً حتى أحس أزلام النظام في گنبد كاووس أيضاً بالخطر من وجود آية الله المدني، فلم يروا في نفيه إلى هذه المدينة الحدودية عملاً مناسباً، وطلبوا من المديرية العامة للساواك العمل على تغيير منفاه. وعلى أثر ذلك عقدت اللجنة الأمنية الاجتماعية لخرم آباد هذه المرة جلسة في تاريخ 28/3/1357هـ ش لتغيير منفاه من گنبد كاووس إلى بندر گنكان في محافظة بوشهر جنوبي إيران.

 

بندر گنكان عام 1357هـ ش

لم تستمر إقامة آية الله المدني في بندر گنكان أكثر من ثلاثة أسابيع، ولكن أينما وضع هذا الرجل قدمه وضع معها روح الثورة والمقاومة. فهو مثال التقوى، ومنادي الثورة، وحامل رسالة الوعي والحركة، ومبلغ الإسلام الأصيل. ولذلك كانت إقامته القصيرة في بندر كنگان قد تركت أثراً طيباً في أهل هذه المدينة أيضاً.

ففي بندر كنگان، كان يعمل نهاراً في تدريس وتفسير القرآن ويقيم صلاة الجماعة ظهراً في المسجد الجامع وليلاً في مسجد "كوزه گري" من هذه المدينة.

وخلال هذه الفترة، جاء بعض أهالي شيراز وكازرون للقائه، كما دعاه أهل منطقة "ديّر" وأخذوه إلى بلدتهم بكل إصرار ورغبة. وعند دخوله "ديّر" استقبل بحفاوة كبيرة، فقد عطلت المحلات وأقيم اجتماع في مدرسة البلدة وألقيت القصائد في مدح الإمام الخميني عند دخوله ذلك المحفل الكبير.

ولأن بندر كنگان تعتبر أحد المناطق التي يشملها النفي، ونظراً لإصابة آية الله المدني بمرض يحتمل أن يكون سلاً، عقدت اللجنة الأمنية الاجتماعية لخرم آباد جلسة ليتغير منفى آية الله المدني إلى قضاء مهاباد في محافظة كردستان.

 

مهاباد عام 1357هـ ش

بعد تغيير منفى آية الله المدني إلى مهاباد، تحرك برفقة أحد أفراد درك بوشهر وعن طريق خرم آباد، بروجرد، همدان، كرمانشاه وسنندج إلى مهاباد.

وفي الطريق كسب آية الله المدني بأخلاقه الحسنة رجل الدرك الذي كان يرافقه، فاسترخصه للذهاب إلى خرم آباد لكي يتصل بعلماء المنطقة.

وهو على الطريق، علم الساواك أن الجماهير المؤمنة والثورية في المدن التي يمر بها ـ ومنها خرم آباد وهمدان ـ قررت الترحيب به ويحتمل تظاهرها أيضاً، ولاسيما في مدينة همدان التي تزامن دخول آية الله المدني أليها مع تشييع جنازة الآخوند ملا علي الهمداني. ولهذا وصل أمر مستعجل بتغيير مسير حركته ليذهب إلى مهاباد عن طريق پل دختر وكرمانشاه وسنندج.

آية الله المدني هذا الفقيه المجاهد الذي حمل مشعل الجهاد منذ شبابه، وواجه الطغاة بشجاعة وإخلاص لا نظير له أينما حل من النجف إلى كربلاء إلى آذرشهر إلى همدان إلى خرم آباد ونور آباد، وكسر بندائه السكوت القاتل الذي فرضه استبداد الشاه، فكان لسانه سيفاً صارماً يشهره على رؤوس العتاة والظلمة. وحيثما وضع قدماً جاء معه بنداء اليقظة وبذر بذور الثورة وألقى برسالة القائد على أسماع الجميع ليدعوهم إلى القيام والثورة. هذا الرجل يضع رحله هذه المرة في أرض أخرى على أعتاب انتصار الثورة الإسلامية، في منطقة عانت الأمرّين من ظلم واستبداد النظام وعناصره في المنطقة كعز الدين الحسيني والإقطاعيين والخونة.

وفي هذه الرحلة يضع آية الله المدني منذ دخوله البلدة قاعدة جهادية جديدة، وتلك شعار الوحدة بين السنة والشيعة ليبث فيهما روح الوعي واليقظة ويدعوهما للوقوف صفاً واحداً.

كان جهاده في فضح سياسات النظام وعناصره ـ كعز الدين الحسيني المعين رسمياً من قبل النظام ـ قد أدى إلى تحرك بعض الشباب إلى دار عز الدين ليكسروا زجاجها اعتراضاً عليه.

والجدير بالذكر هنا أن مدة نفي آية الله المدني بحسب رأيه تنتهي في 6/7/1357هـ ش إلا أن بقي في مهاباد إلى 14/7/1357هـ ش.

تحركات آية الله المدني في مهاباد دعت الساواك مرة أخرى للتفكير بحل. فأصدر ثابتي في تاريخ 8/7/1357هـ ش أمراً إلى ساواك خرم آباد بنقله إلى طهران لإكمال بقية المدة.

فشكل ساواك خرم آباد لجنة اجتماعية لإصدار رأي بحسب ما أمر به ثابتي، إلا أنه قبل تنفيذ الحكم وقبل أقل من أسبوعين من انتهاء مدة نفيه غادر هو مهاباد إلى قم.

 وأخيراً، بعد انتهاء مدة النفي، توجه آية الله المدني إلى مدينة تبريز بطلب من أهلها ليعاود جهاده الذي لا هوادة فيه ضد نظام الشاه إلى جانب الشعب الإيراني المسلم.

 

تبريز في خريف عام 1357هـ ش

في أيام نفي آية الله المدني في مهاباد، قرر بعض المؤمنين الثوريين ومنهم آية الله القاضي الطباطبائي دعوته إلى تبريز. فعلم ساواك تبريز بالأمر ليرسل تقريراً سريعاً إلى ساواك طهران معلناً به عن خطورة ذلك. جاء في تقرير ساواك تبريز:

"المذكور أعلاه ( آية الله المدني) من الوعاظ المتطرفين، وقد نفي من همدان إلى مهاباد بسبب تأييده [للإمام] الخميني وتصريحه بأمور تخالف مصالح البلاد، وقد انتهت أخيراً مدة نفيه. السيد ميرزا محمد علي القاضي الطباطبائي والسيد مير حسن أنكجي أرسلا إلى الشخص المذكور رسالة عن طريق عبد الحميد بنابي [باقري] أحد علماء تبريز يطلبون منه الإقامة في تبريز".

ويضيف الساواك في معرض تحليله أن مجيئه إلى تبريز غير صالح على الإطلاق ويؤدي إلى بلابل في المدينة.

وقبل قيام الساواك بأي إجراء، دخل آية الله المدني تبريز ليواصل جهاده ضد نظام الشاه الجائر إلى جانب أول شهداء المحراب آية الله القاضي الطباطبائي وبقية العلماء المجاهدين في تبريز. فقد تحول مسجد شهيدي وداره إلى مقر للمؤمنين الثوريين في تبريز كما جاء في تقرير الساواك: في أول جلسة له في داره، قدّم درساً في مجاهدة الأعداء أي في الثبات والاستقامة.

وفي تلك الأيام، قام آية الله المدني بإلقاء كلمة في مدرسة ولي العصر (عج) في تبريز في اجتماع لطلابها ومسؤوليها، قال فيه: يجب أن نعدّ السلاح ونقاتل الأعداء.

كما سافر آية الله المدني إلى مسقط رأسه آذرشهر ليحضر حفلاً تأبينياً لشهداء اليوم التاسع من آبان (الشهر الثامن الإيراني) في آذرشهر، حيث حضر ذلك الحفل مجموعة من الثوريين في مهاباد جاءوا لمواساته.

كانت النشاطات الثورية للشهيد المدني تزداد علنيتها يوماً بعد آخر. فأبرقت المديرية العامة للساواك إلى تبريز بأنه إذا بقي المشار إليه في تبريز فإنه يجب إلقاء القبض علية عند أول عمل تحريضي يقوم به.

وهكذا لم يتحمل الساواك وجوده في تبريز. فقام بعد خطابه اللهيب ضد نظام الشاه بإلقاء القبض عليه ليلاً وأخرج من تبريز.

 

عودته إلى همدان في عام 1357هـ ش

في تاريخ 1/10/1357هـ ش دخل آية الله المدني همدان باستقبال حار من الناس. وكان ذهابه إلى همدان بدعوة من علمائها وأهلها ليقوم مقام المرحوم الآخوند ملا علي المعصومي الهمداني، وكذلك بهدف قيادة أهل همدان في جهادهم وتنسيق نشاط العلماء الملتزمين هناك. ولما كان لآية الله المدني سجل حافل في همدان من عام 41 إلى عام 1350هـ ش، وبالنظر إلى تصاعد جهاد الشعب الإيراني في إحقاق حقه، امتاز قدوم آية الله المدني إلى هذه المدينة بأهمية كبرى بحيث اجتمع الناس بمختلف طبقاتهم قبل ساعات من قدومه مقابل المسجد الجامع ثم تحركوا باتجاه بوابة "ملاير" من أجل استقباله.

ومنذ دخوله همدان، أخذ آية الله المدني بقيادة الناس في جهادهم وإقامة علاقات مع مختلف فئات الشعب. والجدير بالذكر أن هذه النشاطات والتحركات مسجلة لحظة بلحظة في تقارير الساواك إلى الساعة التي انهار فيها.

وكان دوره في توجيه جهاد أهل همدان قد بلغ حداً بحيث لما أرادت الفرقة المدرعة 81 التحرك في 22 بهمن يوم انتصار الثورة إلى طهران لقمع الناس، تحرك أهالي همدان بأمره لسد الطريق بوجه الدبابات، فوقفوا بأيد عارية يرتدون الأكفان في مقابل الدبابات، وكان آية الله المدني نفسه أمام المتظاهرين جميعاً، حتى نجحوا في إيقاف الدبابات بتقديم عدد من الشهداء والجرحى.

 

بعد انتصار الثورة الإسلامية

وبعد بلوغ ثورة الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني ثمارها، بدأ هذا النصير القديم للإمام ومقاتل الثورة الذي لم يعرف الكلل ولم يضع راية الجهاد لحظة على الأرض وتنقّل من منفى إلى منفى ومن خندق جهاد إلى آخر يتقدم صفوف المجاهدين حتى بلغ أوج فاعليته عند انتصار الثورة، بدأ من حينها فصلاً جديداً من جهاده في حراسة الثورة الإسلامية المباركة.

الآن وقد انتصرت الثورة، بدا أن حراستها أصعب من الانتصار نفسه، فمؤامرات الاستكبار تتوالى للإطاحة بها، وعلى أنصار الإمام ورواد الثورة أن يبدأوا فصلاً جديداً من النضال يصونون به الثورة ويثبتون به الحكم الإسلامي.

فكان آية الله المدني في زمرة من اصطف لمواجهة عملاء الاستكبار وعناصره كجندي مستعد ومحارب مقدام يسارع إلى أي خندق يتطلب وجوده وفداءه بإشارة من الإمام.

وفي انتخابات مجلس خبراء الدستور، انتخب آية الله المدني نائباً عن مدينة همدان، ثم عيّنه الإمام إماماً للجمعة فيها بصلاحيات مطلقة إبان اختلال الأوضاع هناك.

وعندما شمر الوصوليون والقوميون والمنافقون عن سواعدهم لإفناء الثورة وتحريفها، وأخذوا بافتعال المؤامرات التي أوجعت قلب الأمة الإسلامية والإمام العزيز، أخذ آية الله المدني يضاعف جهوده في الكشف عن طبيعة الليبراليين والمنافقين ومواجهتهم. فكان البيان المشترك لآية الله المدني وبقية أنصار الإمام (الشهيد الصدوقي، الشهيد أشرفي إصفهاني، الشهيد دستغيب، وآية الله طاهري إمام جمعة إصفهان) وموقفهم الصريح والحاكم قبال هذه الحركة الزاحفة، دور فاعل في رفع الستار عن وجه هذا التيار الغامض المخادع الخطر.

 

مع آية الله القاضي الطباطبائي في خندق صلاة جمعة تبريز

كانت تبريز، هذه المدينة المجاهدة، بعد الثورة الإسلامية مسرحاً لأحداث مهمة وحساسة. فقد أراد أعداء الثورة بلوغ أهدافهم الخبيثة من خلال إشعال نار الفرقة والاختلاف وإثارة الاضطرابات في المدينة ولا سيما في لجان الثورة التي كان أغلبها بيد أعداء الثورة من حزب الشعب المسلم (حزب خلق مسلمان). فأراد أنصار الثورة من خلال الإتيان بآية الله المدني إلى تبريز تقوية الجناح الثوري وخط الإمام. فقدّموا هذا المقترح إلى الإمام ليقوم الإمام بإرسال آية الله المدني مع حكم رسمي بذلك. إن حساسية المنطقة وأهمية هذه الحركة يمكن استيعابها من خلال بلاغ الإمام للشهيد المدني.

فعمل آية الله المدني على ترتيب الأوضاع السياسية والاجتماعية في تبريز، وبذل جهوداً مخلصة في ذلك. عندها عاد ليواصل تقديم خدماته في همدان، ولكنه لم تمر إلا أيام على عودته حتى انقلبت أوضاع تبريز من جديد بالحادثة الموجعة لأول شهداء المحراب آية الله السيد محمد علي القاضي الطباطبائي بيد أعداء الثورة وعملاء أمريكا في مواجهتهم لعلماء الدين.

وفي هذه المرة أيضاً أعطاه الأمام حكماً آخر بتمثيله وبإمامة جمعة مدينة تبريز.

 

فتنة حزب الشعب المسلم

بعد نصب آية الله المدني لإمامة جمعة مدينة تبريز، واجه مشكلة حزب الشعب المسلم الذي اتخذت منه تيارات مختلفة غطاءً لمحاربة الثورة، إلا أن وعي سكان محافظة أذربيجان ومكانة آية الله المدني لديهم أدت إلى إفشال هذه المؤامرة.

ويمكن اعتبار أصعب الأيام التي عاشها آية الله المدني هي تلك الأيام التي وجد نفسه فيها وسط اضطرابات حزب الشعب المسلم. وفي هذه الأحداث الخطرة، قامت هذه المجموعة المضادة للثورة بتهديده عدة مرات. فقد أحرقوا موقع صلاة الجمعة، ومنعوا عن إقامة الصلاة، ولكن آية الله المدني سار في يوم الجمعة أمام الناس وهو يرتدي الكفن وقال: مادمت حياً وممثلاً عن الإمام في هذه المدينة فإني سأقيم صلاة الجمعة.

ويقال إنه عندما استلم أفراد حزب الشعب المسلم لجنة التفتيش وكانت تطلق النيران على داره ذهب إليه الشباب عند اقتراب الأذان وقالوا له لا تذهب إلى المسجد، ولكنه على العكس ذهب مبكراً، فتقدم إليه أحد المقربين وقال له: "يا سيدي، لا تذهب، هناك إطلاق نار، إنهم يريدون قتلك. جاءتنا اتصالات هاتفية من هنا وهناك أيضاً ويقولون لا تدعوا السيد يخرج. فقال لي: لم أكن أتوقع ذلك منك، إذا لم أذهب إلى المسجد سأضعّف روحية المسلمين ولا جواب لي أمام الله... ماذا سأقول لربّي إذا لم أذهب إلى المسجد، خوفاً على نفسي، سيقولون الإسلام والثورة أعز منك. فذهب إلى المسجد وأقام صلاة الجماعة. وهكذا تم القضاء على المؤامرة الأمريكية وعملائها في أذربيجان بثبات الناس وحضورهم في الساحة.

 

الشهيد المدني في سوح القتال

كان للشهيد المدني دور فاعل في تعزيز منعويات جند الإسلام؛ إذ كان يذهب بنفسه إلى الجبهات ليكون إلى جانب المقاتلين، ويشاركهم في أدعيتهم ومجالسهم تشجيعاً لهم على مواصلة حربهم المقدسة ضد الاستكبار العالمي حتى النصر النهائي. وكان أحياناً يذهب إلى الجندي الذي أسقط بمدفعه طائرة العدو المعتدي في سماء تبريز ليقبل يده باعتباره ممثلاً عن الإمام، ويبدي للمجاهدين في سبيل الله كمال التواضع الذي ينبع من عرفانه بالله وبالأخلاق الإلهية.

ويحسن هنا الإشارة إلى إحدى ذكريات السيد بهاء الديني في هذا الصدد: أراد بعضهم الذهاب إلى الجبهة، الشباب ذهبوا، رأينا السيد جاء إلى الدار وهو متأثر جداً والدموع في عينيه. قلنا: لم هذا الانزعاج يا سيدي؟ قال: اتصلوا بمكتب الإمام واسترخصوا لي الإمام للذهاب مع هؤلاء الشباب إلى الجبهة. سألناه: لماذا؟ قال: أنا لا أستطيع أن أرى هؤلاء الشباب يذهبون إلى الجبهة ويقاتلون هناك وأنا لا أذهب، صحيح أني أصبحت شيخاً، إذا لم يكن لي تضحية هؤلاء الشباب، إيثار هؤلاء الشباب، فالويل لي. ولكن بالطبع لم يكن الإمام ليجيزه أبداً في ترك موقعه في تبريز ليذهب إلى الجبهة. ولا شك في أن هذا الموقف منه يحكي عن حبه للشهادة وانقطاعه عن الدنيا.

 

يا بني، أنت مقتول

خط الشهادة الأحمر هو خط آل علي عليه السلام، وهذا الوسام قد انتقل من أهل بيت النبوة والولاية إلى ذريتهم الطيبة والسائرين على خطاهم. قبل استشهاده بسنوات، قال آية الله المدني في إحدى دروسه: كنت أشك في موضوعين يخصاني: أحدهما هل أنا سيد أسد الله؟ هل أنا "سيد" حقيقة؟ والأمر الآخر هل سأستشهد أو لا؟ في إحدى الليالي رأيت الإمام الحسين (ع) جاء ليقف عند رأسي، ومسح عليه، وقال: يا بنيّ أنت مقتول. فكان جواب السؤالين في ذلك. كان آية الله المدني في الصف الأول من ميادين الجهاد. فقبل الثورة كان يقف بوجه نظام الشاه الجائر، وبعد الثورة كان يواجه عملاء وجواسيس أمريكا كسد منيع ويدافع عن حريم الإسلام والقرآن. فحافظ على صلاة الجمعة باعتبارها أحد أهم مواقع الثورة. كان آية الله المدني قد عُيّن إماماً للجمعة في تبريز من بعد شهادة آية الله القاضي الطباطبائي. إلا أن عملاء أمريكا أخذوا باغتيال أنصار الإمام حيث كان العشرون من الشهر السادس الإيراني (شهريور) عام 1360هـ ش موعد رجل آخر من أهل المعنى والمعرفة. في الساعة (1.54) من بعد الظهر وبعد أن انتهت خطبتي صلاة الجمعة و الصلاة، كانت هناك مجموعة من أفراد الشرطة تريد الذهاب إلى جبهات القتال وقد طلبوا منه تقديم بعض الإرشادات إليهم. في هذه الأثناء أخذ آية الله المدني بصلاة ركعتين فرادى في مصلاه، إذ قام منافق أعمى القلب خارجي المذهب من بين الناس وتوجه إلى المحراب ليمسك بعضد آية الله المدني ويقطع صلاته. في هذه الأثناء هرع من حوله نحو هذا الشخص، ولكن قبل وصولهم إليه كان هو قد سحب ضامن قنبلة يدوية أخفاها في لباسه، وانفجرت القنبلة اليدوية بشكل فضيع ليرحل إلى لقاء الله رجل صالح وعارف مؤثر وإنسان مثالي. فحاول الناس والأطباء ولكن من دون جدوى، فرحل إمام جمعة تبريز مع ثلاثة من الشهداء، وجرح أكثر من خمسين مؤمناً من المصلين. ولابد أن نقول هنا إن شهادة رجال كآية الله المدني كان لها فعلها في عزل أعداء الثورة والمنافقين بالكامل. وبعد شهادة إمام الجمعة الكبير هذا غمرت محافظة أذربيجان أجواء العزاء والتأبين. وفي يوم 21 شهريور (الشهر السادس الإيراني) شيعت جنازته بعظمة وإجلال كبير بين أحزان الناس في تبريز وقم، ودفن في قم إلى جانب حرم السيدة المعصومة (س). وقد كان لشهادة هذا العالم الكبير انعكاسات في مختلف أنحاء إيران من بيانات المراجع والعلماء ورجال الدولة إلى احتفالات التأبين ورسائل التعازي من شتى أرجاء البلاد إلى الإمام الخميني (ره).

 

بيان الإمام الخميني (ره) بمناسبة استشهاد آية الله مدني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنا لله وإنا إليه راجعون

باستشهاد رجل آخر من ذرية رسول الله وأحد أبناء الشهيد العظيم أمير المؤمنين في الروح والجسد، تثبت جريمة المنحرفين والمنافقين. السيد الكبير والعالم العادل الجليل وأستاذ الأخلاق والمعنويات، حجة الإسلام والمسلمين الشهيد العظيم المرحوم الحاج أسد الله المدني ـ رضوان الله عليه ـ استشهد كجده العظيم في محراب العبادة بيد منافق شقي. لو كانت شهادة مولى المتقين قد أدت إلى ذهاب الإسلام وانهيار المسلمين، لحققت شهادة أمثال ولده العزيز الشهيد المدني أمنية المنافقين. لو كان الخوارج تعيسو الحظ قد بلغوا مرامهم بشهادة ولي الله الأعظم وبلغوا الحكم، لبلغت هذه المجموعات الخائنة آمالها أيضاً بسقوط حكومة الإسلام وإقرار حكومة أمريكية. فأولئك نالوا لعنة الله ورسوله والخزي الأبدي، وهؤلاء نالوا عذاب الله الأبدي ولعنة القدير المتعال والأمة الإسلامية، هم وحلفاؤهم وساداتهم سفاكو الدماء.

شعبنا العظيم وعلماء الدين الكرام وقفوا كالصف المرصوص، بحيث كلما سقطت راية من يد رائد، حملها رائد آخر ليدخل الميدان مناضلاً بقوة أكبر حفاظاً على راية الإسلام. ان الشهيد المدني بشهادته الأليمة هذه نحّى أعداء الثورة والمنافقين المناوئين للإسلام بشكل كامل. هذه الشخصية الإسلامية المضيئة قضت عمراً في تهذيب النفس وخدمة الإسلام وتربية المسلمين والجهاد على طريق الحق ضد الباطل. وكان من الشخصيات النادرة التي توفرت على العلم والعمل والتقوى والالتزام والزهد وتهذيب النفس. استشهاد شخصية إسلامية بكل معنى الكلمة كهذه مع عدة من أبناء الإسلام وأنصار الثورة الإسلامية الأوفياء في وقت صلاة الجمعة وبحضور جماعة المسلمين، ليس له توجيه سوى معارضة الإسلام والاستنفار لمحو آثار الشريعة وتعطيل جمعة المسلمين وجماعتهم. إذا كانوا إلى اليوم يختلقون التبريرات الواهية لجرائمهم، فبشهادة هذا العالم المتقي الذي لم يكن له هم سوى خدمة الإسلام والمسلمين، ليس لهم حجة سوى الانتقام من الإسلام وشعبنا الأبي. ينتقمون من الإسلام الذي يرونه أساس سقوط أجهزة االطاغوت وانكسار القوى العظمى في إيران وفي المنطقة من بعدها، ومن الشعب القوي الذي أعرض عنهم وحطم صروح آمالهم وأمنياتهم وأخرجهم من الساحة إلى الأبد. الشعب الإيراني المجاهد ولاسيما جماهير آذربيجان الأبية التي فقدت عالم دين ملتزم وجليل كهذا يعرفون عدوهم المهزوم، وسينتقمون منه بعزيمتهم الصلبة وأرادتهم الثابتة.

إني أبارك وأعزي بشهادة هذا المجاهد العزيز العظيم وأنصاره الأوفياء الأجداد الطاهرين له ولاسيما بقية الله ـ أرواحنا له الفداء ـ والشعب الإيراني المجاهد وأهالي آذربيجان الغيارى الشجعان والحوزات العلمية وأسر الشهداء المحترمة.

خط الشهادة الأحمر هو خط آل محمد وعلي، وهذا الافتخار ورثه بيت النبوة والولاية لذريتهم الطيبة ولأتباع خطهم. سلام الله وسلام الأمة الإسلامية على خط الشهادة الأحمر هذا، ورحمة الله الأزلية على شهداء هذا الخط على مدى التاريخ، والعزة والرفعة لأبناء الإسلام الأشداء الظافرين وشهدائه، والخزي والعار واللعنة الأبدية على أتباع شياطين الشرق والغرب، ولاسيما الشيطان الأكبر، أمريكا المجرمة التي تظن أنها تستطيع بمؤامراتها الشيطانية الفاشلة ومكرها هذا أن تضعف أو تخرج من الساحة شعباً قام لله المتعال وللإسلام العظيم وقدم آلاف الشهداء والمعوقين. هؤلاء أتباع سيد الشهداء الذي ضحى على طريق الإسلام والقرآن الكريم من الوليد ذي الستة أشهر إلى الشيخ ذي الثمانين عاماً وسقى وأحيا الإسلام العزيز بدمه. جيشنا وحرسنا وقوات تعبئتنا وكل القوى المسلحة العسكرية والأمنية وجماهيرنا، يتبعون أولياء ضحوا بكل ما لديهم على طريق الهدف والعقيدة وصنعوا للإسلام وأتباعه الشرفاء العزة والافتخار.

أسال الله تعالى العزة للإسلام والمسلمين والرحمة للشهداء، ولاسيما شهدائنا الأخيرين، وخاصة الشهيد العزيز المدني الجليل، والصحة والسلامة لجرحى هذه الحادثة، والصبر والثبات للشعب الأبي، ولا سيما الآذربيجانيين الأعزاء وذوي الشهداء.

والسلام عليكم جميعاً، والسلام على عباد الله الصالحين.

 

روح الله الموسوي الخميني

 

سيرته العملية

كان آية الله المدني عندما يتحدث عن القيامة يجهش بالبكاء كأنه يرى عظمتها أمامه. وعندما كان يقف للصلاة كانت ينقطع بالكامل يتحدث بكل وله إلى الحبيب. كان بعضهم ينتبه إلى أنينه في وحشة الليل ليرى أن الشهيد يختلي بربه ليقول بصوت مرتجف: إلهي، جئتك، إلهي، إن قلت لي "لا"، إن أهملتني، فمن يستنقذني؟ أو سيكون لنا أحد غيرك؟

كان رجلاً سالكاً إلى الله وعارفاً كاملاً يعرفه الجميع بالزهد والتقوى، ولكنه مع ذلك لم يهمل شؤون السياسة ومحاربة الطواغيت من العشرينات (الإيرانية) إلى انتصار الثورة الإسلامية. كان صالحاً قام لإصلاح الظلم والفساد، ومهذَّباً قام ليهذب المجتمع. كان يولي أهمية خاصة لتطهير النفس والتقوى، ويعتقد أن الانتصار على الأعداء والطواغيت يتأتى من خلال تهذيب النفس. كان يمتاز بجاذبية وحب بين الناس والعلماء. كان أباً للطلاب والشباب، وموضع أسرار الناس وثقتهم، وملجأ الشبيبة على عهد الشاه الجائر، ومعلم الأخلاق للفضلاء. كان من الناحية العلمية عالماً لا مثيل له ومن الأساتذة المرموقين في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ولكنه لتواضعه لم يطرح يوماً حتى قضية اجتهاده، هذا في وقت كان الإمام يعتبره " سيد العلماء الأعلام". ولكنه بوجود الإمام كان يجد نفسه مقلداً لهذا المرجع الكامل طارحاً ذلك في جلساته الخاصة والعامة. لقد كان في الحقيقة ذا وزن علمي وديني كبير ومن نفائس الحوزات العلمية في العالم الإسلامي، إلا أنه كان في قبال ولاية الإمام كالمحب المطيع. لقد كان يرى في الإمام إسلاماً مجسداً، وكان يؤمن بولاية الفقيه بكل وجوده.

 

زهده وتقواه

كان آية الله المدني إنساناً ورعاً زاهداً لم تنسه المناصب والمقامات يوماً الزهد وبساطة العيش. فالحياة البسيطة غير المتكلفة كانت من سمات هذا العالم الرباني. وإذا دعي إلى مكان كان يشترط أولاً ألا توضع في السفرة ألوان الطعام، وإذا جاءوا بأكثر من نوع من الطبيخ اعترض عليهم. وكان هو يطعم الضيف من طعامه البسيط الذي اعتاد على أكله. كان يراعي زي العلماء بكل معنى الكلمة، ويحارب حياة البذخ علناً وعملاً.

حياته البسيطة وتقواه كانت من خصاله المعروفة التي يتحدث بها العامة والخاصة. كان يعيش كأفقر الناس في وقت هو فيه أمين أموال الناس حيث تأتيه الأموال الشرعية من المدن الكبرى في إيران، إلا أنه لم يكن ليمد يده إليها أبداً. عندما كان يقول له أصدقاؤه إن لك حقاً في الانتفاع بهذه الأموال، فلماذا لا تنتفع بها؟ يجيب: أشهد الله أني لم استعملها إلى الآن ولن استعملها إلا في حال الاضطرار.

كان ديدنه الاقتصاد في مختلف أبعاد حياته ناظراً في ذلك إلى من حوله من الناس. في أوائل الحرب عندما رأى الناس يعانون قلة النفط ترك هو استخدامه، ومرّ به الشتاء وهو يرتدي جبة من صوف. وفي الوقت الذي لم يكن بمستطاع الناس جميعاً أكل اللحم، لم يكن هو يأكل اللحم أبداً.

 

تهذيب النفس

آية الله المدني مثال الأخلاق وتجسيد العرفان. لسانه وعمله تتجلى فيهما الأخلاق وعمق الإيمان وبعد النظر في معرفة الإسلام. كان آية الله المدني يولي اهتماماً قبل كل شيء بتهذيب النفس والتقوى، بل ويرى أن الانتصار على الأعداء والطواغيت إنما يجدي فيما إذا كان مصحوباً بالتقوى والصلاح. كان يقول: علينا أن نعلم أننا إنما ننتفع بهذا الانتصار إذا ما كنا نحن قد أصلحنا أنفسنا، بمعنى أنه إذا لم تصلح نفوسنا فإنه لن يجدينا الانتصار مهم بلغ، الإطاحة بالطواغيت إنما تجدينا نفعاً إذا ما استقرت في أبداننا حكومة الله وأزيلت حكومة الطاغوت.

تقول بنت الشهيد حول أدعية هذا العارف العاشق في منتصف الليل: من الطبيعي أنه إذا أراد أحد اختبار شخص ما من حيث معرفته بالله، فالأفضل معرفته من خلال عبادته وأدائه للفرائض، أي الأدعية يختار بعد الصلاة أو في منتصف الليل، وهل يعمل بها أو لا؟ كان أبي في اختيار الأدعية دقيقاً جداً. كان يختار من الأدعية ما يقل فيه ذكر الدنيا، ما يقل فيه ذكر الجنة. كان يدعو بما فيه قرب الله ورضاه ويعمل ويلتزم به بكل قوة. هذه هي التي أوصلته إلى حد لم يبق في وجوده مكان للبخل والحقد والحسد.

 

شخصيته

كان لآية الله المدني من الجاذبية بحيث إذا التقى به أحد كأنما يلتقي بأبيه أو بمن هو موضع سره، وكان له من الهيبة ما إذا رآه العدو من بعيد يرتجف في مكانه. قبل انتصار الثورة، كان في إحدى الليالي في دار صهره إذ سمع فجأة بعض الأصوات. فسأل: ما هذه الأصوات التي في الشارع؟ قالوا: الشباب يأتون من أعلى شارع (چهارمردان) إلى (شيخان) ويطلقون الشعارات، يفعلون ذلك كل يوم حتى تفرقهم الشرطة. فقال هو: فماذا ننتظر نحن؟ لنقم ونذهب. فراح إلى المطبخ ليتناول سكيناً ويلتحق بالمتظاهرين. لا أستطيع أن أصف في تلك الليلة كم أثرّ هذا الموقف في روحية الشباب الثائر في قم.

 

سفرة بسيطة لا تكلف فيها

في أحد الأيام انتبه وهو على سفرة الطعام أن دسومة الحساء أكثر من المعتاد، فسأل الخادم: ألست مسلماً لتبذر وتسرف بهذا الشكل. فقال: سيدي، ليس حساء الجميع بهذا الشكل، أنت ضعفت كثيراً والطعام هو حساء، فأضفت لك أنت وحدك أكثر. فغضب الشهيد المدني وقال: هذان ذنبان، ظننت أولاً أنك أسرفت فقط، والآن علمت أنك اقترفت ذنباً أعظم وهو أنك تفرق وتميز أيضاً.

 

فكره السياسي

الشهيد المدني أحد أبرز الوجوه السياسية للثورة الإسلامية التي حضرت الميدان بفاعلية منذ أوائل حركة الإمام. كان ممن لا يساوم أعداء الإسلام والثورة، كما جاء في بعض التصريحات من أن الأعداء والأصدقاء يعلمون أن علماء الدين هم الذين قاموا بوجه الأعداء منذ اليوم الأول، وكلما عدنا لننظر إلى التاريخ نجد أن العلماء الواعين هم الذين أوقفوا العدو عند حدّه، وحالوا دون الإغارة على أموال المسلمين واستعمارهم فكرياً.

كان آية الله المدني يولي أهمية خاصة في أحاديثه وخطبه للقضايا السياسية المهمة في البلاد. في عام 1359هـ ش، عندما كانت الصحف والمجلات المخالفة للثورة تخلق جواً كاذباً وتفتعل في كل يوم قضية وتوجد حرباً نفسية في المجتمع، تحدث هو مرة ليعلن عن خطر ذلك قائلاً:... على الصحف أن تحترم عملها، وإذا لم تتخلّ عن تحركاتها المضلة، فإننا سنبيّن للناس تكليفهم. وكان يرى أن السبب في مؤامرة بث الفرقة بين الجماهير وعلماء الدين هو أن: "علماء الدين حطموا خطة الاستعمار منذ البداية، الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي أخرج الإنجليز من العراق، والمرحوم المدرس الذي أسقط بمعاهدة واحدة "وثوق الدولة" من وزارته، ولهذا راحوا يعملون على إضعاف العلماء، ولكن اليوم ينعم المجتمع بنعمة كبرى وهي وعي الناس وقائد لا مثيل له، ولهذا لن يصل العدو إلى أهدافه وهذا النصر العظيم سببه العمل بتعاليم الإسلام وإرشادات الإمام. ولكني قلق أيضاً من استغلال صفاء الناس، لننتبه إلى ألاّ يكون تطبيقنا لأحكام الإسلام عن عاطفة. اعلموا أن ميزات خط الإمام هي ميزات القرآن والنبي الأكرم (ص)، وفي السابق لم يكن من الإسلام إلا مبادئ ومن المساجد إلا صور، والإمام يريد تطبيق الإسلام الحقيقي. الحقيقة هي أن الشهيد المدني إنما استشهد تحقيقاً لهذه الأهداف والمثل.

والآن لنستمع إلى بعض كلمات الشهيد آية الله المدني:

الدين

ديني يقول لي يجب عليك اليوم أن تنسى نفسك وتضعها تحت قدم هذا الرجل أي الإمام الخميني لكي يرتفع عليك قدماً وتسير خلفه.

 

طاعة الإمام

أي أمر يقوله الإمام يجب علينا طاعته بلا نقاش، وإن أضر بأرواحنا.

 

تهذيب النفس

 إنما ننتفع نحن بهذا الانتصار إذا ما كنا قد أصلحنا أنفسنا، بمعنى أنه إذا لم تصلح نفوسنا فإنه لن يجدينا الانتصار مهم بلغ.

 

حكومة الله

حكومة الله تبارك وتعالى في نفس الإنسان هي عبارة عن ترك الأهواء وتسلط العقل لتكون حركات الإنسان بإرشاد من العقل.

 

التقوى

الأثر الأول للتقوى في وجود الإنسان هو ضعف الماديات في روحه وإزالة الرذائل من وجوده. العجب، الغرور، التكبر، هذه جميعاً تذهب ولا يرى الإنسان شيئاً سوى الله.

 

صنم النفس

مادامت نزعة هذه النفس في وجود الإنسان هي الحاكمة، أي أنها تحكم والإنسان يعمل بحكمها، يستحيل الوصول إلى الله تبارك وتعالى، لأن هذه الظلمات أصبحت حجاباً في طريق الإنسان.

 

المعصية

التقوى هي أن نترك معصية الله ونقوي علاقتنا به، لأن التقوى تحول دون التسيب والانحلال.

 

قيادة الإمام الخميني (ره)

أيها الأخوة، على أثر هذه التقوى التي حصلت بإلهام من الإمام أي من قائد الثورة الكبير، والله إن لهذا الرجل حقاً في حياتنا المعنوية جميعاً، كما له ذلك في حياتنا الظاهرية.

 

قلب الإنسان

إذا تنور قلب الإنسان بنور التقوى، فإنه بدل العجب وبدل الخيلاء، لا يرى أساساً لنفسه شيئاً يذكر، ويصاب بالخجل من وجوده ويبكي خجلاً.

 

التعاون

المسلمون في صدر الإسلام عندما انتصروا، كان ذلك لأسباب، أحدها روح المواساة والتعاون.

 

النفس الأمارة

عندما يقضي الإنسان بعون الله على النفس الأمارة، فإنه تحدث لهذا الشخص حالات جديدة، لأن النفس الأمارة تحول دون رؤية الإنسان وتجعله في ظلام.

أعلام الجهاد