السيد عباس الموسوي

سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي

سيد شهداء المقاومة الإسلامية

السيد عباس الموسوي  

أمين عام حزب الله يرتفع شهيداً على طريق المقاومة والتحرير…

قضى الأمين العام العلاّمة السيد عباس الموسوي فقامت الأمّة…

قضى مع زوجه وطفله، فنهض الشعبُ بأكمله، واستحال الدم الطاهر بركاناً يحرق كبد المعتدي…

في كل الحروب يتوارى الكبار، ينأون بأنفسهم، ويديرون المعركة من بعيد…

أمّا في حزب الله فالأمر مختلف تماماً… القائد في الطليعة، والأمين العام يتقدّم الصفوف…

يعيش مع الناس، مع الضعفاء، مع المظلومين والمضطهدين… يجوع إذا جاعوا، ويألم إذا توجعوا، ويستشهد كما يستشهد الكثيرون منهم… هكذا كان محمد (ص)… هكذا كان عليّ والحسين (عليهما السلام). وعلى هذا الدرب، مضى سيّد شهداء المقاومة الإسلامية، وقضى في قلب المعركة.

 

مولد السيد الشهيد وطفولته

ولد سماحة السيد الشهيد عام 1952 في بلدة مستضعفة، استمدت تسميتها من مقام نبي الله شيث، في بيت من بيوت الإيمان والولاية من أبوين هاشميين موسويين.

ترعرع ومنذ نعومة أظفاره على حُسن الخلق والتهذيب وطُبع في قلبه حب أهل البيت(ع)، في منزل ارتبط ارتباطاً وثيقاً بأهل البيت، عبر المجالس العاشورائية التي كانت تقام فيه سنوياً، وشبّ مجاوراً لمسجد الإمام الحسين(ع) في منطقة الشياح وبمقام نبي الله شيث(ع) في بلدته.

تميّز السيد الشهيد بوعيه المُبكّر وبنضوجه المُلفت… وقد صاحب ذلك اهتمام زائد من أهل السيد به وخاصة من قبل والدته التي استبشرت به خيراً أثناء الحمل به لرؤية رأتها.

كان السيد محباً للعلم وللدراسة، وكان يملك من الحماسة ما يميزه عن غيره، ومن الفراسة التي قلّما وُجدت في أحدٍ من أقرانه، وعُرف أيضاً ومنذ طفولته بالجرأة والشجاعة وحبّه لفعل الخير وحنوّه على الفقراء والمستضعفين.

 

ربيع المقاومة

ما إن بلغ السيد(ره) الربيع من العمر، حتى كانت نكسة حزيران 1967، التي شكلت هزّة، فجرّت كل عواطف السيد الشهيد مما دفعه إلى ترك المدرسة مبكراً والالتحاق بصفوف الفدائيين، للمساهمة في تحرير فلسطين. فالتحق وهو فتىً يافع لم يتجاوز السادسة عشر من العمر، بمعسكرات الفدائيين للتدرب معرضاً عن كل مباهج الصبا وزهو الفتوة ومراهقة الشبّان.

ولم يطل به المقام في المعسكر حتى عاد مصاباً في إحدى قدميه، وهذا ما منعه آنذاك من الذهاب في عملية فدائية كانت تؤرقه الرغبة الشديدة للمشاركة فيها.

لقد كان تحرير فلسطين السليبة، هدفاً وضعه نصب عينيه منذ صباه، وهو يدرك أنه سيكلفه الكثير الكثير وكان كل همّه أن يُهرق دمه على أرض فلسطين فكان استشهاده على طريقها الطويل…

 

نحو الحوزة الدينية

لقد شكلت تجربته مع المقاومة الفلسطينية عام 1967، محطة بارزة في حياته لتصويب المسار الحقيقي نحو فلسطين، فكانت مدرسة أهل البيت(ع) هي خيار السيد لمسيرة الإعداد لتحرير فلسطين، ثم كان التحاقه بـ "معهد الدراسات الإسلامية" في مدينة صور عام 1968 على أثر لقاء جمعه مع الإمام السيد موسى الصدر في إحدى بيوتات المستضعفين. حيث تابع هناك على يد السيد موسى الصدر دراسته لأكثر من سنة ونصف، وقد أعجب السيد الصدر به لذكائه ونباهته وحبه للعلم، وتوسم به خيراً، فكان أن نصحه بالانتقال إلى النجف الأشرف، وزوّده برسالة توصية إلى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).

 

في النجف الأشرف

في النجف الأشرف، تابع السيد الشهيد(ره) دراسته العلمية على أيدي المراجع الأعلام، وترّكزت دراسته بشكل أساسي على الشهيد السيد الصدر(قده) حيث اغترف من بحر علمه، وتزوّد من نبع روحه الفيّاض، علماً وأخلاقاً وورعاً وجهاداً غذّى ثوريته.

في النجف، اشتهر السيد بولعه بالتحصيل العلمي وتثمينه للوقت، بحيث تمكّن من دراسة مرحلتي "المقدمات" و"السطوح" في العلوم الدينية خلال خمس سنوات فقط، وهذه مدة قياسية إذا ما عرفنا أنها تأخذ من الطلاب العاديين نحو خمسة عشرة سنة.

لقد أعطى السيد الشهيد كل وقته للتحصيل العلمي، فأحب العلم والعلماء، لم يعرف جسده الطاهر الراحة ولم يأخذ يوماً حقه في النوم والاستراحة، حتى أنه كان إذا ما غفا يغفو والكتاب على صدره.

كان يومه الدراسي، في الصيف والشتاء، في الحر الشديد والبرد والصقيع، يبدأ من مطلع الفجر بقرآنه المشهود و"عهده" مروراً بـ"الفجريات"، وهي عبارة عن دروس في تفسير القرآن الكريم كان يتدارسها مع بعض إخوانه، تارة يدرسون عليه وطوراً يدرس عليهم، فكان استاذاً لهم وكانوا أساتذة له.

لقد كان له من الجلد والصبر ما يعجز عنه الصبر نفسه، حيث أنّه لم يبخل على الدراسة لا بالجهد ولا بالوقت، فكان يقطع مع شروق الشمس، كل يوم مسافة (4 كلم) سيراً على الأقدام لحضور الدروس عند المرحوم الشهيد السيد عبد المجيد الحكيم(ره). وأما أيام العطلة الأسبوعية (الخميس والجمعة) وأيام الأعياد والإجازة فلم تكن لتعرف مكاناً لها في روزنامة حياته، وما كان للأستخفاف بالوقت عنده مكاناً، فقد كانت كل أيام حياته زاخرة بالجهد والتحصيل والعطاء.

إلى جانب حياته العلمية المميزة، عُرف السيد الشهيد بدماثة أخلاقه ورفعتها، وبتربية نفسه وتهذيبها، وعُرف باحترامه المميّز للآخرين وبتواضعه وزهده، حتى أنه لم يتقاض طوال سني دراسته النجفية راتباً أو مُخصصاً، فقد كان يعيش ليومه، شعاره وفعله الزُهد والتواضع من غير تصنّع ولا تكلّف.

وعُرف السيد خلال إقامته في النجف بوفائه لجدّه أمير المؤمنين(ع)، عبر تعاهده زيارته باستمرار، كما أنه لم ينقطع عن زيارة جده الإمام الحسين(ع)، ولم يثنه بعد السفر عن ذلك، فكان يمشي مسافة 125كلم سيراً على الأقدام شوقاً لزيارة أبي الأحرار(ع).

جمعته في النجف علاقة ود ومحبة بالشهيد السعيد السيد الصدر(قده)، أستاذه ومربّيه وله معه حكايات وقصص تطول، تنم جميعها عن المودة العميقة التي كان يكنّها الشهيد الصدر(قده) للسيد الشهيد(ره).

 

زواجه المبارك والعائلة المثالية

عام 1973، تزوج السيد عباس من ابنة عمه سهام، الشابة الصغيرة، وسافرا معاً إلى النجف.. فكان أن التقى الفعل والعطاء فكوّنا نموذجاً ثنائياً قلَّ نظيره.

وتتلمذت السيدة أم ياسر على يد السيد أبي ياسر، الزوج والمعلم، فكانت خير تلميذ لخير معلم، وكان السيّد(ره) حريصاً على أن يودع فيها روحه وكل أفكاره وهو المميز في الروح والمميز في الفكر.

واستطاعا أن يبنيا معاً جواً أسرياً مفعماً بالإيمان والتقوى، قائماً على الاحترام والمودة والانسجام قلّ أن نجد مثيلاً له، وقد منّ الله على هذا البيت المبارك بأربعة صبيان وفتاتين.

وقد أُبتليا بطفل مريض، يحتاج وحده إلى أمٍ تتفرّغ له وحده، وعلى الرغم من ذلك فقد أظهرت السيدة الشهيدة أم ياسر الصبر الجميل وتحملت مسؤولية البيت والعائلة والأطفال والطفل المريض، وفوق ذلك كله واجباتها تجاه عشرات الضيوف المتوافدين يومياً على السيد عباس(ره)، ولم يعرف التذمر ولا التأفف يوماً طريقه إليهما، وإنما كانت البسمة وحدها من نصيب الجميع.

إلى ذلك، انطلقت السيدة أم ياسر وبدعم ومؤازرة من السيد الشهيد في عملها الرسالي التبليغي خارج المنزل ما بين الحسينيات والمراكز والبيوت، ثم في حوزة السيدة الزهراء (ع) التي كان للشهيدة المجاهدة فيها دور أساسي وفعال منذ تأسيسها… وفوق ذلك كله كانت رفيقة السيد الدائمة في حلّه وترحاله وجهاده.

 

عودة إلى لبنان

بعد تمضية نحو تسعة أعوام في النجف الأشرف، وأمام ملاحقة جلاوزة النظام العراقي، وبعد سلسلة مداهمات لبيته في النجف، وبعد ارتفاع وتيرة الاعتقالات في أوساط علماء وطلاب الحوزة العلمية، وبناءً على طلب من السيد محمد باقر الصدر(قده)، كانت عودة السيد عباس إلى لبنان عام 1978 في أيام عاشوراء لذلك العام.

فجاء إلى لبنان يحمل المسؤولية على كتفيه، فأسس مدرسة (حوزة) الإمام المنتظر(عج) في بعلبك، حتى يحمل النجف معه مدرسة تستطيع أن تعوّض على الكثيرين الذين لم يعودوا يستطيعون الذهاب إلى النجف بفعل الاضطهاد والتشريد، لقد كان همّ السيد الشهيد أن يكون الإنسان المبلِّغ وأن يكون حركةً من أجل المستضعفين.

لقد شكلت الحوزة التي كانت في بدايتها عبارة عن مَيْتَم استأجره السيد، مَعلماً أضاء سماء العلم والمعرفة في لبنان وخرّجت كوكبة من العلماء العاملين المجاهدين.

لقد استطاع السيد بجهاده وإخلاصه ومثابرته أن يجعل الحوزة من الحوزات النموذجية، وتمكّن بفعل حركيته وديناميته وروحه الثورية المتوثّبة أن يجعل الحوزة منطلق العمل الإسلامي والتبليغي في منطقة البقاع وحتى في المناطق الأخرى وخاصة الجنوب.

لقد تمكن السيد من إيجاد حركة تبليغ شملت معظم القرى والمناطق حتى النائية منها في جرود الهرمل، أو حتى في سهل عكّار، حتى تلك القرى التي لم تعرف عالماً دينياً أو مُبلغاً من قبل، وصلها السيد الشهيد(ره) مع طلاّبه في مواسم التبليغ (في شهري رمضان ومحرم).

لقد كان سماحته ينتقل من قرية إلى أخرى، يؤم صلاة هنا ويحيي مناسبة هناك، يلتقي بالناس، يجتمع بهم، يصغي إلى همومهم، يحل مشاكلهم، يوجههم .. كان حركة لا تهدأ وعزيمةً لا تخمد، لم يعرف الكلل ولا الملل … لقد عاش الرسالة في وجدانه فكان إنسان الإسلام، وعاشت المسؤولية في وعيه فكان إنسان الحركة، وعاشت الأمة في كل كيانه فكان رجل الأمة…

 

مدرسة السيد عبّاس

كثير من أبناء جيل الشباب وغيرهم من أهلنا في لبنان، لم يعرفوا الإمام الخميني(قده) شخصياً، ولكن من عرف السيد عباس(ره) لابد أنه أدرك عبره معرفة الإمام.

لقد كان(ره) مدرسة متميزة كأنها صورة طبق الأصل عن مدرسة الإمام الخميني(قده) في الإيمان والورع والتقوى والأخلاق والتواضع والإخلاص والجهاد، يستحيل أن يرى المرء شخصاً عرف السيد أو عاشره إلا ويجد أنه ترك في شخصيته شيئاً من بصماته.

لقد عمل السيد عباس (ره) وفي موازاة العمل الجماهيري ـ العبادي الاجتماعي ـ السياسي، في خط البناء الفكري ـ المعنوي للكادرات الشبابية المؤمنة الفتية، التي كان يتعاهدها عبر حلقات منتظمة قامت في العديد من القرى والدساكر وفي بعلبك نفسها، وساهم مساهمة فعّالة في مدارس ودورات الكوادر، لقد أعطى الشباب المؤمن كل وقته وهمّه، وتعاهد تربيتهم ورعايتهم كما يتعاهد الأب رعاية أبنائه وتربيتهم، وغمرهم بعطفه الأبوي ـ رغم الفارق البسيط في السن ـ وزوّدهم بالمعارف والتعاليم الإسلامية، وخلّقهم بخلق الأنبياء والأئمة(ع)، بذل لهم غاية الجُهد، وأعطاهم غاية العطاء، ليصنع منهم فئة مؤمنة طليعية تكون النواة الأساسية لعمل إسلامي واعٍ، منتج وفاعل. وزرع(ره) غرسةً أتت أكلها شباباً، مؤمناً مجاهداً، استشهد منهم من استشهد وينتظر منهم من ينتظر، كلّ في مضمار جهاده، فمنهم علماء الدين، ومنهم الأطباء ومنهم المهندسون، ومنهم العاملون ومنهم الكوادر المؤمنة المجاهدة العاملة، ومنهم المرابطون في سبيل الله.

 

تحت خيمة الإمام

ما كادت الثورة الإسلامية تنتصر بقيادة الإمام الخميني(قده) في شباط 1979، حتى كان السيد عباس(ره) من أوائل الداعين لها والمنفتحين عليها والسائرين في ركب قائدها، وقد بلغ تمسّكه بها وبقائدها حد الذوبان، فلقد أذاب نفسه في الإمام الخميني(قده) وأذاب حركته في الثورة الإسلامية..

لقد رأى السيد الشهيد(ره) في شخصية الإمام الخميني(قده) "أنموذجاً مصغراً لرسول الله(ص) وعيسى(ع) وعلي والحسن والحسين(ع)".

الإمام الخميني (قده) كان بالنسبة إلى السيد عباس(ره) "هو العنوان والمعنى لكل وجودنا، وهو الصاحب والأنيس لنا في كل رحلتنا وغربتنا، وهو الخيمة التي نتفيّأ تحت ظلالها".

لقد ملأ الإمام الخميني(قده) كل وجود السيد عباس وحركته، ونفخ فيه من روحه وقوته الروح والقوة …

لقد ملأ عشق الثورة الإسلامية وقائدها الإمام الخميني(قده) كل أركان السيد عباس وجوارحه، فراح يبث في نفوس الشباب والناس حب الإمام والثورة وأرضعهم كالأم الحنون الولاء لهم والطاعة، ونفخ في روحهم من روح الإمام والثورة…

لقد كان الوفاء والإخلاص للإمام ولخط ولاية الفقيه ميزتان امتاز بهما سماحته واختص بهما دون غيره.

لقد عشق الإمام حدّاً صار يرى الدنيا من خلال عينيه ويرى كل شيء من خلال طلعته البهيّة، لقد جسّد الإمام الخميني لسماحته "الأمل الكبير والحلم الكبير" حلم الأنبياء والأئمة(ع).

وفي المقابل كان الإمام الخميني(قده) يحمل في قلبه الحب الكبير لهذا السيد الذي اختصه، ولأكثر من مرة، بلقاءات منفردة كانت تمتد لأكثر من ثلاث ساعات حتى أنه كان يستبقيه ضيفاً عزيزاً على مائدته الخاصة، التي قال عنها السيد الشهيد أنها "أطيب وجبة طعام تناولتها في حياته".

 

في مواجهة الغزاة الصهاينة

تحرير فلسطين كان حلماً يؤرق السيد عباس(ره) منذ مطلع شبابه، وكان ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي سيواجه فيه الصهاينة.

لقد وفّر الاجتياح الصهيوني للبنان في حزيران 1982 الفرصة المؤاتية للسيد عباس لتحقيق هدفه القديم، لقد جاءت "إسرائيل" إليه في وطنه بدل أن يذهب هو إليها في فلسطين.

وحده التاريخ كان يدرك أن السيد عباس(ره) كان على موعد معه، ووحده القدر كان يعلم الدور الذي ينتظر السيد عباس، فحين انهزم الجميع أمام الزحف الصهيوني وأقرّوا بالهزيمة وتراجعوا، انطلق السيد رافضاً ذلك الأمر الواقع، فمضى بعيداً في المواجهة يحارب بالكلمة والموقف، ويوجّه الحرب ضد إسرائيل بالسلاح وينطلق بعيداً مع كل المجاهدين…

لقد شكل صوت السيد وإخوانه أزيز رصاص يطلق في صدر العدو، وشحذ الهمم في النفوس الميتة والمنكسرة، لقد أدرك سماحته ببصيرته ووعيه السياسي المتقدّم، أن بداية المواجهة مع الصهاينة هي تحطيم حاجز الخوف الذي أحاط بالناس المهزومة بفعل الاجتياح "الناس كانت تنهار وإسرائيل تشعر بالراحة" فكان لابد من عمل يعيد للناس ثقتهم بأنفسهم ويرفع معنوياتهم، وانطلق السيد في هذا العمل من تكليفه الشرعي الإلهي في مقاومة عدو الله والتاريخ والإنسان، وكان لابد وكما قال الإمام الخميني(قده) يومذاك للسيد عباس(ره) "عليكم أن تنطلقوا من الصفر وظروفكم ليست أصعب من ظروفنا".

وبدأ الإعداد، فكان سماحته على رأس الرعيل الأول الذي التحق بصفوف "الحرس الثوري الإسلامي" الذين جاؤوا إلى لبنان للمشاركة في مواجهة الاجتياح الصهيوني صيف 1982، فالتحق السيد بمعسكر "جنتا" وحمل معه كل "حوزته العلمية" بطلابها وأساتذتها، ليشكلوا الكوكبة الأولى في مسيرة المقاومة الإسلامية في لبنان.

وقد كان لحوزة الإمام المنتظر(عج) التي أنشأها السيد عباس(ره)، "فضل الانقلاب الكبير الذي حصل بعد دخول الحرس الثوري، حيث شكّلت الحوزة أحد أهم المعاقل التي اعتمد عليها في انطلاقته الأولى".

وللتاريخ لابد من التأكيد على دور "الحرس الثوري" في صنع فعل المقاومة، حيث يقول السيد الشهيد(ره): "أستطيع أن أقول إن الشباب المسلم، أثناء الاجتياح الإسرائيلي، لو لم تطل عليهم رايات الحرس الثوري، لكانوا وصلوا إلى حد اليأس القاتل، لقد انتشر الرعب الكبير نتيجة استعمال أمريكا والمتعددة الجنسيات و"إسرائيل" كامل شراستها وقوّتها عبر تدخلها المباشر، ولو لم تحصل هذه الإطلالة لقتلت معنويات الناس. لقد شكل وجود الحرس المتنفّس الوحيد للمسلمين في تلك الفترة حيث أخذوا يعبأون بشكل صحيح ضد العدو الإسرائيلي وضد الاستكبار العالمي"، بعدما كان ينثر الأرز على رؤوس المحتلين الصهاينة ويستقبلهم بالورد في العديد من المناطق اللبنانية التي رأت في الاجتياح الصهيوني انتصاراً لها على فريق المسلمين، من هنا ندرك أهمية الدور الذي لعبه الحرس الثوري، هذا "الدور العظيم في تمكين شعب خائر القوى والمعنويات وجعله شعباً ثائراً أخضع الاساطيل والجيوش الأطلسية وإسرائيل وجعل من شعب لبنان أنموذجاً صالحاً للثورات كافةً يُقتدى به".

وهكذا انطلقت عام 1982 مسيرة "حزب الله"، عبر المقاومة الإسلامية التي شاركت أولى مجموعاتها في التصدي لهذا الاحتلال خاصة على مداخل بيروت الجنوبية في خلدة ـ الأوزاعي، والليلكي ـ حي السلم، وكاليري سمعان.

فبعد أن تشرّف السيد عباس وإخوانه بزيارة الإمام الخميني(قده) عقب الاجتياح، ووضعوا سماحته في أجواء الاجتياح وأجواء إمكاناتهم واستعداداتهم لمواجهته أكّد لهم الإمام(قده): "عليكم أن تنطلقوا من الصفر وظروفكم ليست أصعب من ظروفنا" وكانت البيعة للإمام(ره) في بيته وكان دعاء الإمام بالتوفيق. ويعود السيد الشهيد بدعاء خير إمام إلى لبنان، وينطلق مع بعض إخوانه ومجموعة من طلابه في إنشاء "حزب الله"، ويقول السيد عن ذلك: "بعد ذلك دخلنا في العمل السياسي الجهادي بدعم من إخواننا في الحرس الثوري، وانطلق العمل في كل اتجاه، وتحول المسار في لبنان لتحدث ثورة يقل نظيرها، على الأقل على مستوى المنطقة، وهي الثورة الإسلامية المباركة في لبنان، والتي استظلت بظل حرس الثورة الإسلامية، واستطاعت أن تعطي عطاءها الكبير الذي تجلّى على أرض الواقع، وبالأخص من خلال المقاومة الإسلامية التي استطاعت أن تثبت، بعد تضحيات وبطولات كبيرة، أن العدو الإسرائيلي قابل للهزيمة، وأن الحفاة الرازحين تحت غضب الطغاة، هؤلاء الفقراء المساكين، يتمكنون من توجيه أقسى الضربات للعدو".

يقول سماحة السيد حسن نصر الله عن البداية: "عندما بدأنا مع السيد الشهيد(ره) طريق المقاومة الإسلامية وكنّا قلة بعضهم وصف طريقنا بطريق الانتحار، ولكننا كنا نرى فيه طريق الشهادة والانتصار".

 

من عتمة الهزيمة إلى فجر الانتصار

عندما عزّت المواقف والأقوال الجريئة وكلمة الحقيقة، يوم غزت جحافل القتل والغاصبين الصهاينة أرض لبنان، اعتلى سماحته(ره) منابر المساجد والحسينيات، ومضى في الحديث عن مخاطر تهديد المنطقة، أمعن في بعث الروح الإيمانية في صدور وقلوب الشباب المجاهد وفي تصويب بوصلة الجهاد باتجاه العدو الصهيوني، خاصة أنه "ونتيجة سلسلة الهزائم المتكررة أمام العدو الإسرائيلي كانت الأمة تعيش إحباطاً والناس كانت مذعورة"… إلى أن بدأت العمليات العسكرية بشكل متواضع، وبدأ الناس يرون أن هذا العدو هزيل، وأن شباب المقاومة يصطادونه بكل سهولة، وبدأت بعض الانتصارات لفئة مسلمة مؤمنة تعطي أجواء جديدة وترفع معنويات الناس، وأصبح الإنسان المسلم ينزل إلى الشارع ويتحدى العدو الإسرائيلي.

لقد كانت المرحلة الأولى من مراحل المقاومة "مرحلة الكمين" الذي أعطى بعض المعنويات وفرض على "إسرائيل" أن تعيش حالة ردة الفعل على العمليات، التي بدأ الناس معها يشعرون بظلم العدو الصهيوني، أما قبلها فكانوا يشعرون أن المظلوم من جماعات خاصة لا علاقة لهم بها". ويضيف سماحته: "عندما يشعر الشعب بالمظلومية يتحرك تلقائياً، وشعبنا شعر بالمظلومية بعد ردّات الفعل التي قام بها العدو على بعض العمليات العسكرية كالمداهمات والاعتقالات وهذا بدوره أدّى إلى ردّة فعل عكسية من شعبنا تمثّلت في تلك الفترة بالاعتصامات والمظاهرات والاحتجاجات".

"لكن عندما بدأت "العمليات العسكرية النوعية" انتقل شعبنا إلى مرحلة جديدة، "مرحلة الانتفاضات"، يستهزئ فيها بالعدو ويسخر منه، حتى أصبح الطفل في الشارع يلعب بأعصاب العدو بعد أن كان الجيش الإسرائيلي يلعب بالجيوش العربية كلها".

ويتابع سماحته: ثم كانت "العمليات الاستشهادية" التي شكلت فتحاً جديداً ليس فقط على مستوى هزيمة العدو، بل على مستوى رفع معنويات الناس، ولذلك أصبحت عملية الشهيد "أحمد قصير" (فاتح العمليات الاستشهادية) و"أبو زينب"، وتفجير مقر "المارينز" (الأمريكي) وغيرها، موضع تغني هذا الشعب إلى أن بدأت العمليات الاقتحامية النوعية الاستشهادية الجماعية.

فالعملية الاستشهادية الفردية، قد تجد لها فرداً واحداً بسهولة، لكن من الصعب أن تجد مجموعة كبيرة أحياناً تقوم بالعمل الكربلائي، لذلك فإن العمليات النوعية الاقتحامية أعطت زخماً شديداً للناس. فبعد أن كانوا ينظرون إلى تحصينات العدو المتطورة، ويقولون ليس لدينا طيراناً يوصلنا إليها، وبعد أن رأوا بأم أعينهم أن هناك شباباً تحولوا إلى طائرات استعادوا الثقة من جديد".

وهكذا كانت عملية "الحقبان" العملية النوعية البطولية، ثم كانت عملية "بدر الكبرى" النوعية المميّزة حيث ضمّت المجموعة المهاجمة 400 مجاهداً واستهدفت أكبر المواقع، حيث عبرّت عن تطور كمي ونوعي كبيرين لنمط العمليات النوعية الاقتحامية بلحظام تعدد المواقع المستهدفة، واتساع رقعة المنطقة التي نفّذت فيها.

وهكذا كان الانقلاب الكبير الذي تجسّد تحولاً نوعياً في أوساط الناس. يقول السيد الشهيد(ره): "بعد عملية بدر الكبرى كان الرجال والنساء والأطفال يرمون الأرز على المجاهدين ويستقبلونهم بالآلاف وهذا هو الضمير الحقيقي لهؤلاء الناس الذين يجب أن نبدأ بجوهرة قلوبهم ونفوسهم في هذا الواقع الجديد".

إن المقاومة الإسلامية استطاعت وحدها أن توقف الناس على أقدامهم بوجه العدو الإسرائيلي".

لقد "انتقلت المقاومة الإسلامية بالأمة من مرحلة الهزائم المتكررة إلى مرحلة النصر ومن مرحلة الهروب إلى مرحلة الهجوم …" فكانت "المقاومة الإسلامية معجزة تاريخنا المعاصر".

 

هو والجهاد صنوان

كان السيد الشهيد(ره) هو والجهاد صنوان، فإذا ذكر المجاهدون كان أولهم، يكافح أعداء الله الصهاينة بلا هوادة ولا تردد، وإذا دقّت ساعة اللقاء بالله في سوح الوغى وتدافع المقاومون البواسل طلباً للشهادة كان بينهم ومعهم، يشحذ الهمم، ويدافع المعنويات، ويسابقهم إلى طلب الشهادة، ديدنه الجهاد المتواصل لا سيّما في المواقع الأمامية المتقدمة في مواجهة الصهاينة، ولم يترك لحظة واحدة في زمن الاحتلال إلا وشارك المجاهدين عملياتهم كما تقاسم معهم همومهم وآلامهم، وأعطاهم كل شيء، ولم يبخل عليهم بكل ما يملك حتى بروحه وجسده الطاهر.

بعد استشهاد شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب(ره)، انطلق سيد شهداء المقاومة(ره) من بلدته "النبي شيت" في شرق البقاع إلى بلدة "جبشيت" في قلب جبل عامل، حيث حطّ رحاله، مفترشاً عباءته لابساً لامة حربه، وهناك انطلق السيد الشهيد(ره) بعيداً عن زوجته وأطفاله، بعيداً عن أهله وبلدته، انطلق ساعياً بين مدن جبل عامل وقراه، زارعاً الإصرار والتحدي في النفوس الوجلة الضعيفة، لتصبح شامخة قوية، تندفع، ولا تتراجع، تتحدى ولا تتوانى، تكرّ ولا تفرّ، تبذل ولا تبخل …

انطلق مع المجاهدين، يأخذ بيدهم، يشدُّ على أيديهم المباركة، يُقبل نواصيهم، يشحذ هممهم، يلهب حماسهم ووجدهم لأبي عبد الله الحسين(ع)، يُحثّهم بآيات الجهاد وآيات الحرب، يعبّئهم بالدعاء والابتهال، ويُصرّ على توديعهم فرداً فرداً، فيمضون على بركة الله والبسمة تعلو وجوههم.

لم يترك عملية تفوته، اسألوا المجاهدين عنه في "علمان" و"الشومرية" و:بدر الكبرى" وفي "برعشيت" وغيرها، وكان يعرف المجاهدين فرداً فرداً.

استُهدف أكثر من مرة وفي أكثر من موقع. في "بدر الكبرى" استهدفوا موقعه لكنه لم يستشهد، سقطت القنبلة في متراسه إلا أنها لم تنفجر.

في العام 1985، اتخذ السيد الشهيد(ره) من مدينة صورة إقامة له، وذلك في حي الرمل بالقرب من الشاطىء.. كانت المقاومة في ذروة عطائها، وكان نجم السيد (على رغم حرصه على البقاء في الظل) قد بدأ يلمع كقائد للمقاومة، خاصة أنه كان المسؤول عنها..

وقد تحول بيته في صور إلى مرجعية لجميع الجنوبيين، لقد كان أقرب إلى قفير نحلٍ منه إلى بيت سكني، وكان حركة لا تهدأ ما بين استقبال وتوديع، ما بين شؤون الناس وشجونهم، فالسيد كان مشغولاً دائماً، وهموم المقاومين كانت همّه اليومي، كان بينهم يقضي أوقاته كوالدهم… ويحنو عليهم كأبنائه.. لقد عايش المقاومة وعايشته، حتى بات إذا ذكر أحدهما ذُكر الآخر.

أحبّ السيد الشهيد(ره) أهل جبل عامل وأحبّوه، وعاش معهم في النعماء والبأساء، مهذباً، خلوقاً، خطيباً، ورعاً… شاركهم الأفراح والأتراح.

 

نحن نصطادهم

إبان إقامته في صور، سأل أحد الصحافيين السيد الشهيد(ره): "أليست خطيرة إقامتك هنا قريباً من الشاطىء؟ فاليهود قادرون هنا على اصطيادك كسمكة؟!" فابسم السيد ابتسامة عريضة… وقال: "نحن نصطادهم، فالاصطياد عادة يكون من البر إلى البحر وليس العكس". يومها ـ أردف الصحافي ـ "أدركت وبعمق من هو السيد عباس الموسوي، وأي نفس مطمئنة يحمل، وأي دور ينتظره، وأي مصير، وأدركت أنه خرج في طلب الشهادة كما خرج جده الحسين(ع) في طلب الإصلاح لأمة جدّه محمد(ص) وأنه يسعى للشهادة كما تسعى الفراشة إلى السراج…".

 

حينما ادلهمّت الفتنة

استمرت إقامة السيد عباس على أرض الجنوب، متولياً مسؤولية إدارة عمليات المقاومة ضد "إسرائيل" حتى عصفت بأرضه حرب "الفتنة"، حرب "الفتنة" أصعب فترة في حياة السيد عباس، لقد عزّ عليه أن يرى فلسطين لا تبعد عنه سوى بضع كيلومترات وتتمترس خلف حزامٍ أمني فرضه العدو الصهيوني قسراً، ليُربك بطعنةٍ من خلف…

ولما كان الرجل ـ الموقف، والرجل ـ المبدأ الذي يعرف عدوه ويعرف هدفه، حاول وقف "الفتنة"، وعمل على تجنبها واتقاء شرها… لقد آمن بأن المقاومة هي ضد العدو التاريخي للأمة وهو عدو واحد، لابد من الجهاد لإزالته من الوجود، وكل معركة أخرى هي معركة ملهاة، أو معركة تآمر أو على الأقل يريدها الأعداء لإغراق المقاومة في وحول الفتن الداخلية ومستنقعات الزواريب.

ولما أصرّ محركو "الفتنة" على حربهم، لم يخرج ذلك بالسيد عن هدفه الحقيقي، وتعامل مع حرب الفتنة في حدود "معركة الضرورة" لأن "معركة المجاهدين الأساسية التي تربّوا عليها ووُجّهوا إليها هي مع العدو الصهيوني…

لقد أدرك السيد عباس أن "الأعداء من أمريكيين وصهاينة يريدون لساحة المسلمين ـ الساحة التي تزعجهم ـ أن تسبح بالفتن الداخلية، وهذا أخطر ما يُحاك من مؤامرة، فهيّأ وا لذلك كل مناخات الفتنة بين الناس، اغتيالات هنا، وقتل هناك، حتى يتعمق الجرح وينشغل الجميع".

لم يدّخر السيد جهداً ولم يبخل بمسعى من أجل الخروج من كل المعارك الهامشية والمفروضة، إلى المعركة الأساس التي تربى عليها المقاومون واختاروها طواعية.

لقد كان السيد الرجل ـ الرجل الذي كان إذا ما اختلطت حسابات الآخرين وتخربطت ـ كانت حساباته واضحة وجلية "أولية التحرير على أية مسألة أخرى".

لقد أسقطت حرب "الفتنة" شهداء مظلومين كُثر، ورجالاً أحبة يحبهم السيد عباس، وكان منهم الشيخ علي كريم(ره) وأبو حسين درويش ومحمد علي مقلّد والشيخ عبد الكريم قانصو وغيرهم كثير ممن يتمتعون باحترام السيد ومحبته الكبيرة، إلا أن "الأغلى" عنده كانت "مسيرة الإسلام" هذه المسيرة التي تتوجه إلى تحقيق الهدف العظيم".

لم يكن هذا هو موقف السيد عباس حين طاولت حرب الفتنة "حزب الله" و"المقاومة الإسلامية"، ولكن حتى عندما تحركت تلك الفتنة بأدواتها باتجاه مخيمات الفلسطينيين، كان هذا هو موقفه، فكان نصير الحق ونصير المظلوم إلى الحد الذي يقف عنده الظلم ويرتدع…

لقد وقف مع الشعب الفلسطيني ضد المؤامرة التي ساهم فيها بعض زعمائهم آنذاك في "حرب المخيمات" المعروفة أعوام 85 ـ 1986م.

يقول السيد الشهيد(ره): "لقد دافعت عن الشعب الفلسطيني، وبصدري احتضنت أطفالهم في الرشيدية، ومنعنا عنهم المؤامرة، وطالبنا في تلك المرحلة بإبعاد العدوان عنهم".

وبعد أن تم القضاء على "الفتنة" وصمدت المقاومة الإسلامية في وجه مؤامرة اقتلاعها، عاد السيد عباس إلى الجنوب مع تولّيه الأمانة العامة لحزب الله في ربيع 1991، عاد إليه متعالياً على الجراح، متجاوزاً الصغائر، ململماً للأطراف والأشلاء، لينطلق من جديد مع المقاومة الإسلامية في هدفها الأساسي، وفي ديدنها المستمر ضد العدو الصهيوني، عدو الله والتاريخ والأمة والإنسان.

 

بعض مزايا السيد الشهيد

كان يخجل من عوائل الشهداء

كان السيد الشهيد(ره) يعشق المجاهدين، كان يتفقدهم في حياتهم ويزورهم بعد استشهادهم... كانت بوابة الدخول عنده إلى القرى المجاهدة في الجنوب والبقاع، جنات الشهداء حيث مراقدهم.. ثم كان يزور بيوتهم، يتفقد أبناءهم وعوائلهم وآباءهم وأمهاتهم، مباركاً مستفسراً عن آلامهم وأحوالهم، كان دائماً يردد ويقول: "هؤلاء قدّموا أعز ما عندهم من أجل الإسلام، ودفاعاً عن كرامة المسلمين ولابد أن يحظوا بالعناية والتقدير من كل الأمة". وكان دائم الخوف من التقصير بحقهم: "أنا خائف من هؤلاء يوم القيامة أن نكون مقصرين بحقهم وأن لا نكون بمستوى حفظ أمانة دماء الشهداء".

 

حنو ورأفة ورحمة

عُرف السيد في أوساط المجاهدين والمقاومين بالحنون لشدة حبّه لهم، ومقاسمته إياهم أبسط الأمور الحياتية وهمومها.

عندما تجلس إليه لا تشعر بالحواجز بينك وبينه، فعلى رغم حضوره القوي وهيبته ووقاره، لابد أن تشعر في قلبك أنك قريب منه، وكأنك تعرفه منذ زمن طويل.

 

وجهه يذكرك بالآخرة

لقد كان يملك قلباً كبيراً وصدراً واسعاً، وحلماً يمتص كل صدمات الغضب وثرواته. كان قلبه الكبير يتسع حتى لخصومه.

عُرف باحترامه للصغير والكبير، إذا ما حدّث تراه يخاطبك بصيغة الاحترام، وإذا ما عرض رأيه لم يفرضه وإنما يناقشك به..

وجهه دوماً يذكرك بالآخرة، فكان الله يعيش دوماً في قلبه، أخلاقه الرفيعة وحدها كانت أفضل مؤدب ومعلم من دون حاجة إلى الوعظ والكلام.

لم يميز نفسه عن الآخرين، ولم يترفّع لحظة عن أخوته أو عن مرافقيه، يأكل مما يأكلون، وينام معهم ويقاسمهم سراء الحياة وضراءها.

كان سريع البكاء، سخي الدمع لاستشهاد مقاوم، كان يعشق الشهادة والشهداء.. يعزي الخواطر الكسيرة والحزينة، يواسي العوائل المفجوعة بفقد الأعزة، يمسح جراحاتهم، يحتضن أيتامهم، يمسح على رؤوسهم، ويقطف الدموع من عيونهم، ويزرع البسمة على ثغورهم.

كان يملك في نفسه صفات نبوية، ويحمل بين طيّاته روحاً رحمانية، شديد البأس على الأعداء رحيماً مع المؤمنين.

 

منزله في الآخرة

إن سيدنا الشهيد الكبير كما يقول سماحة السيد حسن نصر الله: "لم يكن منزله بيته، وإنما كان منزله سيارته التي كان ينتقل فيها في ليلة واحدة من بعلبك إلى بيروت إلى الجنوب إلى طرابلس فالشام فالجنوب فبيروت فبعلبك، حركة دائمة، كان يعيش في سيارته وكان ينام فيها وكان يأكل فيها".

"كان يقطن وكما كان الفقراء في بيت مستأجر، فيه بعض أثاث مما يقتنيه المستضعفون في بيوتهم.

سيدنا هذا، لم يترك داراً ولا عقاراً ولا مالاً إلا مجموع أثاث بسيط استهلكته السنون ولا يكفي حتى لقضاء دينه…"

عاش في حياته كما يعيش كل المجاهدين، يكتفي بمثل ما يكتفون، ويزع أمواله على حوائج الفقراء والمساكين حيث لم يكن ليقفل باباً في وجههم.

كان يلح عليه والده "دعني أبني لك بيتاً من غرفتين".

فكان السيد(ره) يبتسم ويقول: "إنني أبني في الجنة".

ويجيب الأب الشفوق: "لأولادك من بعدك".

فيردد السيد(ره) بابتسامة أخرى: "إن لأولادي ربّاً يحميهم هو خالقهم وهو يعيلهم".

هكذا كان السيد(ره) يعيش حياته، تواضعاً بلا تكلّف، وقائداً يتقدم الجمع، فيشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش.. أحب المساكين وأنس بالفقراء وعشق المجاهدين وكان دائم الشوق للشهداء… خدم الأيتام بعينيه وبلسم جراحهم … أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.

 

فلسطين في وجدانه

عاش السيد الشهيد(ره) فلسطين في وجدانه، وحمل قضيتها كقضية الجنوب… كان للقدس بقدر ما هو لجبل عامل.

تحدث السيد عباس(ره) عن القدس أكثر مما تحدث عن جنوب لبنان، وتحدث عن الانتفاضة المباركة أكثر مما تحدث عن المقاومة الإسلامية، حمل همّ فلسطين وهمّ الانتفاضة وهمّ أطفال الحجارة… "كان فلسطينياً أكثر مني" (الكلام لأمين عام "حركة الجهاد الإسلامي" في فلسطين. د. فتحي الشقاقي).

السيد عباس "كان قائداً فلسطينياً بالمعنى الأشمل لقيادة فلسطين، وكانت فلسطين في قلبه فأصبح في قلب فلسطين" و"سطر دماءه دليلاً ناصعاً ومعلماً بارزاً على طريق المجاهدين لتحرير فلسطين"، لأن السيد الشهيد(ره) يدرك أن "هذه الأمة التي لا تمتلك من أسباب القوة المادية ما يقيم التكافؤ مع أخصامها، ليس أمامها إلا أن تستنهض أقصى قوة الفعل فيها، وهل من قوة أشد من قوة أمة قررت اختيار الشهادة على الذل، فكانت المقاومة الإسلامية، قوة الفعل الأولى، وكانت الانتفاضة، قوة الفعل الثانية، وكان السيد الشهيد(ره) يعمل على استنهاض كل قوى الفعل في هذه الأمة، فكانت عينه على الجزائر وأخرى على أفغانستان وكشمير، وقلبه على شعوب العالم الإسلامي وبلدان المسلمين.

 

الوعد الإلهي

قبل الاستشهاد، تستيقظ السيدة "أم ياسر".. خير إن شاء الله، إني أرى في المنام أنه بينما كنت و"أبو ياسر" في الجنوب، في قافلة، إذا باليهود يقطعون علينا الطريق، وإذ بإمرأة يهودية تمد يدها من نافذة السيارة فتقطع عقداً من اللؤلؤ يلف عنقي، فتتناثر حبّاته.. وإذ بالقافلة تتابع المسير.

ويُطرق "السامع" برأسه ويقول: علمي يا أخت "أم ياسر" وعلم ذلك عند الله، سوف تتعرضون إلى عملية خطف أو اغتيال من قبل اليهود على أرض الجنوب، وإن ذلك ليس ببعيد.

وتمضي السيدة "أم ياسر" مستبشرة بالوعد الإلهي الذي اقترب، ومما زاد في فرحتها وعزّز اطمئنانها أنه استجيب لدعواها بالاستشهاد مع "أبي ياسر".

وتكثر الرؤى، ويتقاطر الراؤون إلى السيد عباس، ليقصوا عليه ما رأوا، بعضهم أخبره عن موعد مضروب مضى السيد إليه على عجل مصطحباً عائلته، وآخر عن منارة هوت، وثالث عن منبر يخطب عليه السيد، ينفجر فيرتقي السيد إلى السماء مستبشراً... ورابع يحدثه عن موعد له مع صاحب الزمان(عج)، يحث السيد الخطى إليه.. وأخرى كثيرة..

ويبتسم السيد لكل تلك الرؤى، ويربت على أكتاف محدثيه، ويردد مقولته المعهودة: إن شاء الله خيراً، ما أنا بتأويل الأحلام بعارف، امض أيها العزيز إلى من يجيد التأويل..

وتكرّ بعد ذلك الأيام، والسيد يزداد قناعة بدنو الأجل واقتراب الموعد، ويأبى السيد كجدّه الحسين، أن يأتي إليه الموت وهو معلق بأستار الكعبة، ويزداد إصراراً على الخروج إليه.. لقد أبت عليه روحه الكبيرة ونفسه المعطاءة وهمّته الشمّاء الأبية، أن يدركه الموت في برج مشيد تلفّه المتاريس أو في "مفخخة" مجهولة الفاعل، أو في كمين أو حتى الاحتماء داخل سيارة مصفحة ربما دفعت عنه القضاء إلى القدر.. فمضى بنفسه إلى ساح الوغى كجده علي(ع) وعمه الحمزة(ع) غير آبه بالموت ولا ملتفت إلى الوراء.. كرار غير فرار.. وحمل معه كجده الحسين(ع) العيال والأطفال، من كانت له الخيرة منهم ليمض مع الركب.. فكانت الخيرة لحسين، ليمضي دون أخوته في "رحلة العمر التي لا تفوت" كما قال السيد(ره) لابنه البكر ياسر عندما اعتذر عن الذهاب لألم في رأسه.

لقد أعدّ السيد كل العدّة قبل يوم وليلة، فالسيد وعلى غير عادته في مثل تلك المناسبات، جهز كل شيء منذ يوم السبت، فقصّ شعره وشذب لحيته الشريفة، واعتمر عمامة جديدة أحضرت خصيصاً للمناسبة.. عند ذلك حدّق المرافقون في وجه السيد الأسمر.. إذ به صار أبيض وضاءً بالنور كأنه القمر ليلة البدر.. وقرأوا في محياه سفر الشهادة، وأدركوا أنهم غداً مفارقوه..

عند ذلك صرح مرافقوه: سنمنعك غداً من الذهاب إلى "جبشيت"..

فتبسم وقال: ".. لا يحمّلني أحد دمه منكم".

وأمضى السيد ليلته على ضوء الشموع يحضر خطبة الوداع.. حتى إذا فرغ منها ومال الليل عن نصفه، قام السيد في بضع ركعات يعرج بهن في سفره إلى الله، حتى إذا ما فرغ من مناجاة ربه وغسلت دموعه وجنتيه ولحيته.. قام إلى فراشه ليعطي جسده بعضاً من حقه استعداداً للغد.. حتى إذا أذن المؤذن معلناً ذهاب قطع الليل المظلمة، ومبشراً بدلوع الصباح وانبلاجه، قام السيد متنبهاً من غفوته حامداً المولى على عظيم نعمته، وينهض السيد ليوقظ العائلة إلى الصلاة بقبلة حنان يطبعها على جبين أطفاله: "قوموا يا أبنائي للصلاة" وتنهض العائلة كأنها خلية نحل ويضج المنزل في ذلك الفجر بدوي الصلاة والدعاء وآيات الذكر..

العائلة على موعد هذا اليوم.. والسيد قد أعدّ نفسه للقاء الموعد، حتى كأني به لم يفوت شيئاً من المستحبات التي تليق بالمقام حتى غسل الشهادة..

ولما اقترب موعد الانطلاق في رحلة الوداع الأخيرة إلى البلد الذي أحب، كان لابد من الانتقاء، فالعائلة لا يمكن لها أن تمضي جميعها في الرحلة، ولابد من الاختيار، وما بين معتذر لألم في الرأس أو ممتنعة لكثرة الدرس، وآخر لم يشأ الله له الذهاب، رست عملية الاختيار على حسين، ابن الست سنوات، حسين المقاومة، "ابن عزرائيل"(ع) كما كنا نسميه، لنباهته المميزة ووعيه المبكر ولطافته، حيث كان يملأ الحي حركة وحياة وكأنه مجموعة أولاد في ولد، كل ذلك كان يدل على أنه ولد ليموت ولداً، حتى السيد نفسه كان يدرك ذلك في قرارة نفسه، وعبر عن ذلك أكثر من مرة، بأن حسيناً سيموت باكراً.

وحتى تكتمل شروط الاستشهاد، كان لابد من اصطحاب السيدة "أم ياسر"، لأن السيد قد عقد معها رباطاً مقدساً على السراء والضراء، كانت روحها من روحه، تتنفس برئتيه، وتحيا بحياته، ولا يمكن لها أن تستمر دونه.. عاشت له كما عاش هو للأمة.. وهبته حياتها كما وهب هو حياته للآخرين.

وعند الوقت المحدّد للانطلاق، كان برنامج السيد قد تغير، فطلب من مسؤول الموكب، الذي كان من المقرر أن يصعد إلى جانبه، بأن يستقل سيارة أخرى، لأن "أم ياسر" وحسين سيجلسان إلى جانبه، وأردف السيد بالقول: إن شاء الله سوف تستشهد أم ياسر معي".. فتبسم مسؤول الموكب ظناً منه أن السيد يلاطفه حتى لا ينزعج، ومضى في سيارة أخرى..

 

يوم انكسفت الشمس

وانطلق الموكب في الوقت الموعود وبالطريقة التي أراد بها السيد أن يلاقي وجه ربّه، ومضى الرجل الكبير في موكب دون العادي، موكب متواضع جداً لا يليق بشخصه وموقعه، ولا بالمهمة الكبيرة التي خرج لأجلها…

هكذا هو السيد، عوّدنا على التواضع في كل شيء حتى كأنه(ره) أراد ببأسه الشديد في مقارعة المحتل الصهيوني وبتواضعه المميّز التخطيط لاستشهاده..

وكانت جبشيت محط رحال السيد في يوم الشهادة وفي ذكرى شيخ الشهداء(ره)، يوم السادس عشر من شباط لعام1992، ومن على منبر شيخ الشهداء وشيخ الأسرى خطب السيد في الجموع المبهورة بحضوره في الوضع الاستثنائي، وفي الزمن الاستثنائي، وفي المكان الاستثنائي، خطب كلام الأنبياء والأوصياء، كلام هو أقرب إلى وصية منه إلى خطبة.. فكانت خطبة الوداع والوصية الأساس في رحلة الوداع الأخيرة..

وبعد أن ختم خطبته بالوصية الختام "حفظ المقاومة الإسلامية"، عاهد الله ومضى ليقضي شهيداً مع زوجته وطفله حسين في طريق العودة، عندما كمنت له مروحيات صهيونية واستهدفت موكبه، موكب النور، بصواريخ موجهة الكترونياً عن بُعد، ليرتفع السيد وصحبه، وليرتقوا إلى السماء بجوار محمد وآله(ص) والأنبياء والأولياء والصالحين، ولتنكسف الشمس في ذلك اليوم الحزين..

هي الشمس انكسفت حين أغار الليل على موكب النور، مستهدفاً مصباح هدى المقاومة وسيّدها وسراجها المنير..

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً

أعلام الجهاد