الاسم
هو
السيد محد باقر بن السيد حيدر بن السيد
إسماعيل الصدر الكاظمي الموسوي،
ويُكنى بأبي جعفر اسم ابنه الأكبر.
أسرته
ينتمي
السيد محمد باقر إلى عائلة الصدر
المشهورة العلم والجهاد والتقوى،
ويذكر لنا التاريخ طائفة منهم بإجلال
وتقدير منهم: السيد هادي الصدر، والسيد
حسن الصدر، والسيد إسماعيل الصدر،
والسيد محمد الصدر، والسيد صدر الدين
الصدر، والسيد عبد الحسين شرف الدين
الموسوي ابن عم أسرة آل الصدر. وأسرة آل
الصدر من الأسر العربية الأصيلة
الواضحة النسب الكريمة الحسب العريقة
الأصول الزكية الفروع، أما أمه فهي
كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين وهي
أخت العلماء العظام الشيخ محمد رضا
والشيخ مرتضى والشيخ راضي، وأسرة آل
ياسين من الأسر العراقية المعروفة
بالعلم والصلاح والفضيلة والتقى.
مولده
ولد
السيد الشهيد في مدينة الكاظمية في
بغداد سنة 1353هـ المصادف 1935م.
اليتيم
فقد
السيد الشهيد والده وعمره أربع سنوات
إذ توفى السيد حيدر الصدر عن عمر يناهز
الثامنة والأربعين، وقد تولى الإشراف
عليه بعد فقدان والديه وأخيه السيد
إسماعيل الصدر.
سجاياه
الشخصية
لقد
كانت لشهيدنا الغالي روح ملكوتية قد
تمحضت يقيناً وكمالاً، وتجلت طهراً
وصفاء، لا يشوبها شوب من السوء يعيب
طهارتها، ولا يمازجها نزر من الريب
ينقص حظها من يقينها ورسوخها في عالم
الحقيقة، ولا عجب فهي حفيد الكمال،
وسلالة الطهر وعترة اليقين، قد ترادف
النسب والسبب على تنقيتها، وتناهض
الأصل والعمل على الارتفاع بها إلى
بحبوحة الحق أسوة لمن أرادوا الله،
وقدوة لمن عشقوا الذرى والمجد.
إن
العقول الكبيرة كثيرة، والأفهام
المشهورة موفورة، أما النفوس التي
تقاد بزمان العقول، والقلوب التي تملك
أعنتها الأفهام، والسلوك الذي يصنع
على عين اللب وبيده، فتلك نوادر قلت،
وشوارد قد استعصى طلبها، وأعيت على سعي
الطالبين.
إن
شهيدنا الغالي قد استحوذ على القلوب،
وكان له موضع الإعظام قبل النفوس لعمله
قبل علمه، ولتقواه قبل فهمه، ولنزاهته
وقداسته قبل عبقريته وإحاطته، لذلك
عشقه من لا يعرفون العبقريات ليقدروا
أهلها بقدرها، وشغفت به حباً من لا
يدركون العقول النافذة والأفكار
المبدعة ليعظموا أصحابها، ويدينوا
بالإكبار لذويها، ويخفضوا لهم جناح
الذل طاعة وانقياداً.
وأما
عن عبادته رضوان الله تعالى عليه، فقد
كان له من آبائه الأكرمين سجية العشق
الإلهي، وخصيصة الهيام بالباري، فكان
معشوقه دائم الحظور في قلبه، واصب
الشخوص أمام عينيه، لا يفتر عن ذكره
مسبحاً له أو تالياً لكتابه، أو هادياً
إليه منيباً لأحكامه.
مرحلة
التكوين الثقافي عند السيد الشهيد
الصدر
ابتدأ
السيد الشهيد دراسته لمقدمات العلوم
بالكاظمية وهو في سن العاشرة، وفي سن
الحادية عشرة بدأ بدراسة المنطق، وفي
سن الثانية عشر درس الصدر علم الأصول
على يد أخيه السيد إسماعيل، والسيد
إسماعيل كان أستاذ أخيه الأول وعنده
درس المقدمات والسطوح.
حدثنا
أحد فضلاء تلامذته أن السيد إسماعيل
قال عن أخيه "سيدنا الأخ بلغ ما بلغ
في أوان بلوغه" وكان كثير الإعجاب
بأخيه.
وقد
حضر بحث الخارج عند خاله آية الله
العظمى الشيخ محمد رضا آل ياسين وكان
يحضر في بحثه كبار الفقهاء مثل: آية
الله صدر البادكوبي وآية الله الشيخ
عباس الرميثي وآية الله الشيخ محمد
طاهر آل راضي وآية الله عبد الكريم على
خان وآية الله السيد باقر الشخص وآية
الله السيد إسماعيل الصدر. كما حضر عند
خاله الشيخ مرتضى آل ياسين تأييداً
واحتراماً له، وكان خاله الشيخ كثير
الاحترام والحب له. وقد درس السيد
الصدر عند آية الله العظمى السيد
الخوئي منذ سنة 1365هـ إلى سنة 1378هـ وله
إجازة اجتهاد خطية منه ويطلق السيد
الصدر عليه ـ في معرض ذكر نظرياته ـ
السيد الاستاذ. كما أن السيد حضر برهة
من الزمن على الشيخ المذكور ودرس عنده
الفلسفة الإسلامية خصوصاً أسفار ملا
صدراً الشيرازي.
بدأ
السيد بتدريس علم الأصول في 1378هـ
وانتهت هذه الدورة في ربيع الأول 1391هـ.
نال
السيد درجة الاجتهاد وهو في أواخر
العقد الثاني من عمره، وقد دعاه السيد
عباس الرميثي إلى مساعدته في كتابة
تعليقته العلمية، وفي ذلك الوقت
بالذات كتب السيد الشهيد فتاواه على
شكل تعليقة ولا تزال موجودة وتعتبر من
نفائس الكتب.
كتاباته
الأولى
1
ـ فدك في التاريخ: في مطلع حياته وبداية
انفتاحه على الصراع الذي تعيشه الأمة،
عايش شهيدنا الغالي مسئلة رئيسية
ومهمة في التاريخ الإسلامي وقد تركت
آثارا سلبية كثيرة على مسيرة الإسلام
وهي مسئلة الصراع بين الزهراء
وغاصبيها حقها.
وفي
هذا الكتاب نلاحظ السيد مع صغر عمره
دقيقاً في حججه، رقيقاً في أسلوبه،
علمياً في منهجه، مما يدل على إمكانيات
فذة كشف عنها الزمان فيما بعد.
2
ـ غاية الفكر في علم الأصول: وهو من
بواكير نتاجات السيد في علم الأصول
وكان عمره حين كتابته عشرين عاماً فقط،
وهذا الكتاب الذي طبع ونشر سنة 1376هـ
ويحتوي على آراء ونظريات الشهيد في
مجال علم الأصول والتي طرحها في فترة
مبكرة.
العمل
الفكري
وما
يهمنا ذكره هنا هو التصدي الفلسفي
والفكري للاستعمار الكافر الممثل
بمذاهبه المختلفة. لقد عانت الساحة
العراقية في الخمسينات من اشتداد
الحركة الشيوعية التي كانت تركز على
حرب المعتقدات الدينية وتسعى بجد
لانتزاعها من قلوب الأمة. وقد نجحت
حينها نجاحاً شديداً لعدم وجود
المبارز القادر على ردها حتى جاء
الشهيد رضوان الله تعالى عليه فعارض
الدليل بالدليل والحجة بالحجة فسطع
نور الحق. ومن النتاجات المهمة آنذاك:
1
ـ فلسفتنا: ألف هذا الكتاب في 29 ربيع
الثاني 1379هـ أي سنة 1959م. إن هذا الكتاب
دراسة دقيقة وموضوعية للأسس التي تقوم
عليها الفلسفة الماركسية
ودياليكتيتها ودحضها علمياً رصينا.
يقول الشهيد (رض) "فلسفتنا هو مجموعة
مفاهيمنا الأساسية عن العالم وطريقة
التفكير فيه ولهذا كان الكتاب".
2
ـ اقتصادنا: لقد عالج السيد الشهيد
المشاكل الفلسفية الداخلية في الصراع
بكتابة فلسفتنا، ولكن الصراع الذي كان
يتناول في جملة ما يتناول النظريات
الاقتصادية إضافة للإشكالات الفلسفية
وتطرح الشيوعية نظرياتها وكذلك تفعل
الرأسمالية ويبقى الإسلام مغبوناً بين
هذه الاتجاهات ليدخل عنصراً فاعلاً في
ساحة الصراع وسلاحاً بيد الإسلاميين
في معركتهم مع الكفر والانحراف.
شعبية
الفكر الإسلامي عند السيد
لقد
تكونت ونمت وتربت على الخط الإسلامي
الصحيح الذي طرح السيد الشهيد،
وامتلكت رصيداً قوياً في الصراع
ودليلاً قاطعاً في الحجاج، ولكن
المستوى العميق الذي طرحه شهيدنا في
"اقتصادنا وفلسفتنا" لا يمكن
استيعابه من قبل القطاعات الكبيرة من
أبناء الأمة بل هناك صعوبة بالغة حتى
في تدريسه وشرحه؛ لذلك وبعد ثلاث سنوات
من تأليف كتاب فلسفتنا طرح الشهيد كتاب
المدرسة الإسلامية لعموم أبناء الشعب،
وقد ركز كتاب المدرسة الإسلامية على
مبحثين مهمين هما:
1
ـ الإنسان المعاصر والمشكلة
الاجتماعية. وقد تناول فيه المسائل
المهمة التالية:
أ
ـ الإنسان المعاصر وقدرته على حل
المشكلة الاجتماعية.
ب
ـ الديمقراطية الرأسمالية.
ج
ـ الاشتراكية الشيوعية.
د
ـ الإسلام والمشكلة الاجتماعية.
هـ
ـ موقف الإسلام من الحرية والضمان.
2
ـ ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي: وقد
تناول في هذا البحث ما يلي:
أ
ـ ما هو نوع الاقتصاد الإسلامي.
ب
ـ الاقتصاد الإسلامي كما نعوض به.
ويقول
السيد الشهيد في معرض تبيانه لضرورة
المدرسة الإسلامية: "وقد لاحظنا من
البدء مدى التفاوت بين الفكر الإسلامي
في مستواه العالي وواقع الفكر الذي
نعيشه في بلادنا بوجه عام حتى يصعب على
كثير مواكبة ذلك المستوى العالي إلا
بشيء كثير من الجهد، فكان لابدّ من
حلقات متوسطة يتدرج خلالها القارئ إلى
المستوى الأعلى ويستعين بها على تفهم
ذلك المستوى الأعلى وهنا نشأت فكرة (المدرسة
الإسلامية)".
وللشهيد
الكريم مؤلفات كثيرة تتجاوز الثلاثين
مؤلفا وكلها تعد من المؤلفات العظيمة
التي أضفت على المكتبة الشيعية صبغة
التكامل في الطرح الإسلامي وسلبت
الحرية التي كانت بيد الأعداء من أن
المسلمين يفتقرون إلى النظرية
المتكاملة في الطرح، ونذكر هنا إضافة
لما ذكرنا بعض مؤلفات الشهيد رضوان
الله تعالى عليه:
1
ـ البنك اللاربوي في الإسلام.
2
ـ الأسس المنطقية للاستقراء.
3
ـ بحث حول المهدي.
4
ـ بحث حول الولاية.
5
ـ دروس في علم الأصول.
6
ـ بحوث في العروة الوثقى (أربع مجلدات).
7
ـ تعليقة على منهاج الصالحين.
8
ـ لمحة فقهية عن دستور الجمهورية
الإسلامية.
9
ـ المرسل والرسول والرسالة.
10
ـ غاية الفكر في الأصول (خمس أجزاء).
لقد
كتب الشهيد السعيد للأمة الإسلامية في
كل حقول المعرفة الدينية والفكرية،
مراعياً مختلف قطاعات الأمة ـ كما
وضحنا ذلك ـ فكتب لها في نظرية المعرفة
وتفسير الكون ووجود الله تعالى بأسلوب
المقارنة مع المدارس المضادة كالمدرسة
الماركسية والمنطقية الوضعية، وكتب
لها عن المهدي على أساس الحقائق
العلمية والعقلية في إطار المسيرة
العامة للبشرية؛ مجيباً على كل
الأسئلة المطروحة في شخص المهدي، في
كتاب بحث حول المهدي.
وكتب
لها في الرسالة والرسول مثبتاً
بالأدلة القاطعة ربانية الإسلام ونبوة
محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وآله
وسلم ـ في كتاب المرسل والرسول
والرسالة.
كما
كتب الشهيد السعيد في العبادة
الإسلامية، وأوضح بأن العبادة ضمن
إطار الحاجات الثابتة التي يواجهها
الإنسان في جميع العصور على أساس حاجته
للإرتباط بالمطلق مع الإشارة إلى
الدور الاجتماعي في العبادة ذاتها في
كتاب نظرة عامة في العبادات الإسلامية.
هذا ولم يكن السيد الشهيد يكتب للترف
أو للمجد الشخصي، وإنما للأمة
الإسلامية بهدف التحرك الفكري
والسياسي والاجتماعي والجهادي، ومن
أجل تحقيق الحكم الإلهي العادل، ولذا
تميزت كتاباته بالروح الحركية، وعلى
هذا قال الشهيد السعيد في مقدمة كتاب
فلسفتنا "وكان لابدّ للإسلام أن
يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير
ـ الصراع الفكري على أرض الإسلام ـ
ليتاح للأمة أن تعلن كلمة الله وتنادي
بها وتدعو إليها كما فعلت في فجر
تأريخها العظيم، وليس هذا الكتاب إلا
جزء من تلك الكلمة.."، ولكي يجابن
الإنسان المسلم أعداءه بالمنطق الذي
تفرضه المرحلة التي يعيشها، ولكي يطرح
الإسلام بمنطق يتناسب وروح العصر؛
جاءت كتابات الشهيد السعيد ثرية
بالحيوية وتجديدية بمعنى الكلمة،
فأسلوبها يتمتع بالسبك اللغوي المتين
ومنهجيتها حديثة عصرية.
العمل
النسوي في منهج السيد الشهيد
لم
يغب عن ذهن الشهيد صورة العمل النسوي
في أوساط الأمة فتعاهده على طول عمله
الجهادي وأعد له أخته المجاهدة
العالمة آمنة حيدر الصدر "المكناة
ببنت الهدى"، وقد مارست السيدة
الشهيدة العمل للإسلام منذ صغرها،
وكانت تسير مع أخيها في تحركاته،
وتكملها على الصعيد النسوي.
وينبغي
للمتابع لمسيرة السيد الصدر الجهادية
أن ينظر إلى بنت الهدى ونتاجاتها على
أنها الامتداد الطبيعي لعمل السيد في
المجال النسوي. وكان عمل العلوية
المجاهدة بنت الهدى من خلال محورين
رئيسيين هما:
1
ـ المحور الثقافي: إعداد الفتيات
الرساليات من خلال المحاضرات والندوات
ومتابعة عبادة الفتيات ونشر الحجاب
الإسلامي بينهن، وكانت ـ رحمها الله ـ
تشرف على مدارس الزهراء (ع) للبنات في
الكاظمية والنجف الأشرف، فقد كانت
تسافر ثلاث أيام إلى الكاظمية لمتابعة
الإشراف والتفقد للمدرسة فيها.
2
ـ المحور الفكري: وقد كان للسيدة
الشهيدة باع طويل في النتاجات الفكرية
وخصوصاً فيما يتعلق في مجال المرأة،
ويمكن حصره في ميادين مختلفة منها
كتابة القصة: وتعتبر العلوية الشهيدة
رائدة القصة النسوية الإسلامية وقد
أثرت على النساء من خلال هذا الفن، ومن
قصصها:
1
ـ ليتني كنت أعلم.
2
ـ امرأتان ورجل.
3
ـ لقاء في المستشفى.
4
ـ الباحثة عن الحقيقة.
5
ـ ذكريات على تلال مكة.
وغيرها
الكثير من روائع القصص، والتي تقول
عنها الشهيدة هذه البضاعة المسجاة
والمجموعة الإسلامية كمذكرة أخوية
تزداد بها مناعة ووقاية من السموم
الأجنبية الفاتكة وهي بالوقت نفسه
بلسم لجراحها وشفاء لصدرها وقوة جبارة
لبعض نقاط ضعفها..
ولقد
شاركت بنت الهدى السيد الشهيد في جميع
مصائبه حتى نالت شرف الشهادة الرفيعة
معه، وقد سبق منها أن قالت كلمة معبرة
تربط حياتها بحياة أخيها فيها كعمتها
زينب وجدها الحسين ـ عليهما السلام ـ
حيث قالت "إن حياتي من حياة أخي وسوف
تنتهي حياتي مع حياته إن شاء الله".
وقد
قيّم الإمام الخميني (قده) هذه العلوية
الطاهرة بقوله "… وشقيقته المكرمة
المظلومة والتي كانت من أساتذة العلم
والأخلاق ومفاخر العلم والأدب".
ارتباطه
بالإمام الخميني والثورة الإسلامية
المباركة في إيران
كان
الشهيد الصدر مرتبطاً عاطفياً
وسياسياً وفكرياً بالإمام الراحل
الخميني العظيم منذ سنوات كثيرة؛
فنراه يناصر الإمام الخميني (قده) منذ
ثلاثين سنة عبر رسالة يرسلها إلى أحد
أخوانه العلماء يقول فيها "وأما
بالنسبة إلى إيران فإن الوضع كما كان
وأقاي خميني مبعداً في تركيا من قبل
عملاء أمريكا في إيران وقد استطاع أقاي
خميني في هذه المرة أن يقطع لسان الشاه
الذي كان يتهم المعارضة باستمرار
بالرجعية والتأخر لأن خوض معركة ضد
إعطاء امتيازات جديدة للأمريكان
المستعمرين لا يمكن لإنسان في العالم
أن يصف ذلك بالرجعية والتأخر".
ويقول
شهيدنا الغالي في مكان آخر: "لقد
استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يشكل
القاعدة الكبرى لهذا الرفض البطولي
والثبات الصامد على طريق دولة
الأنبياء والأئمة والصديقين، والشعب
الإيراني العظيم بحمله لهذا المنار
وممارسته مسؤوليته في تجسيد هذه
الفكرة وبناء الجمهورية الإسلامية
يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه
فحسب بل كقاعدة للإشعاع على العالم
الإسلامي وعلى العالم كله".
وبعد
نجاح الثورة الإسلامية المباركة وقيام
دولة المستضعفين في إيران طرح الإمام
الفقيد الخميني الكبير (قد) مشروع
دستور الجمهورية الإسلامية وأرسل
حينها برسالة مع ثلة من العلماء
البارزين في لبنان إلى السيد الشهيد
يسألونه عن معالم الدستور الإسلامي
جاء في أحد مقاطعها ".. فالمرجو من
سماحتكم بحكم ما يعرفه العالم
الإسلامي كله عن تبحركم في الفقه وكل
فروع المعرفة الإسلامية وقيموميتكم
الراشدة على أفكار العصر أن تنفعونا
بما يلقي ضوءاً في هذا المجال وتمدونا
بانطباعات عما تقدرونه من التصورات
الأساسية للشعب الإيراني المسلم بهذا
الصدد.. وقد أعطى السيد الشهيد مجموعة
مركزة من المفاهيم حول الموضوع.
وفي
معرض جوابه على هذه الرسالة يقول "فأنا
أشعر باعتزاز كبير يغمر نفسي وأنا
أتحدث إلى هذا الشعب الإيراني المسلم
الذي كتب بجهاده ودمه بطولته الفريدة
تاريخ الإسلام من جديد وقدم إلى العالم
تجسيداً حياً ناطقاً لأيام الإسلام
الأولى بكل ما زخرت به من ملاحم
الشجاعة والإيمان". وبسبب بعض
الحوادث عزم السيد الشهيد إلى الهجرة
من النجف الأشرف، وفور سماع الإمام
الراحل (قده) هذا الخبر أرسل ببرقية إلى
السيد الصدر مطالباً إياه بعدم الهجرة
من العراق لحاجة الحوزة العلمية
والأمة الإسلامية إليه هناك، وهذا نص
البرقية:
سماحة حجة الإسلام والمسلمين
الحاج السيد محمد باقر الصدر دامت
بركاته..
علمنا
أن سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق
بسبب بعض الحوادث، إنني لا أرى من
الصالح مغادرة مدينة النجف الأشرف
مركز العلوم الإسلامية، وإنني قلق من
هذا الأمر. آمل إن شاء الله زوال قلق
سماحتكم. والسلام عليكم ورحمة الله.
روح الله الموسوي الخميني.
وقد
كان رد السيد الشهيد على الإمام القائد
(قده) هو الآتي:
بسم
الله الرحمن الرحيم
سماحة آية الله العظمى الإمام
المجاهد السيد روح الله الخميني دام
ظله
تلقيت
برقيتكم الكريمة التي جسدت أبوتكم
ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي
لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم
العظيمة، وإني أستمد من توجيهكم
الشريف نفحة روحية كما أشعر بعمق
المسؤولية في الحفاظ على الكيان
العلمي للنجف الأشرف، وأود أن أعبر لكم
بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من
المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز
الذي وجد في نور الإسلام الذي اشرق من
جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كله
وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر
والاستعمار الأمريكي خاصة ولتحرير
العالم من كل أشكاله الإجرامية وفي
مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة
فلسطين. ونسأل المولى سبحانه وتعالى أن
يمتعنا بدوام وجودكم الغالي".
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النجف
الأشرف ـ محمد باقر الصدر
وقد
لجأت السلطة البعثية الغاشمة إلى فرض
الإقامة الجبرية على الشهيد الصدر
تخوفاً منه لأي عمل ضد السلطة، الأمر
الذي أقلق الإمام الراحل (قده) فأبرق
إليه ببرقية يستفسر بها عن أحواله،
فأجابه السيد الصدر هاتفياً لعدم
تمكنه من إرسال البرقية نظراً للحجز
الذي مارسه الحكم الظالم ضده، وهذا نص
المكالمة:
سماحة آية الله العظمى الإمام
المجاهد السيد الخميني دام ظله
استمعت
إلى برقيتكم التي عبرت عن تفقدكم
الأبوي لي وإني إذ لا يتاح لي الجواب
على البرقية لأني مودع في زاوية البيت
ولا يمكن أن أرى أحداً أو يراني أحد. لا
يسعني إلا أن أسأل المولى سبحانه
وتعالى أن يديم ظلكم مناراً للإسلام
ويحفظ الدين الحنيف بمرجعيتكم
القائدة، وأسأله تعالى أن يتقبل منا
العناء في سبيله وأن يوفقنا للحفاظ على
عقيدة الأمة الإسلامية العظيمة، وليس
لحياة أي إنسان (قيمة) إلا بمقدار ما
يعطي لأمته من وجوده وحياته وفكره، وقد
أعطيتم للمسلمين من وجودكم وحياتكم
وفكركم ما سيظل على مدى التاريخ مثلاً
عظيماً لكل المجاهدين.
والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.
ولم
تكن ظروف الإقامة الجبرية المشددة
للغاية قادرة على منع السيد الشهيد من
أداء تكليفه الشرعي تجاه شعبه؛ فأصدر
وهو في تلك الظروف الصعبة ثلاث نداءات
إلى الشعب العراقي المسلم يحثهم فيها
على رفض الحكم الدكتاتوري الذي فُرض
على الشعب وأذله طيلة حكم البعثيين،
كما واسى الشعب العراقي ـ في نداءه
الثاني ـ بما يلاقيه من إذلال وقتل
وارهاب على يد البعثيين الكفار، وأعلن
السيد الشهيد في نداءه هذا بأنه قد صمم
على الشهادة حيث يقول: "وأنا أعلن
لكم يا أبنائي (أنني) قد صممت على
الشهادة ولعل هذا آخر ما تسمعوه مني".
كما أفتى في هذا النداء بوجوب العمل
على إدانة الجهاز ـ علنيا ـ والنظام
الحاكم في العراق على جميع العراقيين
في داخل العراق وخارجه ولو كلفه ذلك
حياته. وتحدث الشهيد السعيد في آخر
نداء له لأفراد شعبه مؤكداً لهم ضروة
تلاحم كل أفراد الشعب بكل فئاته
وطوائفه عرباً وأكراداً، شيعة وسنة
ومؤكداً لهم أنه يبذل كل ما في وسعه من
أجل السني والشيعي، العربي والكردي
على حد سواء لأنهم جميعاً أبناء
الإسلام.
اعتقالاته
الاعتقال
الأول: وكان عام 1971م، وقد حاول النظام
الظالم اعتقاله ولكن تدهور حالته
الصحية جعلهم يدخلوه في المستشفى مقيد
اليدين ومربوطاً بسلاسله إلى سرير
المستشفى.
الاعتقال
الثاني: وكان عام 1974م عندما اشتد
التلاحم الجماهيري مع السيد الشهيد،
فاعتقل واقتيد هذه المرة من النجف إلى
بغداد للتحقيق معه.
استشهاده
لقد
خشى الطاغية صدام من وجود السيد الشهيد
حتى وإن كان محتجزاً في بيته فبمجرد
وجوده كان كالكابوس للنظام العفلقي،
لذلك اعتقل السيد المجاهد وأخته
العلوية الطاهرة "بنت الهدى"
بتاريخ 5/4/1980م ونقلا إلى بغداد حيث قام
النظام الكافر بأخس جريمة في سجله
الإجرامي بقتل المرجع المفكر العظيم
ودفن في مدينة النجف الأشرف وذلك يوم
الأربعاء المصادف 9/4/1980م. فسلام الله
عليه وعلى أخته العلوية المجاهدة يوم
ولدا ويوم استشهدا ويوم يبعثان أحياء.
فكر
الشهيد وآرائه الحركية
علينا
أن نقف أولاً عند القاعدة الفكرية،
والفقهية، والسياسية التي انطلق منها
الشهيد الصدر لخوض غمار المواجهة
القاسية. يمكن أن نوجز هذه المنطلقات
والركائز الأولى فيما يلي:
1
ـ أول تلك الركائز التي اعتمد عليها
السيد الشهيد، (ضرورة السعي لإقامة
دولة الحق)، ذلك أن قضية الإمام
المنتظر المهدي (ع) لم تكن تعني في فهم
السيد الشهيد الموقف السلبي من
الأحداث، والابتعاد عن تحمل المسؤولية
الضخمة في توجيه الأمة، وتحصينها،
وحفظ الشريعة، والعمل على تطبيقها
وتركيز دعائمها بل كانت تعني العكس
تماماً. "حينما يراد منا أن نؤمن
بفكرة المهدي.. يراد الإيحاء إلينا بأن
فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي
يمثلها المهدي، تجسدت فعلاً في القائد
المنتظر.. وأن الإيمان به إيمان بهذا
الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له".
2
ـ وثاني تلك الركائز التي اعتمدها أن (الطريق
الثوري هو السبيل لإقامة دولة الحق)
وليس الطريق الإصلاحي، وفي هذا السبيل
فإن بذل الأنفس والدماء من أجل إقامة
دولة الحق أمر مشروع، لا مبرر للتوقف
عنه على حساب الهدف.
من
ناحية فإن مواجهة الظالمين غير ممكن
بدون ذلك، وهم سيقفون أمام كل عمل
إسلامي مهما كان ضئيلاً، ويحاولون
تصفية آخر قلاع الإسلام. وحتى آخر مظهر
من مظاهر الإسلام.
ومع
استحكام قبضة الظالمين، أعداء
الإسلام، لا يكون السبيل إلى إحياء
الأمة وتطبيق الشريعة مجرد النصح
والتوجيه، والإصلاح، بل لابد من خوض
غمار ثورة لا تهدأ، تكون نهايتها لصالح
الإسلام.
هذا
من ناحية، ومن الناحية الأخرى، فإن
أخلاقية الهزيمة التي تعيشها أمة
الإسلام، لا يمكن اقتلاعها، ولا يمكن
إعادة الروح الحية المسؤولة، والتلاحم
الكامل مع الهدف (إقامة دولة الحق) إلا
بدماء زكية، تذكر الأمة بكراماتها،
وبطولتها، وتأريخها المجيد، وتحي فيها
روح الأمل، والطموح والتضحية.
وقد
كان شهيدنا العظيم، يؤكد أنه لابد من
دم كدم الحسين (ع) يعيد للأمة يقظتها،
وحيويتها. يبقى مسألة حساب الأرباح
والخسائر. هل يكون تحمل العطاء الجسيم
في الأرواح والأموال هيناً في سبيل
الهدف المنشود (إقامة دولة الحق)؟
وهل
يكون اقتحام هذا السبيل الدموي،
والتضحية بخيرة أبناء الأمة
الإسلامية، أمراً يتضاءل ويتصاغر أمام
الغاية المطلوبة؟ أم أن التضحية أكبر
من الأرباح؟ والدماء أعز من إقامة حكم
الله؟
في
هذا الحساب كانت رؤية السيد الشهيد
واضحة وقاطعة، إن كل شيء يهون في سبيل
النهوض بالأمة الإسلامية، وإعادة الحق
إلى أهل الحق، وأي تردد في ذلك يعبر عن
انهزامية، وتقاعس من تحمل الدور
الواجب.
3
ـ وثالث الركائز التي اعتمدها الشهيد
الصدر في حركته المواجهية، أن الفكر
الإسلامي استطاع أن يهزم حضارة الشرق
والغرب، وانتصر الإسلام في معركة
الفكر والحضارات، ويبقى الانتصار
السياسي.
لقد
استطاع الشهيد العظيم شخصياً أن يطرح
الفكر الإسلامي للأمة الإسلامية
وللعالم أجمع، طرحاً حياً معاصراً،
مؤكداً بذلك حقيقة أن الفكر الإسلامي
لا يغلب في شتى المجالات. لكن الفكر
وحده لا يستطيع أن يصنع كل شيء.
وأعداء
الأمة الإسلامية، والكفر العالمي، لئن
لم يستطع منازلة الفكر الإسلامي، فإنه
قد استطاع أن يضلل أبناء الإسلام
ويحجبهم عن حضارتهم الإسلامية،
متوسلاً إلى ذلك بكل السبل المتاحة له،
بما فيها مطاردة الحريات، وتصفية حملة
الرسالة، وخنق الأمة عن ممارسة حتى
شعائر إسلامها.. الفكر وحده لا يستطيع
أن يصنع كل شيء. لابد من قيادة إسلامية
مغامرة. لابد من قيادة تقصم ظهر
الظالمين، وتكسر عن الأمة الإسلامية
طوق الحصار الشامل.
هكذا
كانت رؤية المفكر العظيم والشهيد
العظيم. وبوحي من ذلك فإن عليه أن يكون
شهيداً عظيماً، كما كان مفكراً
عظيماً، عليه أن يتقدم صفوف الأمة
جهاراً، وإن كلفه ذلك حياته، لكن هذا
هو الجزء الآخر من الواجب.
4
ـ المرجعية الدينية هي المسؤولة عن
توجيه الأمة فكرياً، وقيادتها سياسياً.
وعلى
المرجعية الرشيدة أن تتصدى لأداء هذه
المهمة العظيمة في كلا جانبيها
الفكري، والسياسي.
وفي
هذا كتب الشهيد الصدر يقول:
يمكن
تلخيص أهداف المرجعية الصالحة في خمس
نقاط:
1
ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن
بين المسلمين.
2
ـ إيجاد تيار فكري واسع في الأمة.
3
ـ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية
للعمل الإسلامي.
4
ـ القيمومة على العمل الإسلامي.
5
ـ إعطاء مراكز العالمية من المرجع إلى
أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية
للأمة.
5
ـ والمرجعية الدينية ليست مسؤولة فقط،
بل هي وحدها القادرة على توجيه الأمة،
وقيادتها ثم ضمان المسيرة، وتأمينها
من الانحرافات المحتملة. وهذا جانب من
اطروحة (خط المرجعية) الذي تبناه
الشهيد الصدر.
إن
المرجعية من خلال نفوذها في عمق الأمة
الإسلامية هي وحدها القادرة سياسياً
على النهوض بالأمة، ومن ثم استلام زمام
الحكم والدولة.
"إن
الشعب.. يحقق نجاحه في نضاله بقدر
التحامه مع قيادته الروحية، ومرجعيته
الدينية الرشيدة التحاماً كاملاً."
هذا
مضافاً إلى أن:
المرجعية
الدينية والقيادة الروحية هي الحصن
الواقي من كثير من ألوان الضياع
والانحراف.
وهذه
نقطة فرق أساسية، وحد فاصل بين أطروحة (خط
المرجعية) التي تبناها السيد الشهيد
وبين الأطروحة الحزبية، التي ترى أن
الأحزاب والتنظيمات السياسية هي
الأقدر، والأجدر سياسياً على المسك
بزمام الأمة، والنهوض بها نحو إقامة
الحكم الإسلامي.
لقد
اكد السيد الشهيد دوماً على أن الأحزاب
والتنظيمات الإسلامية السياسية رغم
ضرورتها، وقدرتها على التأثير في جسم
الأمة. إلا أن خط المرجعية الممتد في
جسم الأمة بكافة مستوياتها وطبقاتها
من خلال (الروحانية) هو الأقدر من ناحية
سياسية، (ووحده من الناحية الشرعية كما
سيأتي) على تحقيق الثورة الإسلامية
الناجحة بدءاً ومستقبلاً.
ومن
ناحية ثالثة فالمرجعية الدينية هي
وحدها التي تملك حق الشهادة، والولاية
الشرعية على الأمة، وبالتالي فإن
شرعية التحرك السياسي يجب أن تستمد
منها:
"خط
الشهادة ـ القيادة والولاية ـ يتحمل
مسؤولية المرجع على أساس أن المرجعية
امتداد للنبوة والإمامة على هذا الخط".
ويمكن
أن نحلل هذه النقطة في فكر السيد
الشهيد إلى أمرين:
الأول:
ولاية الفقيه على الأمة، ونفوذ
أوامره، وأحكامه عليها من ناحية شرعية.
الثاني:
أن هذه الولاية ليست لكل فقيه، إنما هي
فقط للفقيه المرجع، الذي أعطته الأمة
قيادها، ودانت له بالولاء والطاعة.
يتحدث (رحمه الله) عن المرجعية قائلا:
"يجب
أن يتوفر في الشخص الذي يجسد هذه
المقولة:
أولاً:
صفات المرجع الديني في الاجتهاد
المطلق والعدالة.
ثانياً:
أن يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته
وأبحاثه واضحاً في الإيمان بالدولة
الإسلامية وضرورة حمايتها.
ثالثا:
أن تكون مرجعيته بالفعل في الأمة
بالطرق الطبيعية المتبعة تأريخياً".
الثورة
الإسلامية في إيران
وفيما
يتعلق بالثورة الإسلامية في إيران فرغ
السيد الشهيد من القضايا التالية،
معتبراً إياها حقائق أساسية بنى عليها
موقفه العملي تجاه الثورة:
أولا:
أصالة الثورة وإسلاميتها. وهي إسلامية
في أصل حدوثها وإسلامية في طريقة
تحركها، وإسلامية في الأهداف التي
تطمح لها. وفي رسالته التي أبرقها
للشعب الإيراني المسلم أيام الثورة
قال:
"..
في كل هذه الملاحم ـ ملاحم الثورة ـ
نلاحظ أن الروح الدينية كانت هي المعين
الذي لا ينضب للحركة، وأن الشعارات
الإسلامية العظيمة كانت هي الشعارات
المطروحة على الساحة، وأن المرجعية
الرشيدة كانت هي الزعامة التي تلتف
حولها جماهير الشعب المؤمنة وتستلهمها
في صمودها وجهادها".
ثانياً:
وإذا كانت هناك احتمالات تشاؤمية تقول
أن الثورة سوف تسرق من يد الإسلام،
وتعود قبضة المستعمر الكافر أشد وأقسى
رغم التضحية بعشرات الآلاف من أبناء
الأمة. فقد كان السيد الشهيد يفهم أن
هذه الاحتمالات ستكون حقيقة، وتتحول
إلى واقع في فرض واحد وهو أن تخذل هذه
الثورة من قبل علماء الدين ومراجع
الأمة، أما إذا انتصر كل علماء الدين
ومعهم الشعب، لهذه الثورة، وجهدوا في
توجيه وتصحيح مسارهان فإن احتمال
سرقتها ومصادرتها من قبل المفسدين
والمتآمرين يصبح هزيلاً.
ومعنى
ذلك أن أي تساهل وتقاعس منبثق عن
التشكيك في إسلامية هذه الثورة، أو
التشكيك في مستقبلها، هو هروب عن
المسؤولية، وخذلان الحق الذي يجب أن
ينتصر له.
ثالثاً:
ولئن استطاعت ثورة الشعب المظفرة في
إيران أن تنتصر، وتبرهن لكل العالم عن
شموخها، وشموخ إسلامها، وعظمة
قيادتها، فإن على أبناء الأمة
الإسلامية في كل مكان أن يجهدوا لتكرار
هذه التجربة في أوطانهم، والسعي لطرد
المستعمر الكافر، وتطبيق حكومة
الإسلام. إن الثورة الإسلامية يجب أن
لا تبقى بتراء، ولا معزولة، ولا
إقليمية، وأنها في إيران إنما تعبر عن
نموذج رائع، على المسلمين الطموح في
أوطانهم، وفي العالم كله.
دراسة
مقارنة لظروف الثورة
كانت
هناك تأملات طويلة أجرها السيد الصدر
وهو يفكر في التحرك السياسي المواجهي
ضد حكومة البعث في العراق.
هذه
التأملات كانت تنصب على المقارنة بين
ظروف الثورة في كل من إيران، والعراق،
من زاوية الشعب، والسياسة الحاكمة،
وقيادة المرجعية للثورة، ونفوذ
الروحانية وحجم تواجدهم في الأمة.
من
هذه الزوايا الثلاث كانت تبدوا فوارق
أساسية بين (إيران) و(العراق)، تفيد أن
الشروط الموضوعية لنجاح الثورة في
العراق ما تزال غير مكتملة.
1
ـ لقد كانت درجة الوعي الديني والسياسي
للشعب المسلم في إيران أكبر منها بكثير
في الشعب العراقي، إلى حد ممكن القول
معه، أن الوعي الديني والسياسي في
العراق كانت مفقوداً ما عدا في فئة
قليلة من الناس وفي خصوص المثقفين منهم.
ومهما كانت العوامل وراء ذلك ـ وهي
عديدة ـ فإنها لا تغير من صحة الملاحظة
المذكورة، ويبقى الفارق في درجة الوعي
فارقاً ضخماً وملحوظاً جداً.
2
ـ على أن سياسة النظامين (الشاهنشاهي
في إيران والبعثي في العراق) تختلف
اختلافا استراتيجياً. فالخندق الموجود
في العراق، وتظاهر النظام بأنه عدو
لأمريكا، وللأمبريالية العالمية،
والقبضة الحديدية الإرهابية تجعل ظروف
الثورة في العراق صعبة جداً ولا يمكن
مقايستها بإيران. لقد كانت هوية الشاه
الأمريكية واضحة ومكشوفة لدى الشعب.
وكانت الأيادي اليهودية متحكمة في
إيران علناً. وكما أن الحرية ـ مهما تكن
شكلية ومقنعة ومضغوطة ـ كانت محفوظة في
إيران، بينما استعباد عقول الناس
وضمائرهم في العراق كان هو المحفوظ
علناً.
3
ـ كما أن الروحانية (رجال الدين). كانت
نافذة في كل سطوح الشعب الإيراني
المسلم، وعلاقة الشعب بها علاقة ملؤها
الثقة والاطمئنان والمحبة. وهذا على
العكس تماماً هو في العراق،
فالروحانية ضعيفة جداً ومغلقة على
نفسها، وليس لها امتداد إلى صفوف الأمة
إلا فيما ندر. ونحن نعرف أن (الروحانية)
كانوا هم الأصابع الأساسية المحركة
للثورة الجماهيرية في إيران، أما إذا
فقدتهم الساحة العراقية، أو كان
وجودهم ضعيفاً للغاية، فإن إمكانية
التحرك الجماهيري ستكون شبه مستحيلة.
ومن
ناحية أخرى فإن معظم (الروحانيين) في
العراق لم تكن الثورة الإسلامية أمراً
يهمهم، فهم أقرب إلى العقود منهم إلى
الحركة، وطموحهم إلى إقامة حكم إسلامي
مفقود إلى درجة الصفر، بل كانت ثقتهم
مسلوبة تماماً بالثورة الإسلامية التي
نجحت في إيران، فكيف يتوقع منهم
المشاركة في تحرك إسلامي في العراق على
غرار ما حدث في إيران.
إذن،
معظم الروحانيين في العراق لم يكونوا
متعاطفين مع التحرك الإسلامي، مما
يعني أن الأصابع التي تحرك الجماهير
العراقية كانت ضعيفة أو مفقودة. ولعل
هذا أهم العوامل التي فتت بعضد الثورة
وبعضد السيد الصدر حين عزم على مواجهة
حكومة البعث. وقد كان السيد الصدر
مدركاً لهذه لحقيقة تماماً، ووضعت
للدرس والتأمل لدى المقارنة بين ظروف
الثورة في كل من إيران والعراق.
4
ـ كما أن مرجعية السيد الصدر ذاته لم
تكن تستوعب تمام الشعب العراقي، وهذا
تماماً على عكس مرجعية الإمام الخميني
حين قاد الثورة في إيران. وهذه نقطة فرق
أخرى تجعل الثورة في العراق أصعب وأبعد
عن النجاح.
لقد
لاحظ السيد الشهيد تماماً هذه النقاط
الأربعة. وقبل أن يبدأ بالتحرك
الجماهيري كان قد وضعها قيد الدرس. ومع
ذلك فقد صمم على البدأ بالتحرك
المتناسب مع حجم مرجعيته، وطبيعة
الظروف المشار إليها سابقا. لماذا؟
الحسابات كلها تشير وتؤكد أن الثورة في
العراق تواجه الطريق المسدود، فلماذا
بدأها السيد الشهيد؟
ملاحظات
إيجابية
وقبل
أن نجيب على هذا السؤال، يجدر أن نشير
إلى أن انتصار الثورة الإسلامية في
إيران أحدث (والكلام عن الساحة
العراقية) تغيرات هامة وضعها السيد
الشهيد بالحساب، وتعتبر هذه التغيرات
نقاط إيجابية تؤيد الشروع بتحرك
إسلامي عريض وسريع في العراق. كان من
أهم تلك التغيرات الجديدة ما يلي:
أولاً:
تصاعد ثقة الشعب بالإسلام كنظام قادر
على الحكم، وتصاعد ثقتهم بعلماء الدين
الذين استطاعوا بقيادة الإمام الخميني
أن يحطموا أكبر عرش في الشرق الأوسط.
ثانياً:
تصاعد الطموح إلى حكم إسلامي، والخلاص
من الأنظمة الوضعية البعيدة عن
الإسلام. رغم أنه تصاعد عاطفي إلى حد
كبير، إلا أن التفريط به وإهماله لا
يمكن أن يكون لصالح التيار الديني،
ومحاولة تعميقه.
ثالثا:
ولئن كان الشعب العراقي ينقصه كثيراً
عنصر الوعي الديني والسياسي، كما أنه
يقل في صفوفه تواجد حملة الرسالة
والوعي من رجال الدين (الروحانيين)،
فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران
قد مكّن ويسّر الاتصال بالشعب العراقي
اتصالاً مباشراً عن طريق (المذياع)
اتصالاً في مجال التثقيف الديني،
والتوعية السياسة، وهو اتصال مباشر قد
يخفف إلى حد ما (ولو قليل جداً) من مشكلة
ضعف وجود الروحانية في الساحة، وقلة
الوعي الديني والسياسي لعامة الشعب.
هذه
الملاحظات الإيجابية وضعها السيد
الشهيد في الحساب لدى المقارنة بين
ظروف الثورة في إيران، وظروف الثورة
الإسلامية المزمع عليها في العراق. لكن
هل كانت هذه الملاحظات الإيجابية،
والتغييرات المستجدة بحجم تلك الثغرات
التي تشهدها الساحة العراقية، والتي
تجعل الفاصلة بينهما وبين ظروف الثورة
في إيران كبيرة جداً؟ وهل كانت هذه
الملاحظات الإيجابية ـ بالحساب
السياسي ـ أقوى من الملاحظات السلبية
التي أشرنا إليها آنفاً؟ وكم هو احتمال
نجاح الحركة في العراق مع أخذ مجموع
تلك الملاحظات بعين الاعتبار؟ النتيجة
مرة أخرى ليست حسنة، ولا مشجعة!
وما
تزال الشروط الموضوعية لنجاح الثورة
غير مكتملة أبداً! ومع ذلك فقد أزمع
السيد الشهيد على الحركة، وهو عارف
مقدماً بمستقبلها.. لماذا؟ هل كان
اندفاعه عاطفياً!؟ أم هل كان عملاً
انتحارياً!؟ أم هل كانت غفلة عن تلك
الحسابات الواضحة عنده!؟ لم يكن هذا
ولا ذاك!
إن
ثورة الإمام الحسين (ع) تواجه نفس هذه
الأسئلة، وفلسفة ثورة الحسين (ع) ـ إذا
استوعبناها ـ تعطينا التحليل الكامل ـ
من زاوية دينية ومن زاوية سياسية ـ
لحركة حفيد الحسين (ع) السيد الصدر.
ممكن أن نوجزها سريعاً في النقاط
التالية:
أولاً:
معالجة أخلاقية الهزيمة التي هيمنت
على الأمة، وزرع روح التصدي والمعارضة
والرفض فيها.
ثانياً:
تعرية النظام الحاكم، وكشف هويته
الكافرة للشعب، ولو كان ذلك يكلف حياة
السيد الشهيد نفسه.
ثالثا:
أن المواجهة مع نظام البعث لا مفر منها
إلا بالتنازل عن الوجود الإسلامي
تماماً ذلك أن نظام البعث كان يحسب
للسيد الشهيد (بوصفه رمزاً للتيار
الإسلامي) أنفاسه، وحركاته الصغيرة
والكبيرة، وهو يتربص به الدوائر في كل
لحظة، فلم يكن السكوت أدعى إلى الأمان
من التحرك.
وكما
كان الإمام الحسين (ع) مقتولاً، ولو
تعلق بأستار الكعبة، هكذا كان السيد
الصدر. كان لابد أن يمسك زمام المبادرة!
كان لابد أن يفاجئ النظام قبل أن يقتل
وهو على الفراش، وتقتل الأمة كلها. كان
لابد أن يكتب بدمه لأمته أن الكفر هو
الذي يحكمهم وأنهم لابد أن يصارعوه،
قبل أن يبادر العدو إلى قتله، ثم يمسح
على آثار الجريمة، ويكون الصدر قتيل
الجن! وليس قتيل البعث الكافر.
هذه
أبعاد موجزة وسريعة جداً نلفت إليها
نظر الباحثين عن البعد الديني
والسياسي لحركة السيد الصدر، حفيد
الرسول (ص)، وحامل علوم القرآن، ورافع
راية الإسلام.
وبالتأكيد
فإننا لم نسجل في هذا العرض إلا
الإشارة السريعة تاركين إلى القارئ
متابعة البحث والتأمل. وأخيراً:
لم
يكن السيد الصدر مفكراً إسلامياً
عظيماً فحسب. لقد كان مفكراً، وكان
سياسياً، وكان ثائراً، من أجل يقظة
أمته، وهاهو قد فداها بدمه، فماذا كان،
وماذا سيكون؟
الضبط
الحوزوي
نتيجة
لفقدان المرجعية الرشيدة في هذه
المرحلة التي نؤرخ لها ونتيجة لضغوط
السلطة الكافرة ومكائدها، عمت الحوزة
العلمية حالة من الضياع العلمي ـ إن صح
التعبير ـ وعدم السلامة في التوجه
الديني والسياسي لدى الكثيرين، الأمر
الذي دعا سيدنا الشهيد رضوان الله عليه
للتفكير في التغلب على هذا الخطر،
فلابد إذن من بناء الأشخاص الداخلين في
سلك الحوزة على روح الجد والاتقان
العلمي، كما لابد من رقابة التوجيهات
السياسية والأخلاقية للجيل الحوزوي
الذي يراد بناؤه من أجل الوصول إلى
حالة الضغط الحوزوي، والاتقان العلمي،
وسلامة الوسط الحوزوي من مختلف
الأمراض والانحرافات الفكرية
والنفسية، قام السيد الشهيد بعدة
أعمال، وطرح عدة مشاريع، واستطاع بها
أن يبذر البذرة الأولى للضغط والاتقان
والسلامة.
لقد
شجع الدراسة الخاضعة للإشراف المدرسي،
فكانت (الدورة العلمية التي أسسها
المغفور له السيد الحكيم رضوان الله
عليه محل رعاية السيد الشهيد الكاملة
حتى كان تلامذته هم الموجهون
والمدرسون والمشرفون عليها.. كما شجع،
عموماً رقابة الوضع العلمي والأخلاقي
والسياسي للطلبة، وذلك من خلال
امتحانات دورية تشرف على السير
الدراسي لهم، وتضع لهم المنهج الصحيح،
وتقدم لهم التوصيات اللازمة، واضافة
إلى أنها مجال تقييم الاشخاص
واكتشافهم.
ومن
جملة ما عمله السيد الشهيد في هذا
السبيل مشروع (المدارس الخاصة)، الذي
يهدف إلى تنظيم وضع المدارس العلمية
بحيث تتكفل برعاية شؤون الطلبة
المعيشية والسكنية، شريطة أن يخضع
طالب العلم لإشرافها وتوجيهاتها..
ومجمل هذه الأعمال والمشاريع قد
شرحناه في كتاب الجهاد السياسي للسيد
الشهيد الصدر ندعو القارئ الكريم
لمراجعته.
الارتباط
الحقيقي بالمرجعية
وقد
جهد السيد الشهيد في تأكيد الصلة بين
طلبة العلوم الدينية في الحوزة وبين
المرجعية الرشيدة بوصفها الموجه
الحقيقي الأول. فقد كانت الحوزة
العلمية تشكو حالة تحلل من ناحية،
والارتباط بقيادات أخرى غير المرجعية
الدينية، من ناحية أخرى، وكلا هذين
الأمرين! التحلل والارتباط بقيادة
أخرى، كانا يمثلان في تصور السيد
الشهيد خطر على مستقبل الحوزة العلمية.
من
هنا فقد جهد في معالجة كلا هذين
الأمرين. أما فيما يخص الأمر الثاني
فقد أصدر ـ قدس الله نفسه الشريفة ـ
فتوى قاطعة بتحريم ارتباط طلبة العلوم
الدينية بأية قيادة أخرى غير قيادة
المرجعية الدينية، وتحريم انتمائهم
إلى كتلة وكيان تنظيمي غير الكيان
الحوزوي الذي يرتبط بالمرجعية الدينية
وبباقي الفقهاء والعلماء، وباعتقادنا
أن السيد الشهيد بهذا الموقف العظيم قد
رسم خطاً سليماً لسير الحوزة نحو
الرشد، وانقاذها من مهوى سحيق كانت
تنزلق فيه.
الروح
الجهادية
في
الوقت الذي كانت فيه الروح الجهادية في
الحوزة العلمية تقترب نحو الأفول، جاء
سيدنا الشهيد ليبني جيلاً حوزوياً
مجاهداً يعرف العلم بوصفه طريقاً
ووسيلة، طريقاً لإحقاق الحق وإزهاق
الباطل، فكان يبث في تلامذته هذه من
خلال القول ومن خلال العمل حتى كانت كل
حياته وعمره الشريف حياة جهاد مرير،
ومطاردة وملاحقة من قبل الظالمين،
وحتى قدم بشهادته الشريفة منهجاً لكل
علماء الدين، وطلبة العلوم الدينية،
ونقلهم من حالة المواجهة والوقوف بوجه
الباطل.
إننا
نعتقد أن هذا الأمر كان تغييراً كبيراً
في عالم الحوزة العلمية التي كانت تعيش
في النجف الأشرف وإلى يومنا هذا، ولا
تظهر قيمة هذا الدرس العظيم بعدة من
تلامذته المجاهدين إنما تظهر بسير
جهادي كامل رسمه السيد الشهيد للحوزات
العلمية على مدى عمرها وحتى يأذن الله
تعالى لوليه بالفرج.
أود
هنا أن أشير إلى حقيقة مأساوية مرة..
وكان الاعتزال لطلب العلم هو مقياس
الفضول والشرف، أما السيد الشهيد فقد
استطاع بجهاده، وتربيته ثم شهادته أن
يغير هذه المقاييس الباطلة التي كانت
تحول دون الوصول إلى حوزة رشيدة..
فلسفة
الشهادة
في
ضوء هذا الظرف السياسي والاجتماعي،
وفي ضوء فهم معمق لوضع الأمة ومستوى
تحملها، ومدى وعيها، لم تكن حركة السيد
الشهيد هادفة إلى إطاحة النظام الحاكم
بالفعل، بمقدار ما هي هادفة إلى تعرية
هذا النظام، وايقاظ ضمير الأمة الذي
مات أو يوشك أن يموت!! أكثر من مرة قال
السيد الشهيد:
(إن
الأمة تحتاج إلى دمي)
(الأمة
لا يوقظها إلا دمي)
(الأمة
لا تتحرك إلا إذا أعطيناها دماءنا).
ودم
السيد الشهيد لا يمكن أن يكون وحده، إن
معه دماء أصحاب الحسين (ع).
في
هذه المرحلة، وفي ظل هذه الظروف، فإن
الشهادة هي السبيل الوحيد القادر على
الانتصار، كما انتصر دم الإمام الحسين
على طاغية زمانه يزيد بن معاوية (لعنه
الله).
|