الشهيد السعيد عبد اللطيف الأمين

 

الشهيد السعيد عبد اللطيف الأمين

 

السيد عبد اللطيف الأمين.. وجه جنوبي مشرق رفض مداهنة المحتلين، وآثر المواجهة والتحدي، مقتفياً بذلك دروب آبائه وأجداده..

كان باستطاعته أن يسكت فيسلم، أو يبايع فيغنم، ولكن دينه يأبى عليه ذلك، فآثر أن يدخل معترك الصراع، وبين جنبيه عشق لكربلاء، وشوق للظاعنين في ركاب الشهادة..

حياته

في ذروة العراقة والأصالة الإسلامية، وفي بيت عامر بالإيمان والرسالة، ومن أسرة آل الأمين الساحقة في ميادين العلم والشعر والأدب والفقه، ومن أبوين كريمين، سطع نجم الشهيد السيد عبد اللطيف الأمين، في بلدة شقراء من أعمال بنت جبيل، عام 1948م.

والده، السيد جواد الأمين، أحد الرجال الأعلام البارزين في منطقة بنت جبيل، ومن الرجال الأعيان في جبل عامل الأشمّ.

درج الشهيد، على تراب جبل عامل الذي أحب، وتعفر به طفلاً، كما تعفر به شهادة وسجوداً، هذا التراب العابق بالشهادة والبطولات عبر التاريخ، فتزاوج الحب بالسهاد، والرعاية في أحضان الأبوة الدافئة والأمومة الحالمة مع طفلها الوادع البريء، قضاها الشهيد يرتع في مهد عاملة ما يقارب الأحد عشر شهراً، ليهاجر مع والديه وأخيه الأكبر السيد محمد جواد الأمين إلى النجف الأشرف، مرقد الإمام علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين(ع) في العراق.

 

هجرة الأب

توسم والد الشهيد السيد جواد، خيراً بنجابة طفله وكان والده عرفانياً، تقياً ورعاً، عالماً وأديباً، فاستشرف فيه المستقبل فدفعه شغفه العلمي، والتبحر في الفقه والتعمق في الأصول، إلى مغادرة لبنان، قاصداً باب مدينة العلم، في النجف الأشرف، وهناك على بعد عشرات الأمتار أقام السيد جواد وأسرته في منزل، جعل منه منتدياً علمياً ومجمعاً علمائياً، عامراً بالمساجلات الفقهية والعلمية، فكان محراباً ومدرسة ودار ندوة، وفي هذه الأجواء العابقة، وعلى الأخلاق السامية ترعرع ونما الشهيد عبد اللطيف، حتى إذا بلغ سن التدريس، أدخله والده المدرسة العصرية، في النجف فكان مثالاً للذكاء والنجابة منذ نعومة أظفاره، فأخذ ينتقل من صف إلى آخر بتفوق وامتياز بشهادة معلميه، فقطع المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة المتوسطة، لكن رغبة الشهيد في العلوم الدينية جعلته يتحول من المدرسة الدينية في النجف، وكان للوالد الرؤوف دوره البالغ في توجيه ابنه هذا التوجه الحكيم.

كان السيد جواد، مثال العالم الورع، حسن السيرة، طيّبها، خشن العيش زاهداً، متفزغاً لخدمة الدين والرسالة، صلب العزم والإرادة، كثير المناجاة والاستغفار، لدرجة أنه نال ثقة المرجع الديني، السيد محسن الحكيم الطباطبائي(قده)، فكان من المقربين إليه، وحاز شرف وكالته في بعض مدن العراق، وأظهر نشاطاً في مسؤوليته التكليفية. جاب السيد جواد، مدن العراق، متطلعاً ومتفحصاً شؤون المستضعفين وفق مهامه الشرعية، والشهيد يراقب عن كثب، معاناة والده، في سبيل الرسالة، لتزيده عزماً واضطلاعاً في المسؤولية المنشودة، وجرياً على عادته منذ دخوله النجف الأشرف، استعد السيد جواد، لمسيرته الحسينية من النجف إلى كربلاء المقدسة، مرقد الإمام الحسين(ع)، وهي مسافة ليست بالقليلة، سبعون كيلومتراً تقريباً، قطعها والد الشهيد سيراً على الأقدام، وعلى الطريق وأثناء الصلاة، توفي السيد جواد في العام 1961، تاركاً السيد عبد اللطيف، وعمره آنذاك ثلاث عشرة سنة في رعاية أخيه الأكبر السيد محمد جواد، الذي تسلم بدوره الوكالة المرجعية من السيد الحكيم، بالانتقال، نظراً لورعه وإيمانه واجتهاده. وكان المرجع الحكيم(قده) قد تكلف أمور العائلة، بعناية ورعاية..

 

الشهيد في المدرسة الدينية

تلقى الشهيد عبد اللطيف، مبادئ العلوم الدينية على يدي أبيه الراحل السيد جواد، ليتابعها معه أخوه الأكبر السيد محمد جواد، فكان مثال الطالب النجيب، لذكائه الوقاد، وذاكرته الحادة، وحضوريته العلمية وصدره الرحب، ورغبته الشديدة في تقبل العلوم الدينية والتزامه العميق بها، وهذا الجموح العلمي، دفعه إلى ترك المدرسة العصرية في النجف، ودخوله الحوزة العلمية هناك، ولنبوغه وتوطين نفسه على التحصيل والدرس الجاد بقلب منفتح وغرادة صلبة، كان الشهيد محط آمال أساتذته ومدرسيه، فأثنوا عليه، واهتموا به، وكان في طليعة هؤلاء الأساتذة، السيد علاء الحكيم، نجل المرجع المقدس، السيد محسن. لقد أينعت الثمار، لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، فبعد أن قطع الشهيد شوطاً بارعاً في الفقه والأصول، وأظهر الاجتهاد والنشاط وبلغ درجة من التحصيل العلمي، أثار الانتباه والعناية والرعاية مما دفع السيد أبو القاسم الخوئي، أن يمنحه ثقته ووكالته في العام 1978، وكان الشهيد على قدر المسؤولية، فنهض بأعبائها نهوض الرجل المسؤول العارف، وما كانت هذه المواهب الإلهية، لتتحقق لولا التفاف العناية الإلهية، في نفسية الشهيد السعيد الذي آثر وبشجاعة خدمة الرسالة والمجتمع..

وكان للعدوان الإسرائيلي على لبنان أثره في نفسية الشهيد في العام 1987، فأخذ الشهيد يفكر جدياً بالعودة إلى لبنان ليضطلع بدوره، على أرض الجهاد والبطولات في جبل عامل، الذي أحب ونذر نفسه لخدمته قولاً ومنهجاً، ليجند نفسه خادماً للمستضعفين ضد طواغيت الكفر وشذاذ الآفاق، اليهود.

 

العودة إلى لبنان

في العام 1978، عاد الشهيد إلى مسقط رأسه شقراء ومن ثم إلى بلدة الصوانة، من أعمال مرجعيون، ليتابع نشاطه الديني كإمام وداعية خير فيها، لقد رجع، يحدوه الحنين إلى تراب عامله، وصدره ثابت الجنان والعزم، يحمل مشعل السيد عبد الحسين شرف الدين والأعلام الميامين من أعيان مؤتمر الحجير.

كان الشهيد قد تزوج في العراق من بشرى ابنة العلامة الشيخ محمد تقي الفقيه، وأنجب منها أربعة أولاد، صادق وميثم، وجمانة وعزيزة، وفي الصوّانة بدأت رحلة الشهيد في عالم المسؤولية التي طالما واكبها من خلال الزوار العامليين للعتبات المقدسة في العراق مع أخيه السيد محمد جواد، لكن التطلعات الدينية والاجتماعية لا ترتبط بزمان ومكان، إنما أفضلية النشاط تحتم على المسؤول حضوره في المكان الأحوج، فكان ذلك الدور الطليعي الذي انتهجه الشهيد السعيد، خطوة متقدمة على طريق الوقوف والتصدي للتفرقة وتذليل الصعوبات المعترضة لتوجيه الكلمة بوجه التغرب والجهل والمكائد الصهيونية وسياسة الانحراف عن الجادة وطريق الإيمان، هذه الأمور كادت أن تصل إلى حد النزاعات، لكن سرعان ما ظهر في الساحة من يحمل خشبة الخلاص، بوعي وحكمة، أعادت الاعتبار الأخلاقي والإيماني بمثل متجلّية بعيداً عن الغوغائية، وحملت في طياتها حكمة السيد وبراعة الموجّه، فوحد الأحزاب على قاعدة اجتماعية غايتها خدمة البلد والنهوض فيه بروح إيمانية وأخلاقية رسالية فابتدأت مسافة الألف ميل..

 

نشاطه في الصوّانة

إن عملية الإصلاح والمتابعة، تتطلب الاستقرار والمواظبة، فكان لابد من إقامة في البلدة، فباشر عندئذ الشهيد، وعلى أرض كان قد ورثها من أبيه، ببناء بيت متواضع، ليكون منطلقاً لنهضته التي آل على نفسه تحمل تبعاتها رغم الصعاب والآلام، بممارسة حيّة وذهنية مدركة بجوهر العلاقات، وتقاليد وعادات ومتطلبات الواقع المحيط، وما طرأ عليه من تراكمات السياسة المحلية والإقليمية وأيديولوجيات غريبة، تركت بصماتها على جيل الناشئة، فكان دور السيد الشهيد أن يعالج هذه المسائل مجتمعة ويحدها على خدمة البلد الفقير المحتاج لكل أنواع المساعدة، من تطوير المدرسة، والتشجيع الزراعي، وهو المجال الذي طالما ركز عليه الشهيد لأهميته في التشبث بالأرض ومنع الهجرة، والعمل على مبدأ الاكتفاء الذاتي، كونه مشروعاً إنمائياً استثمارياً، له مردود إنتاجي يساعد على تحقيق آمال المزارع، في بلد، قلّ فيه الاهتمام بالمزارعين الشرفاء، فكان يشجع على التسليف الزراعي وإصلاح الأراضي البور، والغرس والتشجير، كعامل مساعد على الإنتاج والجمال والبقاء..

وخدمة لمشروعه، أسس جمعية خيرية إجتماعية وثقافية لإعانة الفقراء والمحتاجين، ومساعدتهم، في شتى المجالات التربوية والزراعية والاجتماعية، كما طالب المعنيين بالتعاون مع أعيان البلدة والنافذين فيها على تطوير المدرسة وتحديثها، بناءً وتدريساً وتجهيزاً، وأقام الندوات الدينية وحلقات التدريس المسجدية وأحيى المناسبات الدينية بأنواعها، وفتح باب التبرعات للإصلاح والعمران، فبدأ بجامع القرية المتواضع، ثم اشترى أرضاً في وسط القرية ووقفها، مشدداً في توجيهاته على وحدة الصف ونبذ الخلافات، وتوطيد العلاقات وتمتين الأواصر، والتآخي بالله والتمسك بأحكام الدين والصلاة. كما كان يركز دائماً في خطبه وحلقات تدريسه على المحبة والوئام والنهوض العمراني واستغلال الأرض والتنبه لمخاطر الأعداء، أعداء الدين والرسالة، يحذرهم الوقوع في شراكهم وحبائلهم، لأنهم دعاة تضليل وبؤرة فساد وكفر.

وعندما انطلقت الثورة الإسلامية والتهب بركانها في إيران بقيادة الإمام الخميني ضد الشاه المقبور، أخذ الحماس يسري في الساحة اللبنانية، وكان لجبل عامل والبقاع الإسلامية دورها الريادي، في هذا المجال، بدأ السيد الشهيد يمتدح هذه الثورة ويوجِّه الأنظار نحوها في كلامه وخطبه، داعياً لها بالنصر والاستمرار بقيادة الخميني العظيم.

وكثيراً ما كان يواجه الشهيد السعيد، معارضة شديدة من مناوئيه، وهذه الحالة العلماء المجاهدين عبر التاريخ، لكن سلاحه دائماً الصبر والثقة بالله، ومتى ترك الحق لصاحبه صديقا؟!!

 

أخلاقه وسجاياه

بيوت العلماء مدارس ومحاريب، تتجلى فيها التربية الإسلامية والعفاف، وعبق المكرمات والسجايا الحميدة، والفضائل السامية، والتقوى والورع وطيب السيرة، فتجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحسن معاشرتهم وحلاوة حديثهم، فالسيد جواد الأمين، والد الشهيد، زرع هذه المكرمات ورعاها وسقاها بمياه المحبة والإيمان، ناهيك أن لهذه العائلة العريقة في الطود العاملي، دوراً مهماً في الإرشاد والتوجيه والأدب والفقه والتأليف، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كتاب أعيان الشيعة للسيد محمسن الأمين، ونجله السيد حسن صاحب دائرة المعارف الإسلامية.

فمن نافلة القول أن تنمو هذه الغراس في شخصية الشهيد السعيد وتتفتق أكمامها على روح الإيمان والعدالة والأخلاق الحميدة، التي عرفت بها أسر العلماء وبيوتاتهم، والتي كانت ومازالت منتديات ومنارات هداية.

والمشهور عن شهيدنا، السيد عبد اللطيف أنه كان دمث الأخلاق، ليِّن العريكة، صارماً في القضايا الحقوقية، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وداعية خير، رقيق القلب عقلانياً، لا يحب التزلّف والمحاباة، وكثير التفكير والتأمل، زاهداً قانعاً، واسع الصدر، كاظم الغيظ أيام الشدة عليه من الواقع والناس، حر الكلمة لا يخشى في الله لومة لائم، صبور على المكاره، كثير اللقاءات محباً للتزوار، إجتماعيّ المجلس، متذوّقاً للأدب والشعر، ومحدّثاً لبقاً، يفيض حباً للأرض والإنسان، في قلبه عشق إلهي، وحب واله، لأهل البيت (ع)، وقاعدته الاجتماعية الحب في الله، والبغض في الله، يحب المشاريع الإنمائية ومبدأ الاكتفاء الذاتي والتحرر من التبعية، يتفطر قلبه للمساكين والفقراء والأيتام، ويعمل على حفظ كرامتهم من باب التكامل الاجتماعي والتواصل الإنساني، شأنه في ذلك شأن العلماء المجاهدين الغيارى على مصلحة الأمة والإسلام، فلطالما نّبه إلى مخاطر الأعداء ومكائدهم وفي طليعتهم إسرائيل وعملاؤها.

 

عبادته

كان السيد عبد اللطيف مثالاً في التهجد والاستعفار، يزدلف منذ الصباح الباكر نحو مسجده على سكون الفجر، محباً لصلاة الليل، كثير الصيام والنوافل، خشية الله بين عينيه، وفي تصرفاته وأحكامه، زاهداً ورعاً حمل الأصالة عن أبيه وأخيه وأجداده، تتوج بعمامة رسول الله (ص)، فنال ثقة المرجعية الدينية ووسام الوكالة المرجعية كما حازها من قبله أبوه وأخوه، بيت قامت دعائمه على الإيمان والعمل، فخفقت بنوده في الأوساط الدينية والعلمية قداسة ونبوغاً، كانت معظم خطبه وحلقاته الدينية، تتناول الإرشاد والتوجيه الديني، وتعليم الأحكام والقرآن، والتدبر في الصلاة والعبادات، وكان يطلب من الناس أن تقرأ سير الأنبياء والأولياء والقرآن، قراءة تدبر وتعلم لا مجرد تلاوة أو سرد قصصي، فاتحاً المجال للمناقشات والأسئلة في أحكام الشريعة، محذراً من التقاليد الغربية الساقطة والسافرة والأفكار الملحدة، منبهاً الجميع ولا سيما الشباب، من الانزلاق في متاهاتها ودهاليزها الهاوية، كثر التجوال والزيارات، ليطّلع على كثب على أحوال الناس ومشاكلهم، وقد أرعب نشاطه الحيوي، كثيراً من الحاقدين على الإسلام فتهجموا عليه وضايقوه، ووضعوا الكثير من العراقيل في طريقه، غير أنه تجاوزها بحكمة البصير والرجل الكبير!!

 

مع الثورة الإسلاميَّة في إيران

لم يكن الشهيد بفكره الوقّاد وتحسسه آلام الأمة، بعيداً عن مجريات الثورة الإسلاميةن التي فجّرها قائد الأمة العظيم الإمام الخميني، وهو الذي واكب من قبل أفكار وتوجهات الشهيد محمد باقر الصدر في العراق، وكان من المؤيدين لمنهجيته ومبادئه الإصلاحية ومواقفه الريادية ضد النظام المستبد الحاكم.

فكان للثورة المباركة في إيران، اهتمام بالغ في آرائه وتوجهاته، وقد حرص الشهيد السيد عبد اللطيف، على إنماء وإثراء هذه الثورة في نفوس مريديه في مجالسه الخاصة، مذكراً الناس بالعدوان الإسرائيلي في آذار 1978. وما لهذا الغزو من مطامع، لذا، طالب وحثّ وعمل على مواكبة الثورة الإسلامية وما سيكون لها من خير عميم على الإسلام والمسلمين، والتصدي لهذه المطامع، فمنذ إطلاق الشرارة الأولى للثورة، شرع السيد الشهيد بتعبئة الناس للإلتفاف حول القائد المرجع، الذي جاد به الرحمن في هذا الظرف العصيب من حياة المسلمين، في زمن التكالب الاستعماري والهجمة الشرسة الحاقدة على الإسلام، معتبراً ولاية الفقيه، العمود الفقري لهذا التوجه، بكل مداليله وحدوده الشرعية، ففتح نافذة بينه وبين الناس للاستنارة بآرائه الحكيمة، دعماً لتوجهه وخدمة للمسار التطويري الاجتماعي والثقافي الديني.

فكان النشاط العلمائي للسيد، لا يقبل المساومة والرضوخ لسياسة الأمر الواقع، بقدر ما كان يتصدى مع أخوته العلماء المجاهدين، لكل انحراف وتسلط مغاير لاتجاه السفينة الإسلامية التي أخذت تشق طريقها في عباب المحيط العالمي، منذ انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الخميني العظيم، حتى أن الوقوف بوجهها بات صعباً، من كافة القوى، وهذا ما أكدته التجارب والأيام، فأيُّ نكوص أو تخلف عن ركوب السفينة مجازفة، هكذا شعر السيد الأمين بهامشيَّة الأدوار الأخرى مع إطلالة الفجر الإسلامي الجديد، فانفتح الباب على مصراعيه لمسيرة التطور، وتوظيف الطاقات، وإن كانت القوى الراكدة قد تصدَّت لإنجازاته، لكنها غير قادرة على اختراق السفينة، خاصة وأن السيد الشهيد، قد رسّخ الحصانة الفكرية والثقافية في عقول مريديه على حقائق ثابتة لا يشوبها التضليل ولا الاستبدال..

هذه المواقف جعلت من السيد الشهيد، محط أنظار الإسرائيليين واهتمامهم.

 

في مواجهة الاحتلال

أدركت إسرائيل، البعد الإنساني والسياسي لنشاط السيد الشهيد، الذي اختطّه في دائرته الضيقة، الصوّانة وبات يصدّره لخارجها، عبر اتصالاته ولقاءاته مع الأهلين هناك، وأخذت هذه التعاليم، تتسع وتنتشر، انتشار بقعة الزيت، خاصة وأن المناخات الاقليمية والمحيطية مؤاتية، فعلى الصعيد الاقليمي، الثورة الإسلامية بقيادة قائد الأمة الخميني (قده)، ودولياً قوى الإسلام في أفغانستان تطارد الجيش الاحمر إلى أن أسقطته فيما بعد، ومحلياً العمليات الاستشهادية والنوعية تشلّ تحرك الأعداء الصهاينة وتنزل بهم أشد الضربات، إذاً الأجواء مهيّأة، كما النفوس، طبعاً إلاّ الصغيرة منها وما كان يحمل قابلية الاستعمار والعمالة.

من هنا أخذ السيد الشهيد يرسم السهم الذي يحدّد وجهة التاريخ عبر توجيهاته السرية وتصريحاته العلنية، وإن كانت خطبه التوجيهية تركز على العبادات والمعاملات، إنما يأتي تركيزه على آيات القتال والاستعداد والإعداد، ليشكّل مدلولات لها اعتبارها في الساحة السياسية حيث يقول: "اقتلوهم حيث ثقفتموهم، هؤلاء اليهود عبيد الدنيا، إنهم يموتون رعباً أمام الموت" .. "يا أبناء عاملة لا تخافوا من الخوف فهؤلاء اليهود هم الخوف في ثياب رجال..".

هذه الاستشهادات، نتلمَّس فيها عبق الجهاد، والتصميم على محاربة أعداء الله والإنسان والأرض، كان يضع دائماً الحالة الإسرائيلية في واجهة الطرح السياسي، مَركّزاً على أبعادها السلبية وأطماعها التوسعية على حساب الكيان والمصير، لافتاً الأنظار إلى أضاليلها وأخطار التهويد والتطبيع، محارباً البضاعة الإسرائيلية اقتصادياً، واللقاءات معهم اجتماعياً، مستشهداً بأقوال الشيخ الشهيد راغب حرب، "الموقف سلاح، والمصافحة اعتراف"، مقدِّراً الأسرى في أنصار وفي غيرها من معاقل الاعتقال الصهيوني. هذا البعد الإنساني أخذ يتفاعل على صعيد المنطقة، بشكل أقلق الإسرائيليين، فجيّشوا عليه العملاء لمراقبة تحركاته، فأخذت كلام الاحتلال، تطارده وتتعقب أثره، وتراقب كلامه وإقامته، ولم يعد لهذه الحثالة والشرذمة الخسيسة إلاَّ الأحرار هدفاً، في ليالهم ونهارهم، هناك أدرك السيد هذه المخاطر، ولم يزده الوضع إلاّ مثابرة وإصراراً، ومع تزايد نشاط الأحرار في جبل عامل، اتخذت إسرائيل قرارها الأكثر عقوبة، وهو القبضة الحديدية، وكان يقابلها الأحرار بالقبضة الحسينية والعلوية، وهنا بدأ صراع القبضات، ولكن قبضة علي قلعت باب خيبر، كما القبضة الحسينية قلعت الوجود الإسرائيلي، على جزء كبير من جبل عامل المجاهد..

والسيد الشهيد على ثباته، كالقلعة بوجه الريح، عزمه لا يلين، وقلبه لا يستكين، فالقضية عنده قضية مصير وقرار ووجود، إنه قرار العقيدة المستمد من ولاية الفقيه، وبدأ مؤشر التوتر الإسرائيلي يتصاعد والعملاء في كل ساحة يهيمون، ويتعقبون السيد ويترصدون تحركاته..

كان قرار السيد قراراً واعياً، وليد الضمير الحي والإرادة المبدئية، التي لا تساوم، وهكذا القرارات الثورية دائماً، فالشهداء تقتدي بالعلماء كما ورد في الحديث، فباتت الشهادة مطلباً عند الكثير من مريدي السيد الشهيد، اقتداءً بالإمام الخميني والعلماء المجاهدين على بركة الله ورسوله.

الشهيد يكثر من دعائه: "إلهي فرّقهم تفريقاً واجعلهم طرائق قدداً" إنه دعاء حسيني في ظروف الشدة، يتمثله السيد منهجياً لتبدأ وتيرة جديدة من النضال والجهاد والمواجهة، وبات اختراق السدِّ المنيع، الذي أقامه السيد، بالتعبئة والتوجيه، أمراً صعباً، رغم الأضاليل والألاعيب التي مارستها إسرائيل لتفريق الصفوف، فأمام انهيار كل هذه المحاولات عمدوا إلى اعتقال أنصاره ومريديه في الصوانة وخارج الصوانة، وكان في طليعتهم أخوه السيد عبد المعين الأمين، الذي زجوه في زنزانات الاعتقال في أنصار، وغايتهم في ذلك معروفة، إضعاف القوى المساندة للسيد، وإرباك تحركه وإرهاقه، ليسهل عليهم تطويعه، ولكن السيد الشهيد بقي صامداً صمود الجبل الأشم، ولم تفت من عضده هذه الأمور، وواجهها بإرادة صلبة وعزمٍ لا يلين، فعلي والحسين في قلبه، لذلك وجده اليهود أصلب من أن يكسر، وأنى لمثل هذه المسوخ ان تتطاول على قامته المديدة ومواقفه الكربلائية المتجذرة في نهجه، غير أن إسرائيل استمرت في نهجها الحاقد ضد السيد المجاهد، فأخذت تفكر جدياً بتعطيل هذه الدينامية المحركة للمقاومة وليس لها من سبيل إلاّ بالاغتيال أن الاعتقال، غير أن الإعتقال سيثير لها مشكال يصعب على إسرائيل تحملها، وفي طليعتها المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات، أضف إلى ذلك إثارة الرأي العام المحلي والدولي ضدها.

ولها في الشيخ راغب حرب، تجربة مُرّة، لكنها لم تتعلم ولم تعتبر، فالنسر لا يحبس في قفص كما المارد لا يسجن في قمقم، إن رجلاً مثل السيد عبد اللطيف لا تصغره السلاسل، فاستعصى عليهم رغم التجارب المتعددة معه فقرروا اغتياله، لأن الاغتيال برأي الصهاينة هو الحل الوحيد لإسكاته، وهذا هو أسلوبهم مع الأحرار والأنبياء عبر التاريخ. لقد ردد السيد الشهيد دائماً أمام أنصاره المجاهدين: "لا تخشوا هؤلاء الأقزام.. عاملوهم بقسوة واحتقار.. احتقروهم فأعداؤنا حثالة البشر، إنهم يخافون على دنياهم، كما تخاف الفئران، يختبئ الاحتلال خلف مظاهر القوة الكاذبة، لضعفٍ فيه، يريد إخافتكم، كما أخاف من قبلكم جيوش العرب، يريد أن يهزمكم من الداخل كي لا تستطيعوا الاقتراب منه، فتكشفوا خوفه، كل هذه القوة هي من الكرتون، صدقوني كرتون مصبوغ بلون الحديد..".

 

الشهادة

لم تختلف ظروف استشهاد السيد الشهيد عبد اللطيف الأمين كثيراً عن ظروف استشهاد الشيخ راغب حرب، فالظروف واحدة كما الجهة الفاعلة، إسرائيل وعملاؤها.

فمنذ أن مُنيت جهود الصهاينة، بالفشل الذريع مع السيد الأمين، أخذت تمارس ضغوطاً أشد صرامة وأكثر محاصرة، فبعد صلاة المغرب والعشاء في جامع الصوّانة، البلدة المجاهدة التي أحبَّته وأحبّها، توجه السيد بخطاه الثابتة وقامته الشامخة إلى منزله في البلدة، لتناول العشاء مع أطفاله وزوجته، فكان العدو بطائرته المروحية ـ وعلى علو منخفض أثار الشبهات ـ يحومُ فوق منزله الكريم ومنطقة إقامته، في هذا الوقت توجهت باتجاه المنزل مجموعة مشتركة من العملاء والصهاينة بعدّتها العسكرية الكاملة، حسب رواية شهود عيان، وما هي إلا برهة وإذ بباب السيد يطرق عدة طرقات متتالية، دفعت السيد وبسرعة لفتحه، وعلى الفور ودون سابق إنذار، إنهال المهاجمون السفلة بوابل من رشاشاتهم الآلية على جسده الشريف، فأصابوه بعدة طلقات، في صدره وكتفه وأطرافه العليا، وعلى مرأى ومسمع من أطفاله، الذين راعهم الحادث، فأخذوا يصرخون ويبكون، قضى السيد مغمياً عليه، فاختلط صراخ الأطفال مع ولولة الزوجة الوفية، بشرى، فتدافع المقربون، وما الحيلة، فنقل السيدة بطوافة تابعة للأمم المتحدة إلى مستشفى الطوارئ بالناقورة، وبقي مغمياً عليه ثلاثة أيام متتالية، حيث فاضت روحه المباركة نهار الاثنين الموافق 25 صفر 1405هـ في مستشفى الطوارئ في الناقورة ويقال أن الإسرائيلييين طالبوا من قوات الطوارئ عدم الإهتمام به، لغاية أرادوها. ومهما يكن، فإن جراح السيد البليغة وإصابته المباشرة أدَّت إلى استشهاده.

كان وقع الحدث بالغاً ومؤثراً، في الأوساط الرسمية والشعبية والعلمائية من مختلف الطوائف والمذاهب، حيث أدانوا هذه الجريمة الإسرائيلية البشعة، وأثنوا على الدور النشيط والجهادي للسيد الشهيد كرمز من رموز المقاومة الإسلامية.

 

مراسم التشييع

شُيِّعَ العلاّمة الشهيد السيد عبد اللطيف الأمين في أجواء من الحزن والإدانة والاستنكار للجريمة الصهيونية، نهار الثلاثاء الواقع في 20 تشرين الثاني في بلدته شقرا (بنت جبيل)، وأقيم للشهيد مأتم حافل تقدمته عائلته وعدد كبير من العلماء وفي حضور جماهيري غفير، وعلى صرخات الله أكبر رفع نعشه على الأكتاف، ووري جدث الرحمة في مقبرة البلدة. وقدمت التعازي بالشهيد الأمين في حسينية روضة الشهيدين في الغبيري لمدة ثلاثة أيام (الثلاثاء والأربعاء والخميس).

… وأخيراً سقط الرجل الصلب، بذرة جهادية لتنبت رطباً في نفوس الأجيال وليرتفع منارة على الثغور، تنير الطريق لطلب الشهادة والتحرير.

 

قراءات في خطب السيد الشهيد ومواقفه

ـ في بناء الشخصية:

المقاومة الإسلامية، في نظر السيد الشهيد، لم تكن ظاهرة أبدعتها الظروف الطارئة إبان الغزو الصهيوني، إنما هي قاعدة متجذرة في مفاهيم الحالة الإسلامية، مديدة الجذور في أعماق الذات، بدءً من بدر وكربلاء، مروراً بالتجارب العاملية ومواقف المجاهدين الرساليين بوجه الطغاة، وانتهاء بوقتنا المعاصر…

والتاريخ حافل بالعديد من الشواهد، فمنذ أن وطأت الجبل أقدام الغزاة والطامعين فيه، أيام المماليك والصليبيين، ثم العثمانيين والفرنسيين، نرى أبناء جبل عامل في طليعة المقاومين والمجاهدين للغزاة، إذاً، المقاومة ليست طارئة بل كانت العمود الفقري والطاقة الفاعلة في أسلوب التحرك على الساحة الجهادية.

فالسيد الشهيد، غالباً ما كان يتمثل بقول جده الحسين (ع)، عندما يرد على الصهاينة الأوغاد فيقول "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد". ويصف الإسرائيلييين، بالأقزام والأوغاد، داعياً الأهلين إلى التركيز على فهم سير الأنبياء والأولياء لأخذ العبر والدروس وترجمتها عملياً: "اقرأوا السير فهي علم قائم بذاته، اقرؤها وتمعنوا، فهي زاد عظيم، فيا إخوتي، ما يحير الألباب حتى ليتساءل الواحد منها، أهؤلاء كانوا بشراً، أكل هذا في إنسان؟! أيكون الإنسان قادراً على كل ذلك، أي والله يا إخوتي، ومن أصدق من الله قيلا: "عبدي أطعني تكن مثلي، تقول للشيء كن فيكون"، لا فرق بينهم وبين غيرهم إلا أنهم أطاعوا الله حق طاعته".

فالطاعة عند السيد، كما في الإسلام، عمل وجهاد، ولا نجاح بدون ذلك، وهذه مرتبة من الجهاد النفسي، الجهاد الأكبر كما يسميه رسول الله (ص)، لها من التجلي والعاقبة الحسنة ما ينتج الصلاح والنصر.

كلمات لها مردودها الإيجابي في حياة الإنسان، والكثيرون يرددونها، إنما القصد منها التعميق والتمعن لسبر أغوارها، فالسعادة مطوية بين أحرف الكلمات النورانية الجليلة في القرآن وسيرة الأنبياء وأقوالهم، هذا ما كان ينشده السيد، لذلك ركز على بناء الشخصية الإسلامية، وعلى صفاء الذهنية والاخلاص، فيندفع المؤمن مشحوناً بطاقاته الروحية لمواجهة صعاب الحياة فلا تثنيه العقبات: "عليكم في البدء أن تبنوا لأنفسكم شخصية إسلامية، في كل ما تفعلون، في علاقاتكم، في تعاملكم، في كل سلوك، وفي الصغيرة والكبيرة، فليتجسد الإسلام في كل واحد منكم، فلتنطق كل حركة وكل سكنة فيكم لتقول هو ذا الإسلام، دعوا الناس يا إخوتي يرون عظمة الإنسان المؤمن، دعوا الناس يرون الإسلام، يرون الفرق بين المؤمن وبين غير المؤمن وتقوم عليهم الحجة، بذلك يا إخوتي تختصرون الطريق..".

فالتركيز على الحالة الفكرية والأخلاقية الإيمانية في توجهات السيد، مفاهيم اعدادية لشخصية القيادية في حركة الإسلام على ساحة الصراع بين الأعداء.

فالممارسة العملية المحكومة بالضوابط المسلكية والحكم الشرعي، تعطي الحركة زخماً وقوة في التنظيم والعلاقات، ورص الصفوف، إضافة إلى تخطي العقبات الشائكة الموضوعة من قبل أعداء الإسلام، فالمؤمن في عرفه وجوهره، كما في موقفه صورة عن الأنبياء والأولياء، يحمل فكرهم ونهجهم كسلام يعتمد عليه، لمصلحة الإسلام أمام التحديات المصيرية، لما يجسده من إمكانيات تقيه شر الصدمات والانفعالات المعطلة لقوى التحرك في شخصية، فعليه بنظر السيد، أن يحكّم نظرته في الصغيرة والكبيرة، وفي كل حركة وسكنة، وفي علاقاته مع الآخرين.

إن توظيف هذه القيم في ساحة المؤمن العملية، تجعل المؤمن سيد نفسه وسيد المجتمع ومثالاً يقتدى، بعيداً عن الإسفاف والمنزلقات التي يؤول إليها مصير الإنسان غير المؤمن، عندها يميز الناس، بين الخبيث والطيب في السيرة والمعاملة، وهذا ما يجعل الحضارة الإسلامية في التاريخ، منارة ساطعة لحضانتها هذه المثل والنماذج.

إذاً، الهدف سام في منهجية السيد، لأنّه يخدم المسيرة، وقد أدرك الإسرائيليون أسلوب الاستكبار من الإمام الخميني، والسيد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب وغيرهم وغيرهم.

إن دور العلماء خطير في نظر الأعداء، فهم المعيار سلباً كان أم إيجاباً، ومن هنا ركزت إسرائيل، على تعطيل دور العلماء بالاغتيال تارة وبالاعتقال تارة أخرى..

فصفاء العقل الروحي، يشكل قوة التغيير في الفكر الاجتماعي والسياسي على ساحة البناء ومجال الثورة، فالخطر، كما يرى السيد الشهيد ليس دائماً من الخارج، فقد يأتي أحياناً من الداخل، لأن النفس التي تملك قابلية الاستعمار هي النفس الفارغة روحياً، من هنا جاء التركيز على تدعيم القوى الروحية في الشخصية، خدمة للتوصل مع القيم والتاريخ، بعيداً عن قيود المادة والتغريب، والتبعية الدخيلة الطاغية على جيل المبهورين بالإيديولوجيات المتساقطة، فهو يقول رحمه الله: "إن كلمة الله في فهم الإنسان تنتشر مثل شعلات، تحرق في مداها، كلّ ما ليس منها، فإذا لها على الأرض ضياء، كما لها في السماء ضياء، فالله نور السموات والأرض".

 

ـ الفهم الاجتماعي والسياسي:

يعتمد السيد الشهيد على تجذير الفكر الثوري والسياسي، ويعتبره مدخلاً، يستشرف منه على السياسة والثورة عبر قناعات يحددها السيد بما يلي:

1 ـ فهم التاريخ وقراءة سير الأنبياء والأولياء.

2 ـ التمسك أو التشبث بالأرض من خلال الزراعة.

3 ـ تمتين العلاقات الاجتماعية.

4 ـ العدالة والمساواة وصدق المعاملة وغيرها من المثل والأخلاقيات.

ففي البند الأول، يدعو الشهيد إلى مطالعة شخصية الإمام الحسين (ع) الكربلائية وفهمها نصَّاً وروحاً، لأنها مدرسة عبر ومنارة ثورة، مناشداً الناس إلى التعمق في هذه المطالعة كما يدعوهم لفهم شخصية الرسول الكريم محمد (ص) وأمير المؤمنين (ع) بكل مضامينها، ثم الذوبان في الله، أي العشق الإلهي، لأن في ذلك لذّة للروح ونبذاً للرذيلة، فهو يخاطب الإمام الحسين (ع):

"لقد أردت الحياة دنياً من الأخلاق والفضيلة والحب، وأرادها الآخرون دنياً من الشهوات والرذيلة والأحقاد..".

ثم يناشد الشهيد المؤمنين أن يهتموا بجيرانهم فيقول:

"الجار أمانة عند جاره، يجب عليه أن يعامله المعاملة الحسنة، فلا يؤذيه ولا يسوؤه، ولا يتصرف معه التصرف الذي لا يليق، كل مسلم أمانة عند بقية المسلمين، عليهم أن ينصحوه ويعاملوه بالصدق والإخلاص والمحبة..

فالرئيس والوزير والمدير والقاضي والكاتب والشرطي والمعلم، كل هؤلاء أمانة وبأيديهم أمانات كبرى، ضخمة، لو أنهم حفظوها وصانوها ورعوها حق الرعاية، لسادة المحبة، ولعمّ الرخاء، وخيم العدل والسلم..".

إن مبدأ التكافل الاجتماعي وفهم المسؤولية بنظره هو عنوان الحياة الاجتماعية والراحة والطمأنينة، لكن الوضع يتغير إذا تغيّر أسلوب المعاملة فتحل الكوارث كما يشير السيد بقوله:

"لكن هؤلاء خانوا الأمانة وضيعوها، ومن هنا عمّت الفوضى والاضطراب وانتشر الظلم والجور، واستشرى الفساد وكثرى الرشاوى والسرقات واختل الأمن، وبالتالي سُفكت الدماء..".

فمن الطبيعي أن يختل التوازن السياسي مع الظلم والجور، فالثورة تنهض بسبب الظلم والطغيان، لأن الثورة نتاج وليست سلباً فالحكم يدوم مع الكفر، ولكن لا يدوم مع الظلم، كما ورد في الحديث.

هذه المفاهيم لا تأخذ مسارها الطبيعي في الحركة والعطاء إلاّ إذا توجت بالعقيدة والأخلاق والتعبئة الفكرية الموجهة.

فعلى ضوء هذه المنهجية والتصورات، يرى السيد الشهيد، أن لا تمتع بنعيم الحياة، على حساب الطبقات المحرومة والمسحوقة، وأي نوع من الحرمان، سيدفع هذه الطبقة يوماً للثورة من أجل الحقوق لذلك يذكر السيد الشهيد، أن ما يحصل من اضطراب سياسي وتفسخ في العلاقات يعود إلى:

… "خيانة الأمانة وهتكها، وعدم صونها والمحافظة عليها..".

في حين أن تركيزه على الناحية الزراعية، ذات أبعاد واتجاهات إيجابية، فبالإضافة إلى الإنتاج المادي والإكتفاء الذاتي، عبر إنشاء التعاونيات الزراعية أو البداية في إقامتها، وإن كانت ظروف الاحتلال والملاحقات، لم تسمح له بتنفيذ المشروعات بشكله الواسع والمطلوب، لكن حب السيد للزراعة، وشغفه بالأرض، وترشيده الناس، للاقتداء به زراعياً، كما هو الحال في المجالات العبادية والأخلاقية الأخرى، كان يشكل هاجساً للعدو الصهيوني الساعي للتهجير القسري، عبر سياسة الابعاد التي مارسها، ضد السيد وأنصاره.. فالعدو الذي غالباً ما كان يقتلع الأشجار ويحرق المزروعات، ويجرف البساتين، كان يدرك أهمية الزراعة والأرض من الناحيتين المادية والمعنوية.

فالعلاقة والمزاوجة قائمة بين الأرض والصمود، وبين الإقامة وما تمثله من معنويات في حياة الفرد، خاصة مسقط رأسه، وسجل آبائه وأجداده، ومرتع طفولته، وما تشكله هذه الاعتبارات الروحية في سياسة التصدي للعدو، إن حرص السيد على هذا الإعداد والتوجيه، هو تلبية لموقف الصمود، الذي أرعب إسرائيل وسعت إلى شلّه وبتره، لكن استقرار حب الأرض في ذهنية الناس، أععجز من أن ينتزعها العدو، والزراعة عنده ليست فقط، في مفهومها المادي بل المعنوي أيضاً.

هذا الربط الاجتماعي عن طريق التبادل والمقايضة في المجتمع الريفي، في أبعاده المعنوية والمادية وربط الأسرة في الأرض، قطع الطريق على المحتل الصهيوني فلطالما كان يردد "الأرض، الأرض" وقال مخاطباً بعض الفلاحين عندما لمس نبتة طرية العود، "فهي بعد صغيرة لا تقوى على العطاء" إلى أن سقاها السيد بدمه، فنبتت ثورة ومقاومة وجهاداً"!!

أعلام الجهاد