آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر

 

الشهيد المظلوم محمد حسيني البهشتي

 

الشهيد آية الله بهشتي يتحدث عن نفسه

المولد والنشأة والدراسة

أنا محمد حسيني بهشتي، ويقال لي بعض الأحيان خطأً محمد حسين بهشتي.. إنّ اسمي محمد ولقبي حسيني بهشتي وهو لقب مركّب من حسيني وبهشتي.

ولدت في (24/10/1928) في وسط عائلة دينية في مدينة اصفهان في محلة لومبان، وهي من المحلات القديمة جداً في اصفهان، كان والدي من رجال الدين ويعمل في المدينة لتدبير معاشه عدة أيام من الاُسبوع فقط ويتوجه إلى إحدى القرى القريبة من اصفهان ليلة في كل اُسبوع لإقامة صلاة الجماعة فيها والإجابة على أسئلة أهاليها وتسيير أمورهم.

بدأت التعلم في احدى الكتاتيب منذ سن الرابعة وتعلمت القراءة والكتابه بسرعة فائقة خاصة قراءة القرآن الكريم واشتهرت بين عائلتي بالذكاء، ولعلي حصلت على هذه الصفة بسبب سرعة تعلمي القراءة والكتابة.. ثم ثروت التي سميت فيها بعد بمدرسة (15 بهمن). دخلت امتحاناً لتعيين الصف الذي يجب أن أواصل دراستي فيه، وأسفرت نتيجة الامتحان عن أهليتي لمواصلة دراستي في الصف السادس، ولكن بسبب صغر سني لم استطع دخول الصف السادس وقبلت في الصف الرابع الابتدائي.. أنهيت المرحلة الابتدائيّة فيها محرزاً المرتبة الثانية في امتحانات السادس الابتدائي في اصفهان. بعدها سجّلت في متوسطة سعدي وأنهيت العام الأول والثاني فيها.. شهدت أحداث عام 1941م التي أوجدت الرغبة والشغف في قلوب الشباب لدراسة المعارف الإسلاميّة..

 

مرحلة دراسة العلوم الدينية

لقد أوجدت هذه الأحداث في نفسي شوقاً كبيراً لترك الدراسة الحكومية والالتحاق بالمدارس الدينيّة والدخول في سلك رجال الدين، وعليه تركت دراستي المتوسطة عام (1942م) وانخرطت مع طلاب العلوم الدينيّة في مدرسة الصدر باصفهان.. درست الأدب العربي والمنطق والفقه والاُصول خلال الفترة من عام 1942 إلى عام 1946. أنهيت هذه الدروس بسرعة فائقة بسبب حصولي على الأرضية الكافية قبل بدء دراستها. وقد كان سرعة تعلمي لهذه الدروس السبب في اعتناء ولطف الحوزة العلمية في مدرسة الصدر بي.. ونظراً إلى أن جدي (من اُمي) المرحوم حاج مير محمد صادق المدرّس خاتون آبادي قد كان من العلماء اللامعين.. وتوفى حين كنت في العام الأول من العمر فقد اعتبرني الأساتذة الذين درسوا على يد جدي المرحوم ذكرى لاُستاذهم..

مارست التعليم خلال فترة دراستي العلوم الدينية أيضاً.. في عام 1944م طلبت من والديَّ الإذن كي يسمحا لي أن أسكن في مدرسة الصدر لأتفرغ بشكل تام للدراسة وأتخلص من ضياع الوقت في ذهابي وإيابي من المدرسة إلى البيت وبالعكس حيث كان منزلنا يبعد (4 ـ 5) كيلومترات عن المدرسة فقضيت حياتي ما بين عامي 1944 و 1945 م في مدرسة الصدر باصفهان وكنت في نهاية مرحلة دراستي للفقه فقررت الذهاب إلى مدينة قم لمواصلة الدراسة. والجدير بالذكر أنّ دراستنا في المرحلة المتوسطة كانت تتضمن تعلم اللغة الفرنسية، لكن اللغة الانجليزية كانت أكثر رواجاً في المجتمع فعليه قررت تعلم اللغة الانجليزية في العام الأخير من دراستي في مدينة اصفهان، وبهذا تعلمت مقدمات هذه اللغة بمساعدة أحد أقاربي الذي كان يتقنها جيداً.

 

الهجرة مدينة قم

دخلت مدينة قم عام 1946 م وأكملت دراسة المرحلة الاُولى من الفقه فيها خلال الستة أشهر الاُولى إضافة إلى كتابي المكاسب والكفاية، ومنذ بداية عام 1947 واصلت دراسة الفقه والاُصول (المرحلة الثانية) على يد الاُستاذ العزيز المرحوم آية الله المحقق الداماد وكذلك على يد قائدنا العظيم الإمام الخميني، وبعدها درست على يد المرحوم آية الله البروجردي وكذلك المرحوم آية الله الخونساري وتعلمت بعض العلوم من المرحوم آية الله حجت الكوه كمري، كما تعلمت الكفاية عندما كنت أدرس الفقه على يد آية الله الشيخ مرتضى الحائري اليزدي.. وكنت قد درست المنظومة والمنطق والكلام في اصفهان، ولكن نظراً إلى قلة أساتذة الفلسفة في قم توقفت عن مواصلة هذه الدروس آنذاك وأوليت اهتمامي بمطالعة كتب الفقه والاُصول والمواضيع المختلفة الاُخرى.. عملت في مهنة التدريس في الحوزة العلمية بقم فترة دراسة فيها مثلما كنت في اصفهان .

دخلت مدرسة الحجتية عندما هاجرة إلى مدينة قم، حيث كانت مدرسة جديدة أسسها المرحوم آية الله حجت. كما كنت متواجداً في قم عندما دخلها اُستاذنا آية الله الطباطبائي تاركاً مدينة تبريز.

في عام 1948م قررت مواصلة الدراسة الحديثة. فحصلت على شهادة الاعدادية ودخلت كلية المعقول والمنقول (الإلهيات والمعارف الإسلامية حالياً) وأكملت دراستي وحصلت على درجة البكالوريوس هناك.. تعلمت اللغة الانجليزية بصورة جيدة عندما كنت اُواصل دراستي في كلية الإلهيات بطهران وذلك بمساعدة أحد الأساتذة الأجانب وعملت في مهنة التدريس خلال عامي 1950 و1951 م في طهران وذلك لتدبير اُمور المعاش وكنت دائماً اعتمد على نفسي في دراستي العليا.

عدت إلى مدينة قم لمواصلة الدراسات الدينية وعملت معلماً للّغة الانجليزية في مدرسة (حكيم نظامي) بهذه المدينة. واكتفيت بالتدريس ثلاث ساعات يومياً فقط حيث، جندت بقية الساعات لمواصلة الدراسة الحوزويّة .. أوليت اهتماماً بالفلسفة خلال الأعوام من1951 إلى 1956 م.

 

 بداية العمل في التبليغ الإسلامي

كنت اجتمع بعدد من الاُخوة في ليالي الخميس والجمعة في مدينة قم وعلى رأسهم كل من المرحوم الشهيد الاُستاذ مرتضى مطهري وآية الله منتظري وعدد آخر من السادة العلماء، وكنا نتباحث بشوق ونصل إلى نتائج مثمرة وطيبة خلال البحث.. وبعد أعوام استطعنا جمع ما بحثناه في كتاب تحت عنوان (الواقعية) (رئاليسم) ونشره في الأسواق.

وكما عملنا في التبليغ الإسلامي خلال هذه الأعوام أيضاً، ففي عام 1947م ـ أي بعد عام من دخولي مدينة قم ـ.استطعنا وبالتعاون مع المرحوم الشهيد مطهري وآية الله منتظري وعدد من الاُخوة ـ 18 شخصاً ـ تنظيم برامج للتبليغ الإسلامي في القرى النائية.. وعملنا على ذلك خلال عامين كاملين، وركزّنا عملنا خلال شهر رمضان المبارك وتحملنا نفقات العمل بأنفسنا مع أنّا لم نكن نملك المال ولكن ما كنا نحصل عليه من المرحوم آية الله البروجردي وبواسطة الإمام الخميني كان يساعدنا على أداء واجبنا هذا، إذ كان المبلغ 1000 ريال عام 1947م و1500 ريال في عام 1948م، وسعينا خلال بقاءنا في القرى النائية أن لا نحلّ ضيوفاً على الآخرين بل نتحمل النفقات بأنفسنا.. كما كانت لنا نشاطات كبيرة في الحوزة العلمية لا مجال لذكرها هنا.

 

 المساهمة في النهضة الوطنية

خلال عامي 1950 ـ 1951 م وأثناء تواجدي في طهران، أي عندما بلغت المقاومة الوطنية بزعامة المرحوم آية الله الكاشاني والدكتور محمد مصدق ذروتها كنت شاباً وذو شوق شديد للمشاركة في التظاهرات والاجتماعات الوطنية المعارضة للسلطة. وفي عام 1952م وفي أحداث 30 تير كنت في اصفهان وشاركت في الاعتصام الذي اُقيم هناك (26 ـ 30) تير حيث كنت أول من ألقى كلمة ثورية في المعتصمين في مبنى البريد والبرق، وعلى ما أتذكر كانت كلمتي تدور حول القياس بين ما قام به الشعب المصري في قضية قناة السويس وموقفهم حيال التدخل البريطاني والفرنسي في بلادهم، وكان الخطاب بمثابة إنذار شديد لقوام السلطنة والشاه المقبور، وأكدت في الخطاب بأنّ الشعب الإيراني لا يستطيع تحمل المطامع الاستعمارية التي تستهدف نهب ثروات بلاده.

بعد مؤامرة 28 مرداد أدركنا بأنّنا نفتقد الكوادر الثورية في نهضتنا آنذاك لذا قررنا أن نوجد حركة ثقافية في المجتمع لكي يتسنى لنا إعداد الكوادر اللازمة، كما قررنا أن تكون هذه الحركة الثقافية حركة إسلامية أصيلة بحتة تبنى ركائزها على المباني التقدمية التي تؤدي إلى إيجاد الأرضية الكافية لإعداد شبابنا المسلم للثورة.

 

 إنشاء متوسطة الدين والعلم

ومن هذا المنطلق أسسنا مدرسة باسم (الدين والعلم) في مدينة قم وذلك بالتعاون مع الزملاء.. والتزمت مسؤولية ادارة هذه المدرسة وكان في الأعوام 1954م حتى 1963م، كما كنت مشتغلاً بالتدريس في الحوزة العلمية.

عملت على إيجاد حركة ثورية ثقافية جديدة واُوجدت رابطة بين طلاب الحوزة والشباب الجامعي، حيث لمست البركة في تضامن طلاب العلوم الدينية وطلاب الجامعة من أجل تحقيق الأهداف المنشودة وكنت أعتقد بأنهما يستطيعان العمل في تكاتف وتضامن تام وفقاً للاُسس الإسلاميّة الأصيلة البحتة.. وهذا ما كنت أراه من الاُمور الضرورية.. كما كانت الحوزة العلمية في قم قد بدأت التحرك لتأليف الكتب الدينية الإسلامية بلغة حديثة تلائم طبائع الجبل الجديد ومنها وفقاً للاُسس الإسلاميّة الأصيلة البحتة (العقيدة الإسلاميّة).

في عام 1965 ـ 1959م أكملت مرحلة الدكتوراه في الفلسفة في كلية الإلهيات والمعارف الإسلاميّة.. وبدأنا في نفس العام الاشتراك في مجالس البحث بطهران. وكنا نهدف منها ترويج الرؤى الإسلامية بين أوساط الشباب. كانت جلسات دورية تعقد شهرياً في محلة قائم بطهران وفي احدى المنازل الكبيرة حيث كان أحدنا يعد موضوعاً شهرياً للحديث في الجلسة وكنا نسجل وقائع جلساتنا على أشرطة كاسيت ثم نفرغها على أوراق لتصبح كتيبات جاهزة للنشر، حيث اُعدّ ثلاث مجلدات منها تحت عنوان (حديث الشهر) ومجلد آخر تحت عنوان (حديث عاشوراء). وكان كل من المرحوم آية الله مرتضى مطهري والمرحوم آية الله محمود الطالقاني وعدد آخر من السادة الأفاضل يشاركوننا في البرنامج.. لقد كانت هذه الجلسات قاعدة جيدة وفي الحقيقة كانت خطوة فعالة لما عملناه بعد ذلك في (حسينية إرشاد) وكانت اللبنة الاُولى لما أعددناه للثورة.

 

تنظيم الحوزة العلمية في قم

في 1960م شكّل أساتذتها في الحوزة العلمية بقم عدة جلسات لتنظيم برامج الحوزة شاركت في جلستين منها، كما شارك السيد رباني شيرازي والمرحوم الشهيد سعيدي وثلة اُخرى من زملائنا في هذه الجلسات. حيث وصلنا إلى نتائج جيدة واستطعنا بتعاون مع الأخ آية الله مشكيني وعدد آخر من الاُخوة إعداد برنامج خاص لدراسة العلوم الإسلامية في الحوزة العلمية، وأسفرت أعمالنا هذه عن تأسيس مدارس نموذجية كمدرسة (الحقانيّة) أو (المنتظرية) نسبة إلى المهدي المنتظر (عج)، وجاء اسم الحقانية تكريماً لمؤسس هذه المدرسة السيد حقاني الذي كان من عشاق العلم والذي جنّد كل ما يملك لتأسيسها.

 

انطلاقة الثورة الإسلاميّة

لقد كانت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني وعلماء الدين عام 1962م منعطفاً تاريخياً في ثورة الشعب المسلم في إيران. لقد شاركت في هذه الثورة.. وأسسنا جمعية طلبة المدارس في مدينة قم بمناسبة تلاحم وتضامن طلاب العلوم الدينية والمدارس والجامعات، والتزم زميلي الوفي والعزيز المرحوم الشهيد دكتر مفتح مسؤولية الجمعية وكنا نعقد اجتماعات شيقة يلقي كل واحد منا كلمة كل اُسبوع، وكنا نستقبل اخوتنا الوافدين من طهران، فيجتمع طلاب الحوزة وطلاب الجامعات سوية في احدى الجوامع ومعهم المعلمين والمدرسين وكانت هذه الجلسات والاجتماعات تجسّد مدى تلاحم الطلاب بمختلف فئاتهم وبهذا عززنا النضال الإسلامي بتعزيز الثقافة الإسلاميّة ممّا أدى إلى قلق السلطة، فأصدرت الحكومة البهلوية قراراً بإبعادي عن مدينة قم والبقاء في طهران وذلك عام 1962م ولكني واصلت العمل في طهران باتصالي مع المجموعات المناضلة ضد النظام البهلوي.

 

المشاركة في الهيئات المؤتلفة

لقد ساهمت في جمعية (الهيئات المؤتلفة) وكنت على اتصال فعّال ومنظّم معها. وعندما اقترحت اللجنة المركزية لهذه الجمعية أن يعين الإمام الخميني شورى للفقهاء فيها تضم أربعة فقهاء يلتزمون بالشؤون السياسية تم تعيين كل من المرحوم مطهري والأخ أنواري والأخ مولائي وأنا أعضاء في الشورى. فكرنا في حينها على تغيير بعض البرامج والمواد الدراسية التي يمكن تغييرها خاصة الكتب الدينية التي تدرّس في المدارس الإيرانية وحاولنا إبعاد يد النظام الجائر عنا، واستطعنا خلال عدة اجتماعات أن نضع اللبنة الاُولى لهذا المشروع، ووضعنا البرامج التي استهدفناها بالتعاون مع الدكتور باهنر، والدكتور غفوري والسيد برقعي وعدد آخر من الاُخوة منهم السيد رضي الشيرازي والمرحوم السيد روزبه الذي لعب دوراً كبيراً في هذا المجال.

في عام 1963م طلاب جامعة طهران احتفالاً دينياً كبيراً بمناسبة يوم المبعث في صالة تناول الطعام في منطقة أميرآباد ووجهت دعوة لي لإلقاء كلمة في الحفل .. تركزت كلمتي حول أهداف البعثة النبوية وخاصة محاربة التحريف، عرضت على الحاضرين نموذجاً من أعمالنا والتحقيقات التي قمنا بها في الإسلام، علماً بأن خطابي قد طبع بعد ذلك ضمن كتاب (عقيدة الشيعة).

وفي خريف عام 1963م بدأنا البحوث والتحقيقات الإسلاميّة في مجال الحكومة الإسلامية (الحكومة في الإسلام) وكانت لدينا رغبة شديدة لتنوير الأفكار العامة من أجل تحقيق الحكومة الإسلاميّة وبدأنا ذلك بصورة بحوث وتحقيقات علمية.. وعلى الرغم من إجبارنا على البقاء في طهران لكن استمر تعاوني مع زملائي في قم.. وبعد أن خف ضغط السلطة عليّ استطعت الذهاب إلى مدينة قم ومواصلة التحقيق حول الحكومة الإسلامية في المدرسة المنتظرية.. ولكن ومع الأسف استولى السافاك على ما عملنا ومزق ما كتبه الاُخوة الزملاء.

 

ادارة المركز الإسلامي في هامبورغ (ألمانيا)

كنت عام 1964م في طهران مشغولاً بإعداد البرامج الإسلاميّة المتنوعة ومساهماً في النشاطات السياسية الإسلاميّة وآنذاك كان المسلمون في هامبورغ ـ وخاصة بعد انشاء جامع هامبورغ على يد المرحوم آية الله البروجردي وبتعاون علماء الدين الأفاضل ـ يطالبون الحوزة العلمية بإرسال أحد العلماء إلى ألمانيا لإدارة هذا الجامع، وبعد عودة المرحوم محققي إلى إيران تاركاً هامبورغ طلب مني كل من آية الله الميلاني وآية الله الخونساري وآية الله الحائري، وأصر عليّ آية الله الميلاني بالتوجه إلى ألمانيا لادارة جامع هامبورغ..

قرر الجناح العسكري لجمعية الهيئات المؤتلفة إعدام (منصور) رئيس وزراء الشاه ونُفّذ الحكم بحق منصور، فكانت الحكومة تتابع الملف لإلقاء القبض على معارضيها الذين أعدموا أحد رجالاتها وبما أنّ اسمي كان في قائمة المتهمين الملاحقين من قبل الحكومة، فقد فكر السادة العلماء بأنّ الخروج من إيران سوف يخلّصني من الملاحقة ويتسنى لي العمل خارج البلاد، وجد الزملاء طريقاً ومفراً لخروجي من إيران ـ طبعاً كنت اُفضل البقاء في إيران وأتحمل كل ما يحصل ـ ولكن الاُخوة كانوا يرون الصلاح في مغادرتي البلاد وكانت المشكلة في الحصول على جواز السفر، لكن تم الحصول عليه بواسطة آية الله الخونساري وتوجهت إلى هامبورغ.

كانت مشكلتي في هامبورغ هي بعدي عما يحدث في إيران والابتعاد عن نشاطات الاُخوة.. وكان من المقرر أن أمكث مدة محدودة قصيرة هناك ثم أعود إلى إيران بعد تنظيم اُمور جامع هامبورغ، ولكني شعرت بأنّ طلاب الجامعة في هامبورغ بحاجة ماسة إلى تنظيم إسلامي، خاصة وأنّ الشباب الإيرانيين الأعزاء كانوا يدخلون هامبورغ مسلمين يحملون المحبة والعشق والرغبة بالإسلام ولكنهم ينحرفون على يد المنظمات الملحدة اليساريّة واليمينيّة هناك، وكان الاتحاد الإسلامي للطلبة المسلمين في اُوروبا يضم الاُخوة المسلمين العرب والباكستانيين والهنود والافريقيين وغيرهم إلى جانب الإيرانيين، فأسسنا اتحاداً للجمعيات الإسلاميّة للطلبة الإيرانيين في هامبورغ، وبهذا أصبح المركز الإسلامي في هامبورغ يضم مجموعة نشطة، وبدأنا عملنا على نشر الإسلام في اُوروبا وبالذاتً على نشر الإسلام الثوري بين الشباب..

لم تنحصر نشاطات مركز هامبورغ في هامبورغ فقط بل شملت ألمانيا وسويسرا وبريطانيا والنمسا وكنا على اتصال مع جميع الدول الاُوروبية وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وكنت على تعاون مع الجمعيات الإسلاميّة دون أن أكون عضواً فيها ولكن مساعداتي لها لم تنقطع مطلقاً سواء المالية منها أو المعنوية، وكنت اُقدم لهم الاستشارات واُنظم لهم الندوات الخاصة والعامة خاصة في جامع هامبورغ حيث نشرت كتيبات عن تلك الندوات.

بقيت في هامبورغ مدة 5 أعوام زرت خلالها بيت الله الحرام، وسافرت إلى سوريا ولبنان أيضاً وتفقدت النشاطات الإسلاميّة في تركيا .. وكما اتصلت بالأخ العزيز السيد موسى الصدر وجددت العهد مع سماحته، راجياً العلي القدير أن يتغمده برحمته أينما كان ـ وكما سافرت إلى العراق وزرت مرقد الإمام علي$ في النجف عام 1969.. وعلى أي حال وفّقت لتنظيم الاُمور في هامبورغ.

 

العودة إلى إيران

عدت إلى إيران عام 1970م، وكنت على اطمئنان بأن عودتي إلى هامبورغ صعبة للغاية ولكن الضرورة أجبرتني على العودة لإيران، وعندما حاولت السفر لألمانيا منتعني السلطة الجائرة عن ذلك كما توقعت.. لذا اشتغلت مدة في الأعمال الحرة ثم عدت إلى إعداد وتهيئة الكتب، وهكذا واصلت هذا العمل إضافة إلى النشاطات العلمية في مجال البحوث والتحقيقات الموسعّة متعاوناً مع المدرسة الحقانيّة في قم وكنت في تعاون تام مع الأخ مهدوي كني والمرحوم الشهيد مفتح والسيد موسوي أردبيلي وعدد آخر من الاُخوة.

 

تشكيل رابطة علماء الدين المجاهدين

بعد تشكيل جمعية العلماء المجاهدين والتعاون مع المناضلين انشغلت بكامل وقتي في ذلك حتى ظهرت نوات النشاطات التنظيمية عام 1976م ثم تشكلت رابطة العلماء المجاهدين بشكلها الحقيقي عام 77 ـ 1978م، فكرنا في حينها في تأسيس منظمة أو حزب سري أو نصف علني للعمل السياسي، وعندما تصاعدت النضالات ضد السلطة عام 1977م ووصلت إلى أوجها ركزنا جميع قدرتنا وقوانا وعملنا على تنشيط التظاهرات والنشاطات السياسيّة الاُخرى حتى أن حقق الله عزّ وجلّ النصر لنا.

بدأت بتشكيل جلسة لتفسير القرآن الكريم عام 1971م وكانت هذه الجلسات تعقد أيام السبت وبحضور 400 إلى 500 من الاُخوة المؤمنين الملتزمين حيث كانت جلسات مفيدة ومثمرة. ألقى السافاك القبض عليّ عام 1975م بسبب عقد هذه الجلسات ولكني استطعت الخلاص من قبضة السافاك بمهارة حيث خططنا سابقاً لكي لا نترك أي وثائق ضدنا لديهم، على أي حال اُطلق سراحي بعد أن لم يثبت عليّ شيء.. كما أنّ السافاك قد طلبني مرات عديدة قبل سفري لألمانيا وبعد العودة إلى إيران وكان اعتقالي في حينها لا يطول أكثر من عدة ساعات، ولكن هذه المرة اُعتقلت لعدة ايام وبهذا عطلنا الجلسات لعدم إمكان عقدها.. كما اُلقي القبض عليّ لعدة أيام عام 1978م وذلك خلال تظاهرات عاشوراء وبقيت عدة أيام في سجن (اوين) ثم اُطلق سراحي.

 

اللقاء بالإمام في باريس وتشكيل مجلس قيادة الثورة

واصلت نشاطاتي السياسية حتى دخل الإمام الخميني مدينة باريس فغادرت إيران وتوجهت لخدمة الإمام عدة أيام في باريس، وهناك وضعت اللبنة الاُولى لمجلس قيادة الثورة الإسلاميّة وشكّل الإمام المجلس بعضوية الشهيد مرتضى مطهري، والأخ هاشمي رفسنجاني والسيد موسوي أردبيلي والأخ باهنر وأنا في البداية، ومن ثم التحق بمجلس قيادة الثورة كل من الشيخ مهدوي كني والمرحوم آية الله الطالقاني ومهدي بازركان والدكتور سحابي وعدد آخر إلى أن عاد الإمام إلى إيران.

عائلتي تتشكل من والدي ووالدتي وأنا واُختين لي هما حالياً على قيد الحياة أمّا والدي فقد توفي عام 1962م، وأمّا والدتي فلازالت على قيد الحياة، فوفاة والدي لم تؤثر عليّ سوى بنوع من التأثير العاطفي وتحمل مسؤولية العائلة وكنت عندما توفى والدي متزوجاً ولي طفل أيضاً.. تزوجت عام 1952م من احدى قريباتي وهي من عائلة دينية والتي شاركتني جميع مصاعبي في الـ 92 عاماً من حياتنا الزوجية حتى اليوم ورزقنا الله أربعة أولاد اثنين ذكور واثنين اناث.

كان لي دور مباشر في تأليف الكتب المدرسية والاعداد والتخطيط، ولكني لم أضع اسمي عليها لأنّ صورة الشاه كانت تطبع فيها وهذا ما كنت لا استطيع تحمله مطلقاً أن أضع اسمي في كتاب فيه صورة للشاه المقبور ولكني وضعت اسمي على الكتب التي نشرت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة خاصة كتاب (معرفة الدين).

 

رسالة إمام الاُمة (ره) إلى الشعب المسلم في إيران

حول استشهاد السيد البهشتي مع جمع من رجالات الثورة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّا لله وإنّا إليه راجعون

إنّ الشعب الثائر الذي التزم بأحكام القرآن وقطع يد القوى الكبرى المجرمة لنيل الحرية والاستقلال وأعد نفسه لتقديم المزيد من الشهداء لن يهاب أبداً عندما تخرج اليد المجرمة للقوى الكبرى من كُمِّ حفنة جناة محترفين لتحصد أرواح نخبة من خيرة أبنائه البررة..

أليست الشهادة ميراثاً ورثها شعبنا الذي أنجب الشهداء من أولياء الله الذين كانت حياتهم عقيدة وجهاداً وبذلوا دماء خيرة شبابهم في سبيل الرسالة الإسلاميّة؟

أليس العيش في الحياة بعزّ وشرف من المعايير الإنسانيّة التي نذر حماة هذه الرسالة الأوائل حياتهم في سبيل الحفاظ عليها وحراستها؟ ألسنا من أنصار تلك الصفوة، وقد نذرنا حياتنا في سبيل أهدافنا ولا يأخذنا أدنى خوف من استشهاد أعزائنا؟.

هل العدو قادر بهذه الجرائم على تجريدنا من المعايير الإنسانيّة ومكارم شهدائنا الأعزاء؟ هل يستطيع أعداء الفضيلة أن يعملوا شيئاً سوى سلب هذه الحياة الفانيّة من أحبّاء الله وروّاد الحقيقة؟ دع هؤلاء الأشقياء الذين لا يفكّرون بغير الأنا ويأكلون كما تأكل الأنعام، دعوهم بأعمالهم هذه ليحرّروا أنصار طريق الحق من قيود هذه الحياة الفانيّة ويلحقونهم بجوار الله.

الخزي لكم أيتها الحثالات الشيطانيّة، والعار لكم يا من بعتم أنفسكم إلى الجناة الدوليين وزحفتم إلى أوكاركم تقومون بهذه الأعمال التخريبية مقابل شعب انتفض بوجه القوى الكبرى.. إنّ العيب الكبير فيكم وفي أنصاركم هو أنكم تجهلون الإسلام وقوته المعنويّة كما تجهلون قدرة الشعب المسلم وروحه التضحويّة0 إنّكم لم تعرفوا بعد هذا الشعب الذي قدّم العشرات من شبابه قرابين على طبق الإخلاص من أجل التحرر من أسر الشيطان الأكبر والإطاحة بالنظام البهلوي الجائر، وصمد بشجاعة لا مثيل لها دون أن يشكو شيئاً.

إنّكم لم تعرفوا بعد هذا الشعب الذي يتمنّى المعوقون من أبنائه الشهادة وهم على أسرّة المرض ويدعون أصدقاءهم إلى استقبال الشهادة. هل تريدون يا من حجبت قلوبكم بغشاوة من العمى أن تخرجوا هذا الشعب المضحّي من الساحة بحصد أرواح عدد من أعزائه رغم أنكم شاهدتم كيف تتراص صفوف المضحين على طريق الإسلام ويترسّخ عزمهم أكثر كلما اغتيلت شخصية معروفة.

لقد وجهتم ما استطعتم من التهم والافتراءات إلى أبناء الإسلام من أمثال الشهيد بهشتي والشهداء الأعزاء من أعضاء مجلس الشورى الإسلامي والحكومة في محاولة جبانة لعزلهم عن الشعب. والآن وبعد أن أخفقتم في ذلك وافتضح أمركم للجميع زحفتم إلى أوكاركم وأقدمتم على جرائم حمقاء ظناً منكم بأنكم تستطيعون إرعاب هذا الشعب المضحّي والمنجب للشهداء بأعمالكم الوحشية هذه، وأنتم لا تعلمون بأنّه لا معنى للخوف في قاموس الشهادة.

إنّ الإسلام ليفخر الآن بهؤلاء الشهداء ويدعو مرفوع الرأس جميع الشعب إلى الصمود، وإنّنا قد عقدنا العزم على ملاقاة ربنا يوماً ما مضحين بأرواحنا التي منحنا إيّاها في سبيله..

لقد خسر الشعب الإيراني في هذه الفاجعة الكبرى (72) بريئاً أي بعدد شهداء كربلاء.. ويعتز الشعب الإيراني بأن يقدم للمجتمع رجالاً نذروا أنفسهم لخدمة الإسلام والمسلمين.

إنّ أعداء الشعب ضرّجوا بالدماء مجموعة كانت قد اجتمعت للتشاور من أجل مصلحة البلد.

أيّها الشعب العزيز إنّ هؤلاء ذوي القلوب العمياء الذين يدّعون الجهاد من أجل الشعب سلبوا من الشعب مجموعة كانت تخدم الشعب بجد وإخلاص.. ولنفرض أنّكم كنتم تضمرون عداءً شديداً للشهيد بهشتي الذي عاش مظلوماً ومات مظلوماً وكان شوكة في أعين أعداء الإسلام وفي أعينكم بصفة خاصة، ولكن ما هو عداؤكم لأكثر من سبعين بريئاً كان معظمهم من خيرة العاملين في خدمة الشعب.. والمعارضين لأعداء الوطن والشعب.. فما أنتم الذين تنتحلون لأنفسكم اسم الشعب سوى أعداء الشعب الممهدين للّصوص والطامعين الشرقيين والغربيين.. إننا وإن كنا قد فقدنا أصدقاء وأعزاء أوفياء لنا كان كل واحد منهم دعامة قوية جداً ورصيداً قيماً لهذا الشعب المضطهد.. إننا وإن كنا قد فقدنا اُخوة ملتزمين للغاية، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم وكانوا بمثابة سد منيع وشجرة مثمرة لهذا الشعب والمراكز الثوريّة، غير أنّ سيل الشعب الهادر وأمواجه المحطمة ستعوضان باتّحادهما وبالاتكال على الخالق الكبير عن أيّة نقيصة.

إنّ الشعب الإيراني اعتمد على قدرة الله سبحانه وتعالى الأزلية وهو سائر إلى الأمام كالبحر المائج.. وصامد بصفوفه المتراصّة بوجه القوى الكبرى وحثالاتها وسيرسلكم أنتم العجزة الذين زحفتم إلى الححور وتلفضون أنفاسكم الأخيرة إلى جهنم.

رعى الله سبحانه وتعالى هذا البلد وهذا الشعب.

وإنّني لاُبارك واُعزي مرة اُخرى بقية الله أرواحنا له الفداء والشعوب المظلومة في العالم والشعب الإيراني المجاهد. إني اُشارك الأعزة ذوي هؤلاء الشهداء في مصيبتهم وعزائهم وأسأل الله سبحانه وتعالى الرحمة الواسعة لهؤلاء المظلومين والصبر والسلوان لذويهم المحترمين. رحمة الله وتحيات الشعب اللامتناهية لشهداء الثورة منذ الخامس عشر من شهر خرداد سنة 1342 هـ ش لغاية السابع من شهر تير سنة 1360 هـ ش، والسلام والتحية لمظلومي العالم والمظلومين في إيران على امتداد التاريخ.

روح الله الموسوي الخميني

 

 

الشهيد البهشتي .. فكراً ومنهجاً

الأحقية والمظلومية، مصطلحان متقارنان بينهما معرفة عريقة، فالمظلومية حثيما كانت تنم عن وجود أحقية، والأحقية أينما توجد تنبئ ـ شئنا أم أبينا ـ عن وجود مظلومية. والتاريخ على امتداده زاخر بهذين القرينين، وطافح بأوجه الصراع بين أنصارهما وأعدائهما القدامى.

ولكن لماذا يا ترى؟ لأنه حيثما كان هناك حق يتخندق في مقابله أعداء الحق والحقيقة وخصوم الشرف والفضيلة، لأجل ان يضيّقوا عليه الخناق حسب زعمهم، ولكي لا يدعوا الشمس تشع بدفئها على الأفئدة الميّتة وعلى النفوس المُتعبة.

ولكن أما علموا ان القافلة تسير ولا يهمها نباح الكلاب.

والعكس صحيح أيضاً، فأينما يكون ظلم وأيدٍ أثيمة ملطخة بالدماء، فثمة ـ بلاريب ـ أحقيّة انبرى أتباع الشيطان بكل وجودهم لطمس معالمها.

أجل، هذا هو دأب الدنيا القاسية منذ أن وجدت وحتى اليوم والدهر يحتفظ في ذاكرته بصور من المساعي الحثيثة لانصار هابيل في عصرنا الحالي، وكيف تحكّم بها القهر المخزي لأتباع قابيل، ووضعها مقهورة مغلوبة على مسلخ التضحية، وأراق دماءها على الأرض مخصّبة إياها لنماء جديد.

في تاريخ ثورتنا الإسلامية الدامي أيضاً كانت مظلومية البهشتي الذي لم يُقتل لمجرد كونه رجل علم وشجاعة، أو انه كان رجل التقوى والحقيقة ولم يعرفوا قدره. ومظلوميته لم تكن لمجرّد انهم جعلوه غرضاً لسهام هجماتهم الغادرة، أو لأنهم لم يبيحوا له الكلام، أو انهم توهّموه عاجزاً عن المناقشة والاستدلال المنطقي، بل ان جلَّ مظلوميته انما كانت ـ ورغم كل التهم، ومع توفر كل انماط القدرة للذود عن نفسه ولفضح أعدائه وخصومه ـ في صمته الذي تمسّك به لأجل الإسلام لا غيره ولأجل رعاية مصالح عامة المسلمين وللحفاظ على الوحدة، وامتثالاً لأمر امامه وقائده، فختم على شفاهه ـ كعلي ـ ختم الصمت، وقال ما دام امام الامة قد أمرنا بالصمت فسأصمت، ولا أردُّ حتى على التهم.

هذا الرجل الرزين، وهذا الجبل من الوقار، وهذه السفينة من الصبر ظلَّت تشق طريقها بسكينة ولكن بقوة، على مسار الإمام. وبقي اذناً صاغية لأمر امامه يستلهم منه رسم معالم طريقه لأجل ان يغدو امّة، وكان له ما أراد، إذ قال عنه امامه: “كان البهشتي امة”.

أجل، كان البهشتي مساراً، وهو مسار الإسلام، ومسار الأحقية، والمظلومية، وصرخة استغاثة كل المحرومين والمستضعفين الذين يجب ان يرثوا الأرض، ويكون لهم زمام قيادتها.

فلنصغي معاً إلى حديث قائد الثورة الإسلامية لمعرفة المزيد من أبعاد شخصية هذا الشهيد المظلوم.

* كان الشهيد المظلوم آية الله البهشتي مجتهداً ومفكراً قل نظيره في شموله العلمي، وله رؤيته في أكثر العلوم الإسلامية والإنسانية المعاصرة، إضافة على معرفته بسائر العلوم الحديثة. ومع هذا فقد اشتهر في وسطه الاجتماعي باعتباره سياسياً بارعاً أكثر من شهرته مجتهداً ومفكراً. واستناداً إلى ما ذكر نرجو من سماحتكم الادلاء برأيكم في هذا المضمار، وما هي في رأيكم الأجراءات اللازم اتخاذها للتعريف بالبعد العلمي من شخصيته؟

ـ بسم الله الرحمن الرحيم

لعل هذه القضية أيضاً من جملة أبعاد مظلومية هذا الشهيد العزيز؛ فمع ان الشهيد البهشتي كان شخصية بارزة في الجانب العلمي، إلاّ أنه لم يعرف في هذا المجال بما يتناسب ومستواه العلمي. ولكن ينبغي القول ان مجهولية المنزلة العلمية للشهيد البهشتي بين عامة الناس تُعزى إلى تغلب السمة السياسية في شخصيته على سائر الآفاق الاُخرى، وكان يعرف بالدرجة الأولى بكونه سياسياً محنّكاً.

ومن الطبيعي في الشخصية ذات الجوانب المتعددة ان يطغى الجانب الأكثر بروزاً بينها على سائر الجوانب الاُخرى في الوسط الذي يشيع فيه ذلك الجانب. ولو قدر للمرء أن يجوب الأوساط الطبية في العالم لما كان بميسوره ان يثبت لها ان ابن سينا كان فيلسوفاً متألهاً. وفي الأوساط الفلسفية تصعب أيضاً الاشارة إلى ان ابن سينا كان طبيباً يتعامل مع القارورة والدم والنبض والأمراض. وسبب هذه الظاهرة يعود إلى ان ذلك الجانب من الشخصية المتعددة الجوانب يلقي بظلاله في تلك الأوساط إلى حد لا يتيح لها استذكار بقية جوانب شخصيته.

هكذا كان الشهيد البهشتي. فلو انكم قابلتم الأصدقاء القدماء للشهيد البهشتي الذين كانت تجمعه واياهم صلات ثقافية، وتحدثتم معهم لما وجدتموهم يستذكرونه كرئيس لديوان القضاء الأعلى في البلد وان المفاصل الاساسية للقضاء كانت بيده لبرهة من الزمن. هؤلاء يصعب عليهم تصور البعد القضائي في شخصيته لأن بعده الثقافي قد خيّم بعظمته على أذهانهم. الفئة الوحيدة التي تذكّرنا بجميع أبعاد شخصيته هي التي كانت تتعامل في كل مقطع زمني مع جانب من جوانبه ومع بعد من أبعاد شخصيته، واصدقاؤه المقربون يدخلون غالباً في عداد هذه الفئة. هؤلاء تسنى لهم متباعة عهده العلمي، وعهده السياسي وعهده الاداري، وعهد صراعه ضد حكم الطاغوت.

كل هذه الادوار مر بها الشهيد البهشتي وكنا نحن نعايشه خلالها عن قرب. وأنا شخصياً أعتبر نفسي أحد أولئك الذين يحيطون بأكثر أبعاد شخصية الشهيد البهشتي. ولكن في الوقت نفسه لو طلب إليَّ وصفه لما وجدت نفسي قادراً على ذلك، والسبب يعود إلى انه ـ وكما أكدت ذلك مراراً لبعض الأصدقاء بعد استشهاد السيد البهشتي ـ كان رجلاً استثنائياً بين رجالنا. فنحن قد نجد بين الشخصيات العالمية والثورية أفراداً يتميّزون بقدر عالٍ من الأداء والكفاءة إلاّ أنهم أفراد عاديّون، ولا يتصفون بأي جانب استثنائي أو بارز. ولو أردنا التمثيل لشخصية استثنائية وذات سمة بارزة لأتينا على ذكر اسم الإمام الخميني باعتباره مثالاً رفيعاً للشخصية البارزة، اي أن كل شيء فيه يفوق ما لدى سائر الشخصيات الاُخرى. وكانت شخصية الشهيد البهشتي من هذا الطراز؛ إذ كانت فيه خصائص تفوق ما لدى الناس العاديين، وهذا ما كنّا نلمسه فيه بوضوح. وقد تبلور مثل هذا الشعور حتى لدى الشخصيات العالمية التي رأته.

وفد إلى إيران على عهده أفراد قلائل من الشخصيات البارزة، وهؤلاء الذين وفدوا تأثروا بشخصيته وصرحوا لنا بذلك لاحقاً.

وعلى كل حال، كانت للشهيد البهشتي مثل هذه الشخصية. وهذا هو السبب الذي جعل حتى أصدقائه المقربين عاجزين عن ترسيم حدود شخصيته، أو أنا على أقل تقدير لا أستطيع فعل ذلك.

أما عن الجوانب العلمية للشهيد البهشتي، فقد كان شخصاً بارزاً في الفقه وله نصيب وافر من الدراسات العليا في قم.

أنتم على معرفة بأنّ درس المرحوم الداماد في الفقه كان يحضره الفقهاء الممتازون ـ رغم قلة العدد ـ طبعاً كان بعضهم مختص بدرسه، والبعض الآخر كان يحضر درسه ويحضر دروس اساتذة آخرين كدرس الإمام الخميني. إلاّ أنّ درس المرحوم الداماد كان يضم نخبة ذات مستويً علمي رفيع. وكان من أبرز تلاميذ المرحوم الداماد في درس الفقه هو الشهيد البهشتي. فأنا عندما وفدت إلى قم عام 1958، كان الشهيد البهشتي أحد الفضلاء المعروفين فيها، إذ كان حينها مدرساً لمرحلة “السطوح”، ويبدو أنه كان يحاضر في مرحلة السطوح العليا. وأنا أعرف بعض طلبة العلوم الدينية الذين كانوا يحضرون درسه؛ من جملتهم بعض أبناء المرحوم الداماد، أي ان البهشتي كان يربّي أبناء استاذه.

هذا على الصعيد الفقهي، حيث يفهم من هذا انه كان شخصية ممتازة فيه. ثم صرنا نلاحظ في ما بعد خلال الأحداث والقضايا المختلفة وعبر النقاشات التي كانت تجري طوال فترة الجهاد ضد الحكم الطاغوتي، وحيثما تشعب الحديث إلى تناول القضايا الفقهية، كنا نلمس تأثير ذلك الفكر العميق والمتفتح للشهيد البهشتي. فكان يتعامل مع الأمور بعقل ناضج مع انه لم يكن منصرفاً إلى الشؤون الفقهية ولم يكن مختصاً بالفقه كشخص منهمك بالفقه وبمطالعة الكتب الفقهية ـ أي كان كما نصطلح عليه نحن طلاب العلوم الدينية تاركاً للفقه ـ إلاّ أنه في الوقت نفسه كان حاذقاً وبارعاً في عموم القضايا. وكان فكره العميق والوضاء يؤدي دوره في حل بعض المعضلات.

هكذا كان شأنه في مجال الفلسفة أيضاً. ففي السنة الأولى أو الثانية علمت ان المرحوم العلاّمة الطباطبائي كانت له محاضرات في ليالي الخميس يحضرها عدد من الفضلاء ويعرض فيها العلاّمة بعض البحوث الفلسفية العليا. وهي المحاضرات التي انتهت إلى تدوين كاتب اُصول الفلسفة، والتي كانت قد بدأت منذ عام 1955. أما الموضوع الذي أتحدث عنه فيتعلق بعام 1960 حيث كنت أحضر تلك الدروس آنذاك.

في تلك الأعوام أصبحت لي صلة بتلك الحلقة الدراسية عن طريق الصدفة وصارت لي معرفة بها. وكان الشخص الذي يتناقش مع الاستاذ خلالها هو المرحوم البهشتي. أي ان تلك الحلقة التي كانت تحضرها شخصيات معروفة اليوم على صعيد الفلسفة، كان المتحدث الأول فيها والأكثر مناقشةً هو السيد البهشتي. ونحن الطلاب نعلم بأنَّ أصحاب الاشكالات غالباً ما يكونون هم الفضلاء وذوي الذهنيات العميقة، وكان السيد البهشتي أكثر من يورد الاشكالات، وهو أكثر المتكلمين، وكان كثير النقاش مع الاستاذ. وكان الاستاذ بدوره يوليه كل الرعاية والاهتمام. ثم اتضح بشكل جلي في ما بعد ان المرحوم البهشتي شخصية بارزة في مجال المباحث الفلسفية. غاية ما في الأمر ان النشاطات الجذرية والعميقة التي دأب عليها طوال السنوات التي اعقبت عام 1963 طغت على مجمل اهتماماته الفقهية والفلسفية أو العلوم الدينية والفلسفية بوجه عام.

وعلى كلّ حال، كان المرحوم الشهيد متبحراً في علوم الفقه والفلسفة. وقد أثبت تبحّره طوال سنوات المواجهة باسلوب آخر ومن خلال استثمار المعارف والعلوم التي درسها في الحوزة. وأنا على ثقة لو أنه بقي في الحوزة العلمية لغدا من مراجع التقليد في زمنه.

* في رأي سماحتكم ما هي الأساليب الممكن انتهاجها لتعريف المجتمع بالأبعاد المختلفة لشخصية الشهيد البهشتي بشكل أفضل؟

ـ من الطبيعي أن للشهيد البهشتي كتابات فقهية وعلمية وفلسفية، أي ليس هناك من طالب علوم دينية إلاّ وله كتابات في أيام دراسته؛ فمن المعروف ان دراسة العلوم الدينية مقرونة بالكتابة، ومن المؤكد ان له مثل هذه الكتابات أيضاً، وخاصة الكتابات الفلسفية المتعلّقة بالمحاضرات التي سبقت الإشارة إليها. كانت هذه المحاضرات حافلة وقتذاك ـ وأعني في الأعوام 1958 ـ 1959 بالنشاط والحماس، وكانت للعلاّمة الطباطبائي بحوث تلتها نقاشات مع هنري كوربان. وهذا التحديد الذي ذكرته يتيح لبعض الأخوة الذين لديهم تسلسل تلك البحوث كسماحة الشيخ جوادي الآملي الذي كان يشارك في تلك المحاضرات بانتظام، ان يحددوا موضوع تلك البحوث. وهذا ما ينبغي العثور عليه بين كتابات الشهيد البهشتي، ولابدّ أن يكون موجوداً. ثم يوضع تحت تصرف الحوزات العلمية ليطلع عليه طلبة العلوم الدينية والعلماء الأفاضل. ومن المؤكد ان عملاً كهذا سيؤدي إلى الكشف عن شخصيته العلمية. وهذا مبدئياً أحد الطرق المتاحة. وإذا كانت لديه تاليفات فقهية فستكون خير عون للتعرف بشخصيّته العلمية. وأعتقد ان هذا الاسلوب سيكتب له النجاح.

* أشرتم بين طيات حديثكم إلى ان الشهيد البهشتي قد استثمر كفاءاته العلمية في السنوات التي تلت نهضة عام 1963 بشكل مثمر في طريق تربية الأفراد وفي سبيل نمط من المواجهة الجذرية لأجل ايجاد التغيير المطلوب في المجتمع وتنضيج الأفكار واعداد الأفراد القادرين على مجابهة السلطة الحاكمة آنذاك. وقدم من بعد ذلك خدمات كبرى لنهضتنا الإسلامية، وكان من الشخصيات الفاعلة في بلورة توجهات الثورة، ومن بعد هذا بقيت شخصية الشهيد البهشتي ـ وللأسف ـ مجهولة، وبما انكم كانت لديكم طوال فترة المواجهة وما سبقها معرفة وعلاقة مباشرة به، يرجى الادلاء ببعض الايضاحات في هذا الصدد.

ـ هذا الجانب الذي أشرت إليه يعتبر جانباً مهماً من الجوانب المختلفة لشخصية الشهيد البهشتي، ويستلزم مزيداً من الايضاح. وقبل الحديث عن جهوده ونشاطه في المجالات الثقافية والعلمية التي ذكرتها، لابدّ من القول ان هذا النمط من النشاطات تحصل عبر نوعين من النوايا، ونمطين من التوجهات. احداهما ان يكون للمرء ميل للبحوث والدراسات، ويتصور على سبيل الفرض ضرورة التصنيف والتأليف في المعارف الإسلامية، فيبدأ في مثل هذه الحالة بدراسة حقل الاقتصاد الإسلامي مثلاً، أو حقل الأخلاق، أو في علوم القرآن وما شابه ذلك، وباعثه الوحيد في هذا العمل هو مجرد الرغبة والاعتقاد بهذا النوع من العمل، ويتصور ان عمله هذا سيكشف عن حقيقةٍ ما. ولدينا الكثير من أمثال هؤلاء الباحثين الذين كانوا ولازالوا موجودين في قم وفي سائر المدن والحوزات العلمية، ولهم قيمتهم ومكانتهم.

أمّا المرحوم الشهيد البهشتي فلم يكن من هذا الطراز، ولا يدخل في عداد هذه الفئة. صحيح أنه كان يهتم بالدراسة والتحقيق، إلاّ أن اهتمامه هذا يتميّز باتجاهه الجهادي والثوري. بمعنى انه كان رجلاً من الطراز الذي انخرط في سلك مجابهة السلطة منذ اندلاع النهضة الوطنية. أي انه دخل معترك الجهاد كما يذكر هو شخصياً منذ سنوات شبابه، أو صباه أي في الأعوام 1948 و1949 وتعرف على التوجهات والحركات السياسية. وفد من بعد ذلك إلى قم، وواصل دراسته فيها. إلاّ أن التفكير السياسي والتوجهات السياسية لم تبرح فكره، حيث أخذ يفكر بين عامي 1959 و 1960 حينما كان في قم في أننا إذا انطلقنا في مجابهة سياسية فما هي الغاية منها وما هي الوسيلة فيها؟

ينبغي الالتفات إلى ان دراسات الشهيد البهشتي كانت من هذا النمط.

كان بناء المجتمع مثالاً وهدفاً وضعه نصب عينه. ولكن أين هي الطاقات القادرة على ادارة دفّة ذلك المجتمع؟ ومن هنا تنبّه الشهيد البهشتي إلى الحاجة لاعداد الطاقات البشرية الكفوءة.

ولكن ما هي وسيلة التوجيه اللازمة لذلك؟ من البديهي ان وسيلة التوجيه هي العقيدة الإسلامية. ومن هنا التفت إلى الأفكار الأصولية الإسلامية. وانصبّت بحوثه على الفكر الإسلامي القادر على ادارة دفّة الصراع منذ انطلاقه وحتى بلوغ مرحلة الانتصار، ومن ثم وضع اللبنات الأساسية للمجتمع ما بعد الانتصار. وكان أحد المواضيع التي أعدها طوال سنوات على شكل كتابات وقصاصات هي حجّية القرآن على سبيل المثال. أنتم تعلمون ان المسلم لا يعمل من أجل اثبات حجيّة القرآن، لأن القرآن ثابت. ولكن الشهيد البهشتي بدأ ببناء الحجر الأساس لصرح فكري إسلامي شامخ. أي ان غايته تنظيم وبناء مجتمع إسلامي بفكر إسلامي عميق منذ لبناته الأولى. وكان من المسلّم به ان البناء الذي يُشاد على هذا النمط من التفكير، سيكون منطقياً وطبيعياً جداً. ولهذا السبب بدأ الشهيد البهشتي عمله من الجذور.

أسرد لكم في ما يلي ما اتذكره من أعماله:

أول عمل قام به الشهيد البهشتي على ما أتذكر (قد يتذكر أشخاص آخرون أعمالاً اُخرى له) هو تأسيس مدرسة دين ودانش (الدين والعلم) في قم، وقد انشأها بمساعدة بعض الأكابر في قم وتولى ادارتها. أي انه أصبح مديراً لمدرسة اعدادية. تصوروا الآن ان أحد طلبة العلوم الدينية يصبح آنذاك أي في الأعوام 1958 و 1959 مديراً لمدرسة اعدادية. كانت هذه الحالة غير مألوفة. وكان في نفس الوقت الذي يتصدى فيه لادارة الاعدادية، مدرساً للغة الانجليزية. ما كان من المتعارف ان طالب العلوم الدينية يدرس اللغة الانجليزية، وإذا افترضنا انه يزاول التدريس فهو يدرس مادّة الدين والقضايا الشرعية. وكانت هذه الحالة مثيرة جداً.

كان الشهيد البهشتي مثاراً للدهشة. ومن المناسب الحديث عن مزاياه الأخلاقية؛ إذ كان رجلاً مستقل الارادة ولا يعني للسنن البالية، وكان سرعان ما يتعرف على الأعمال المجهولة البعيدة.

أعتقد ان نمط تفكيره يختلف عن نمط تفكير زملائه في تلك المدرسة؛ فهم كانوا يعتقدون ان الأطفال حينما يذهبون إلى مدارس اُخرى يكونون عرضة للفساد، ولهذا عزموا على بناء مدرسة تنأى بطلبتها عن الفساد. أمّا السيد البهشتي فكان يرى ان الأطفال في المدارس الاُخرى لا يمكن اصلاح من يبغي الصلاح منهم، والطريق الذي ينبغي سلوكه لا يمكن الشروع به معهم. ولهذا يجب انشاء مدرسة يتربى فيها الأطفال حسب ما ينبغي، ويجب الشروع وإياهم بنفس الطريق الذي يجب السير عليه.

وهذه هي الفكرة التي قادت الشهيد البهشتي بعد عودته من ألمانيا إلى الدخول في وزارة التربية والتعليم والمشاركة في وضع مناهج الكتب الدراسية. وهذا يدل على ان هذا الرجل لم يكن يستهدف من وراء تأسيس تلك المدرسة انقاذ بضعة أطفال من مخالب بعض المعلمين الجهلة، وإنما كانت المدرسة في رأيه تشكل حلقة من سلسلة تفكير جذري في مجال التربية والتعليم.

العمل الثاني الذي استطيع الاشارة إليه من أعمال الشهيد البهشتي هو الحلقة الدراسية التي أوجدها في قم بين عامي 1961 و 1962 ودعا إليها ثلاثين شخصاً وحثّهم على تعلم اللغات الأجنبية ودراسة بعض العلوم الحديثة. وكنتُ من جملة المشاركين في تلك الحلقة الدراسية، وكذا الشيخ الرفسنجاني، والمرحوم الرباني الشيرازي، والشيخ مصباح اليزدي، وآخرون.

كان البهشتي معجباً بالشيخ مصباح إلى حد بعيد، وكان يصرح: “انني معجب كثيراً بالسيد مصباح وأمثاله”. كان يحب الأشخاص الهادئين الصامتين. وكان يحبّني مع أنني لم أكن على هذه الشاكلة.

وبعد انعقاد هذه الحلقة الدراسية صرّح الشهيد البهشتي في أول كلمة له فيها بالقول: نعتقد ان السادة بحاجة إلى تعلم لغة أجنبية واحدة على أقل تقدير، وقد يسّرنا المستلزمات التي تتيح لكم تعلم لغة أجنبية، وإلى جانب هذا الدرس جعلنا لكم ساعة اُخرى تتعلمون فيها القضايا العلمية المعاصرة.

وكان هذا العمل عبارة عن حركة تجديدية. أما أنا فلم اُشارك إلاّ في عدّة محاضرات لأنها لم تستهوني؛ إذ كنتُ على معرفة بذلك المستوى الذي كان يدرّس فيها، لكن بعض الاُخوة تعلموا اللغة الأجنبية باتقان في تلك الحلقة. وشرع الشهيد البهشتي شخصياً بالتدريس منذ المحاضرة الأولى كأي معلم آخر، إلاّ أن ضيق وقته دفعه إلى انتداب معلم للغة، واستمرت الدروس على ذلك المنوال، وكان هناك أيضاً معلم آخر لتدريس مادة العلوم الحديثة.

من جملة الذكريات الطيّبة التي عَلُقت في ذهني من تلك الأيام هي أن طلبة العلوم الدينية كانوا يحرجون المدرسين بإيراد الكثير من الاعتراضات التي كانت أمراً طبيعياً لديهم، أما المدرسون فلم يكونوا قد اعتادوها، وكان الطلاب ينقلون الشبهات والاشكالات المتداولة في الدروس الدينية إلى حلقة الدرس، وكان أغلب الطلبة من الفضلاء المعروفين.

وعلى كل حال كان ايجاد هذه الحلقة الدراسية بمبادرة من السيد البهشتي، فما هو الهدف الذي كان يبتغيه من وراء هذاالعمل؟ واستمرت هذه الحلقة الدراسية حتى عام 1964 وكنت أنا حينها في مشهد، ثم أنشأ الشهيد البهشتي حلقة دراسية لدراسة موضوع الحكومة الإسلامية. أي في الوقت الذي لم تكن فيه مواضيع ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية قد عرضت بعد بمضامينها الفقهية والعلمية من قِبل إمام الاُمة، كان هو قد عقد مؤتمراً واسعاً ضمّ العلماء والفضلاء والطلاب للبحث في القضايا المتعلقة بالحكومة الإسلامية، وكان فيهم الشيخ الهاشمي، والشيخ مصباح وكانوا يعملون بمجموعهم تحت اشراف آية الله المشكيني.

طبعاً أنا كنت في ذلك الوقت بمشهد لكنني علمت بإقامة مثل هذه الدورة الدراسية وبمثل هذه المضامين، وأعّد فيها البهشتي بعض الملاحظات والكتابات.

ولكن ممّا يؤسف له أن تلك الدروس قد عُطّلت بعد سفره إلى ألمانيا، وتشتت بقية الاُخوة، وتزايدت ضغوط السلطة الحاكمة. رغم أن تلك الدروس قد عطّلت إلاّ اني اعتقد ان الكتابات التي دونت خلال تلك الدروس أستفيد منها في ما بعد في تأسيس الحزب [الجمهوري] إلى حدٍّ بعيد.

لاحظوا ان السيد بهشتي أنجز هذا العمل في عام 1963، ولم يكن عمله ذاك عملاً منهجياً صرفاً. وجميع أعماله الأساسية كانت من هذا القبيل، بمعنى انه كان يبدأ بأعماله من الصفر إلى ان يبلغ بها غاياتها. كان عمله ذلك خالياً من المواجهة السياسية الحادة، ولكن ولولا عمله ذاك لبقي مكانه خالياً، ولولا قيامه بذلك العمل، لما كان هناك من يواصله من بعده. أما هو فقد أدى مهمته على خير وجه ضمن السياق العام لجهاد هذا الشعب وثورته؛ فهو قد سبق غيره في هذا المضمار وواصل أداء مهمته حتى الشوط الأخير.

كانت له أيضاً محاضرات في التفسير وهي امتداد لمنهجه هذا. وتميّزت بأنّها اقيمت في وقت لا يمكن فيه انجاز أي عمل علمي جماعي في طهران طبعاً، نحن في مشهد كان لنا مثل هذا النشاط، أمّا في طهران فلم يكن ممكناً. والعمل الوحيد الذي كان يجري في طهران هو محاضرات السيد المطهري التي كان يحضرها عدد قليل من الناس.

إذن لو تصور البعض ان الشهيد البهشتي ما كان له دور في مجابهة السلطة آنذاك فالسبب هو انه يرى هذه النشاطات ذات طبيعة مؤقتة ولا صلة لها بجوهره وبتوجهاته.

وحتى سفره إلى الخارج فهو يصب في هذا السياق أيضاً. وهو لم يكن راغباً بالذهاب إلى ألمانيا، وانما وجد نفسه مرغماً على الذهاب إليها. وكان الأشخاص الذين يرغبون بوجود أحد علماء الدين يتصدر أمر الطلاب في ألمانيا قد عثروا على الشخص المناسب وهو عالم متفتح لديه الشجاعة والمعلومات الكافية في المسائل التي كثيراً ما تكون موضع ابتلاء للطلاب هناك. ولم يكن الشهيد البهشتي نصب أعينهم.

تجدر الاشارة إلى ان فكرة السفر إلى الخارج كانت تراوده؛ ففي عام 1958 عزم على السفر إلى اليابان لغرض التبليغ، ولكن المحاولة لم يكتب لها النجاح. ولم تكن هذه الفكرة تخطر على أذهان الآخرين، بينما كان يفكر هو فيها، وأحال هذه المهمة فيما بعد إلى الشهيد باهنر، ووضعت قيد التنفيذ.

في عام 1963 أو عام 1964 عزم على الذهاب إلى ألمانيا أيضاً تلبية لدعوة بعض التجار المسلمين الذي كانت لهم صلة بمسجد هامبورغ في ألمانيا ومن جملتهم السيد الحاج حسين اخوان الذي بقي حتى آخر حياته من جملة أصدقائه ومحبّيه، إلاّ ان الشهيد البهشتي جعل موافقته رهناً بطلب من العلماء البارزين آنذاك كالسيد الميلاني. وفعلاً طلب منه السيد الميلاني ذلك، فذهب إلى ألمانيا.

يتضح من أحاديثه ونشاطاته طوال السنوات الخمسة التي قضاها في ألمانيا أنه بقي على نفس الخط الجهادي الذي كان عليه في إيران.

وعند عودة البهشتي إلى إيران، كان أحد المعارضين البارزين يعتقد انه سيعتقل لا محالة بسبب مواقفه ضد النظام الشاه حين أقامته في المانيا، ولم يخالجنا الشك في ذلك غير ان النظام لم يعتقله لأنه كان يبغي تشويه سمعته والاساءة إليه، ولو انه أقدم على اعتقاله لصنع منه بطلاً ثورياً. وهذا هو الذي حصل بالفعل.

وهذا يثبت أن توجهات السيد البهشتي في مجال القضايا المعاصرة كانت مفهومة للعدو وللصديق. وكنا نحن ندرك أنه هبّ بكل وجوده من أجل الثورة، وهذا ما أدركه النظام أيضاً ودفعه إلى تجنيد كل طاقاته من أجل الطعن فيه، وممّا يؤسف له ان نجح في مسعاه هذا، وهذا هو السبب الذي جعل السيد البهشتي مجهولاً عند العامّة حتى اندلاع الثورة الشعبية العارمة.

والدليل على نجاح النظام في هذا المجال هو ان السيد البهشتي ما كان له بعد العودة من ألمانيا ان يعتزل الناس وينهمك في بحوثه وتحقيقاته، بل كان يجب أن يصبح حين وصوله إلى إيران محوراً يلتف حوله علماء الدين.

في السنوات اللاحقة لم يكن البهشتي لوحده، وانما انضم إليه المرحوم المطهري، وباهنر، ومفتح وغيرهم من الأصدقاء الذين عرفوه حق معرفته.

ومن جملة ما أتذكر ان مسيرات ضخمة انطلقت يوم التاسع من محرم، وتحدثنا في تلك الليلة معه هاتفياً، وسألني عن المسيرة الجماهيرية في مشهد، فذكرت له انها كانت في غاية الروعة. ثم سألته عن الوضع، فبدأ يحكي لي عن الحشود الهائلة التي نزلت إلى الشوارع، وأضاف: ان مكانك كان خالياً. وانه قد تحدث إلى الجماهير، ونقل لي مقاطع من كلمته. وكلما نقل لي المزيد من كلماته أثار البهجة في نفسي، سيّما وانه تحدث إلى حشود هائلة من الجماهير، واُتيح له العرض على الملايين، فكانت فرصة للناس لسماع كلامه.

* إلى جانب هذه النشاطات، شرع منذ عام 1961 أو قبله بعمل آخر في الحوزة، وذلك العمل هو تأسيس مدرسة “حقّاني” التي تبنّت تربية الكثير من الطلبة والفضلاء الذين يضطلعون حالياً بالكثير من مسؤوليات الثورة وقدموا لها خدمات كبرى، وكان لم دور فاعل في النهوض بعجلة الثورة. وكان الشهيد البهشتي يتولى ادارة تلك المدرسة سواء في الفترة التي كان يشرف على شؤونها مباشرة، أم في فترة وجوده في ألمانيا حيث كان يديرها بواسطة بعض الأصدقاء. وهذا واحد من الابعاد المهمّة في نشاطاته الثورية الجذرية القائمة على أُسس علمية.

ـ أجل، إذا تأمل المرء فبامكانه أن يستذكر الكثير من هذه الأمور. ولا بأس ان أُشير هنا إلى ان جهودنا في الأعوام 1975 و 1976 إنصبّت على موضوع عقد الاجتماعات وايجاد نوع من التنسيق بين جهود الشخصيات الناشطة ثورياً في المحافظات. وعندما عرضت هذه القضية على السيد البهشتي، طلبت إليه التصدي لرئاسة هذه الاجتماعات التي انتهت إلى عقد بعض اللقاءات وغدت في ما بعد في مشهد والمدن الاُخرى محوراً للقوى الثورية. وكان تكليفه بتلك المهمة نابع من معرفتنا له ولنشاطه.

أمّا قول البعض بعدم مشاركة البهشتي في الجهاد فناتج عن تصور مغلوط، لأن جهاده يختلف عن اسلوب جهاد الشخصيات البارزة الاُخرى، اي انه كان يجاهد بنمط آخر.

* حينما اعتقل عام 1975 تصورت ان جهاز الأمن “السافاك” قد حصل منه على جميع المعلومات، ولكن أدركنا والحمد لله أنه لم يحصل منه على شيء. وكانت مشكلة جهاز الأمن هي أنه لا يدري على اية جريمة يعتقله، حتى انه كان يقول لقد تعجبت كيف ان جهاز الأمن “السافاك” لم يكن يعلم شيئاً عني.

أي ان اُسلوب نشاطه كان بنحو بحيث لا يترك وراءه أي أثر؛ فلم يكن لدى النظام أية ذريعة ضدّه.

ـ أجل، حتى أنا أتذكر ان جماعة من عناصر المجابهة الشعبية كانوا يراجعونه في الأعوام 1972 و 1973 وحصلوا منه على العون المادي والمعنوي والفكري، من غير أن يلتفت النظام إلى ذلك.

اُطلق سراحي من السجن عام 1975. وفي الليلة الأولى اتصلت بالسيد البهشتي هاتفياً، وأخبرته باطلاق سراحي فتعجب لانه لم يكن يتوقع اطلاق سراحي حينها، بل وحتى أنا كنت أتصور أنني سأبقى في السجن سنوات طويلة.

سألني: متى ستأتينا؟

قلت: أنا قادم إليكم الآن، إذ ليس لدي مكان آخر.

لم يكن لدي ثياب، حيث كانوا قد اعتقلوني في الشتاء وأفرجوا عنّي في نهاية الصيف، وكنت أرتدي عباءة شتوية سميكة تآكلت أطرافها حتى صارت قصيرة. والسيد محمد رضا (ابن السيد البهشتي) يتذكر انني ذهبت إلى دار السيد البهشتي وأنا على ذلك الحال.

في تلك الليلة أخبرني لأول مرّة باعتناق حركة المجاهدين للفكر الشيوعي، وقال: نعم، لقد انتهى كل شيء. قلت: ومن أين تعلم؟ لعلها تهمة موجّه إليهم. فأكد انها ليست تهمة بل حقيقة قطعية. عند اعلامه إياي بذلك الخبر كانت تلك القضية قد وقعت حديثاً. وعند ذهابي إلى مشهد رأيت بعد يومين السيد علي اندرزكو، رأيته على دراجته البخارية أثناء ذهابي إلى دار والدي. وبعد التحية والسلام تذكرت ما قاله السيد البهشتي؛ فسألته عن مدى صحة ذلك الخبر، فأكّد صحته. واستفسر هل اننا سنواصل دعمهم بالأسلحة على هذا الحال؟ فقلت له: ما دام الأمر هكذا لن نساعدهم قطعاً.

ومرادي من نقل هذه القضية هي أن معرفة السيد البهشتي بمثل هذه الأخبار ناتجة عن علاقته بفئات المقاومة الشعبية.

* احدى خصائص الشهيد البهشتي هي انه كان يسبق الزمن على الدوام؛ كان كثير التجديد، ولديه كلام جديد لا يستطيع الكثيرون استيعابه وتحمّله، أي انه كان ـ حسب تعبيركم ـ مناهضاً للسنن البالية. وإذا كنتم تستذكرون شيئاً في هذا الصدد فلا بأس بالإشارة إليه؟

ـ لم يكن المرحوم البهشتي رحمة الله عليه من صنع بيئته؛ أي ان تلك الأجواء ما كانت لتصنع شخصية كالبهشتي، بل ان ظروفاً خارج بيئته قد ساهمت في صياغة شخصيته. ومن جملة ما يتسم به فكره وقابليته على الاستيعاب؛ فهو قد أكمل شخصيته بوعي. وعلى هذا لا يمكن تعيين المسار الذي يجب على طلبة العلوم الدينية انتهاجه ليكونوا كالسيّد البهشتي. ولكن ينبغي القول ان الظروف التي عاشها ما كانت كما هي عليه اليوم، حيث أضحت ظروف اليوم ـ ولحسن الحظ ـ مثلما كان يطمح إليها البهشتي.

من جملة الخصائص البارزة التي كان يتمتع بها السيد البهشتي ويمكن اعتبارها في عداد مزاياه الفردية هي شجاعته. كان إنساناً شجاعاً لا يخشى المجابهة؛ وقد واجه التقاليد السقيمة التي تعارف عليها علماء الدين آنذاك حتى صارت من السنن المستحكمة. لاشكّ ان مجابهة التقاليد لم تكن ظاهرة شائعة آنذاك؛ لأنّها ليست فضيلة حتى يقال ان هذا الشخص يجابه التقاليد؛ إلاّ أنّ قيمة ذلك الاندفاع عند الشهيد البهشتي تكمن في شجاعته في مجابهة السلبيات والانحرافات حتى ولو كانت تجري مجرى السنن الموروثة.

هذه الصفة كانت لدى الشهيد البهشتي لا بمعنى انه كان يستهدف القضاء على جميع السنن المتوارثة. واُشير هنا إلى نموذج واحد من ذلك السلوك الشجاع للبهشتي حتى تتبين ملامح شخصيته بشكل أوضح. تلك هي معالمه الظاهرية المتمثلة في العمامة واللحية والهيئة الخارجية؛ إذ كانت لحيته قصيرة جداً وعمامته صغيرة. في حين ان أياً من الفضلاء من مستواه لم يكن على هذه الشاكلة في زيّه الخارجي.

الصفة الاُخرى التي كان يتحلّى بها هي عدم التواكل، فحيثما كان يرى ضرورة عملٍ ما كان يؤديه بلا مؤاربة. فهو مثلاً لو كان يرى ضرورة إمامة الجماعة في أحد المساجد لكان يسارع إليها ويؤدي جميع المهام التي يؤديها إمام الجماعة.

من خصاله الاُخرى هي انه لم تكن همته تقتصر على يومه الذي هو فيه فيقتل وقته كيفما اتفق، لم يكن هكذا؛ وهذه من صفات الشخصيات العظيمة. فالسيد البهشتي كانت لديه على الدوام أفكار على المدى البعيد. بعدما تصدى لجهاز القضاء مثلاً، سألته بعد عدّة أشهر عمّا أنجزه خلال تلك المدّة. فأخذ يشرح لي عن مسار عمله وكيف تطوره. فأدركت حينها أن ما يمتاز به من ذهنية حيوية وتخطيط بعيد المدى قد دخلا إلى حيّز التنفيذ في هذه المسؤولية الخطيرة.

وأعتقد أنّ طلبة العلوم الدينية، والأفاضل، والشخصيات، والساسة إذا أرادوا احراز النجاح الذي بلغه الشهيد البهشتي يجب عليهم التحلّي بهذه الميزة. أي ان تكون لديهم نظرة مستقبلية وبُعد نظر وأن تكون لهم نظرة شاملة للأمور بعيداً عن التفاصيل الجزئية اليومية.

السمة الاُخرى التي لا يتصور أحد وجودها في شخصية البهشتي وبهذا القدر من العمق هي سمة التعبّد؛ كان يؤدي صلاته باخلاص تام، كما ويتضح من سلوكه الديني انه يرمي إلى تطبيق الأحكام الشرعية بدقّة.

يمكن الوقوف على حقيقة تعبّده من خلال النظر إلى لائحة القصاص التي عرضها في تلك الظروف الحساسة وفي ظل الأجواء السياسية المتوترة حينذاك، ورغم التهم والشكوك والاشاعات التي يثيرها ضده الأعداء، إلاّ أنه ومع كل ذلك عرض لائحة القصاص بهدف تطبيق الأحكام الإسلامية بدقّة، وطلب بكل اكبار من جميع المعارضين لها ان يقدّموا ما لديهم من انتقادات واعتراضات ضدها.

* من جملة السجايا الأخلاقية للشهيد البهشتي هي ترغيبه وتشجيعه لجميع الأصدقاء والمحيطين به على ممارسة النشاطات الجماعية. كما كان يتميز بحرية التفكير والتزام أُصول الحرية في التعامل مع آراء وانتقادات الآخرين. وبما أنكم على معرفة بنشاطاته الجماعية، ووفقتم إلى جانبه ضد المعارضين والمنتقدين، يرجى الادلاء بالتوضيحات في هذا الصدد؟

ـ هذا السؤال جاء في موضعه تماماً، ولابدّ لنا من تحليل شخصية الشهيد البهشتي في هذا الجانب. ولعلي أستطيع القول انّه كان جامعاً لكافة مؤهلات الادارة الجماعية، أي لم يكن قادراً على العمل الجماعي فحسب، وإنما كانت لديه القدرة على الادارة الجماعية.

الشخص القادر على ادارة النشاطات الجماعية من الطبيعي أن يحمل خصائص العمل الجماعي. أولاً بالنسبة لصفات العمل الجماعي يمكن القول ان أحد أبرز خصائصها هي قدرة المرء على التغاضي عن آراءه في مقابل آراء الجماعة. أي ان يرجح الرأي الجماعي على رأيه الفردي.

هكذا كان السيد البهشتي. فمع انه كان صاحب رأي ونظر في جميع الأمور تقريباً، طبعاً لا نقول ان جميع آرائه في جميع القضايا كانت صائبة مائة بالمائة إلا أنه صاحب فكر ونظر على أي حال. ورغم أنه كان لديه رأيه الخاص إلاّ أنّهُ كثيراً ما كان يتقبل الرأي الجماعي. في أول اجتماع عقدناه في مدينة مشهد للنظر في قضايا التنظيم، تقرر تدوين الأسماء. إلا أن الشهيد البهشتي أشار إلى وجوب اختيار الشخص القادر على الذوبان في الجماعة، ويكون مستعداً لقبول رأي الجماعة. وقال لا تدونوا اسمي جزافاً، ولكن انظروا هل انني أحمل هذه الخصلة أم لا؟ كان يتعامل في هذا الجانب برحابة صدر. وكان ينبّه من يرى فيهم الرغبة في العمل الجماعي إلى وجوب التحلي بالقدرة على الذوبان في الجماعة.

الميزة الاُخرى من مميزات الادارة الجماعية هي الابداع. وكان الشهيد البهشتي باعتراف الأصدقاء والأعداء إنساناً مبدعاً، بل وكان مظهراً للابداع وكثيراً ما كان يعرض الآراء والاقتراحات الجديدة، وكان رأيه في الكثير من الأحيان محوراً للنقاش والعمل الجماعي.

والسمة الخاصة التي كانت تساعده في هذا المضمار هي حلمه، حيث كان حليماً بمعنى الكلمة. صفة الحلم غالباً ما يعجز الكلام عن بيان معناها ولكن من معانيها السعة والقدرة على الاستيعاب. والشهيد البهشتي كانت له قدرة عالية في الاستيعاب وطول الأناة، ولا يطفح كيله بسرعة. ولم يكن من النوع الذي يغادر الميدان، أو يستثار بالإساءة. وحتى أنه ربّما تعرّض للاهانة في الاجتماع، بل وحصل هذا عدّة مرّات. كان يتميّز بالحلم والقدرة على الاصغاء إلى الاهانة بأناته ليرد عليها في نهاية المطاف بالاستدلال المنطقي. الأشخاص الذين لا يملكون هذه السعة النفسية غير جديرين بتولي المسؤوليات الادارية.

لم تكن أناة الشهيد البهشتي محصورة في اطار القدرة على استيعاب ما يوجه إليه من إساءات، وانما كان حليماً أزاء المدح والاطراء أيضاً، ولا يأخذه التيه في مثل هذه المواقف. العاصفةُ المنبعثة عن الاطراء والتمجيد لا تقل هولاً عن العاصفة التي تحدثها الاهانة، بل وقد تكون الأولى أعنف تأثيراً من الثانية. هكذا كانت أناة البهشتي وقدرته على الاستيعاب. ومن الطبيعي أن الشخص الذي يحمل مثل هذه الميزة الأخلاقية ويتحمل الاهانة الموجهة إليه، فهو على تحمل انتقاد الخصوم أقدر.

ومن صفاته الاُخرى الاعتماد على الذات. قلّما وجدت شخصاً كالشهيد البهشتي في اعتماده على ذاته. وانا أعزو هذه الخصلة إلى بيئته العائلية. الجو العائلي الذي ترعرع فيه الشهيد المرحوم لم يكن من النمط الذي يشعره في فترة الطفولة بالعجز والضعف والقصور الذاتي. فلو قيل له مثلاً وقع الاختيار عليك لزعامة العالم لما استشعر أي قصور عن التصدي لذلك المقام. من المحتمل أن يتذرع بضيق الوقت، إلاّ أنه لا يرى نفسه قاصراً عنه، ولم يشعر الضعف قط. أي انه على هذه الدرجة من الاعتماد على الذات. ولهذا ساعدتنا هذه الحالة من الثقة بالنفس كثيراً في أيام الثورة وما تلاها. فلم يكن رحمه الله يشعر بالوهن في مجابهته للمهام الكبرى، وكان متأهباً لمواجهة أية مشكلة والتغلب عليها. ومن البديهي أن مثل هذا الإنسان قادر على ان يكون مديراً ناجحاً.

من المزايا الاُخرى التي تطبع شخصية المرحوم هي عقله؛ فقد كان عاقلاً حقاً. ولم يلاحظ عليه ما يمكن تسميته بالسذاجة أو قلة الذكاء، بل كان ذكياً وعاقلاً وواعياً ومنطقياً ويتعامل مع الأمور بمنتهى الدقّة، إضافة إلى ما يمتاز به من سرعة البديهة. وميزته الأساسية في استخدام العقل هي السرعة والدقّة في التعامل مع الأمور بشكل شمولي. قد يعرض أحياناً رأيان متناقضان فيبادر هو باسلوبه الشمولي إلى ارضاء الطرفين. وحينما كانت تواجهني أمثال هذه المواقف وقتذاك في مجلس قيادة الثورة، أو في مجلس الخبراء، أو في اجتماعات الحزب [الجمهوري] وفي جميع اللقاءات الاُخرى، خطر في ذهني هذا الموضوع ذات مرّة، وقلت للسيد البهشتي في وقتها ان الاجتهاد معناه هذه النظرة الشمولية. الاجتهاد يعني القدرة على الجمع بين مختلف الادلة والشواهد. في ذلك الظرف أدركت ان السيد البهشتي مجتهد حقاً.

وكان المرحوم البهشتي عميقاً في حساباته ـ أيضاً ـ؛ أي انه لم يكن ينظر إلى الأحداث السياسية كمجرد وقائع ومصادفات. ومن الطبيعي أن بعض الحسابات كانت صحيحة وبعضها الآخر كان مغلوطاً. لاحظوا كيف كان تعامله مع انحرافات بني صدر تعاملاً محسوباً. وكان خطابه يوم التاسع من محرم خطاباً محسوباً بالكامل. لما سمعت ذلك الخطاب أدركت ان السيد البهشتي قد قال فيه كل ما يستطيع قوله وان جمله وكلماته كانت ضمن حسابات عميقة. وهذا التعامل المحسوب هو الذي أسقط بني صدر. كان بني صدر شخصية دعائية غربية وبارعة لا يمكن الاطاحة به إلاّ بالمجابهة الدقيقة والمحسوبة.

لاريب أن الإمام الخميني أطاح ببني صدر باشارة واحدة. إلاّ أن تلك الأصابع التي كانت اشارتُها تضاهي الجبال وزناً ما كان لها أن تتحرك إلا بعد اجراءات تمهيدية، وكانت تلك الاجراءات التهميدية هي التعامل المحسوب للسيد البهشتي.

ما كان السيد البهشتي يشعر بالكلل والملل، وكثيراً ما كان يستشيره مختلف الأشخاص، ناهيك عما كانت له من مسؤوليات قبل وبعد الثورة.

من البديهي أن الشخص الذي يعتمد عليه الآخرون ويستشيرونه وهو يتابع في الوقت نفسه مسار الأحداث، يستهلك طاقة هائلة ويتعب بسرعة. إلاّ أنّ الشهيد البهشتي ما كان يتعب قط. كان يشارك في أعمال مدرسة الرفاه، وفي مصارف القرضة الحسنة، وفي دار “مكتب النشر”، وفي طباعة الكتب المختلفة، وفي أعمالنا، كما كان يشارك في نشاطات الاُخوة أعضاء جمعية “المؤتلفة”، وفي الشؤون الاقتصادية للجمعيات الإسلامية، وفي حل النزاعات وما إلى ذلك من الأعمال الاُخرى التي كان يمارسها ذهنياً وجسدياً. ومع كل هذا لم يسمع أحد أن السيد البهشتي شكا يوماً من التعب. وعلى العموم كان السيد البهشتي يثير الاعجاب ويتمتع بقدرات فائقة.

كان السيد البهشتي مجموعة من الخصال الطيبة والحميدة. وأنا شخصياً لم أرَ حتى الآن لا في الماضي ولا في الحاضر شخصية كشخصيته. وكانت شهادته مكملة لشخصيته حقاً. ولاشكّ ان الموت الطبيعي كان شيئاً تافهاً بالنسبة له. السيد البهشتي عندما كان حيّاً كرّس كل طاقاته وإمكاناته لاعلاء كلمة الإسلام. طبيعي أننا أسفنا كثيراً لاستشهاده، وانه قد سلبوه منا في وقت كنا فيه بأمس الحاجة إليه؛ إلاّ أن موته البطولي لم يكن خسارة للعالم الإسلامي وذلك لأنّ جوهرة وجوده الثمينة قد انفقت في سبيل الإسلام ولم تذهب هدراً أبداً. وإذا أردنا التحدث بمعانٍ أرفع نقول ان شخصية ووجود السيد البهشتي ذخرت عند الله لهذه الثورة. ولكن يمكننا القول باستمرار انه كان لدينا مثل هذا الشخص، وان ثورتنا قد تبلورت من خلال وجود أمثال مثل هذه الشخصيات.

* لو سمحتم في نهاية الحديث توضيح ذكرياتكم في مرحلة ما بعد السابع من “تير”، وما هو شعوركم في اللحظات التي تعرضتم فيها لمحاولة الاغتيال وجرحتم فيها؟

ـ أول شيء أتذكره هو أنني سألت السيد الهاشمي في المستشفى، ألم يأت السيد البهشتي إلى هنا؟ فقال: لقد جاء ووجدكم نائمين ورجع. كانت في نفسي رغبة عميقة أن يكون السيد البهشتي إلى جانبي. فالكثير من الأصدقاء قد جاءوا لعيادتي إلاّ السيد البهشتي. فكرت مع نفسي أنه لابدّ وان يكون كثير المشاغل. لكنني كنت على الدوام أترقّب مجيئه. وأنا في تلك الحالة لم يأتوني بالمذياع ولا بالصحف.

وفي الليلة الأولى أو الثانية دنا مني أحد الأطباء وأنا بين النوم واليقظة وهمس في أُذني قائلاً: هناك حقيقة اُريد اعلامك بها وهي ان انفجاراً قد وقع في مقر الحزب الجمهوري. ولم أكن حينها في كامل وعي، بل كانت حالة شبيهة بالاغماء، لذلك لم يثر هذا الخبر مشاعري، بل وحتى أنني لم أستوعبه على حقيقته، إلى أن طلبت بالحاح أن يأتوني بالصحف والمذياع. وبعد مرور ثمانية أو تسعة ايام على اصابتي جاءني سماحة الشيخ الهاشمي الرفسنجاني، والحاج سيد أحمد الخميني وجلسا إلى جانبي. وفي تلك الأثناء دخل الطبيب المشرف على علاجي وطلب مني السماح له بأن يعرض طلبي في الحصول على الصحف والمذياع على الشيخ الرفسنجاني والسيد أحمد، وعرض الموضوع عليهما. فقال لي الشيخ الرفسنجاني: ما هذا الاصرار على قراءة الصحف؟ فقلت له: انني غير مطلع على أي شيء واشعر بإنني في عزلة. قال: وهل تظن ان ثمة أخبار سارة حتى تتضجر من عدم سماعها؟ ثم بدء يتحدث لي بعض وقائع يوم الثلاثين من “خرداد” والأحداث التي تلتها والمذابح التي ارتكبها المنافقون.

قال لي الشيخ الرفسنجاني اثناء حديثه: لابدّ وأنك اطلعت على الانفجار الذي وقع في مقر الحزب. فتداعى إلى ذهني فجأة الكلام الذي ذكره الطبيب. فقلت: وهل وقع انفجار في مقر الحزب؟ وماذا حصل على أثره؟ قال: بعض الاُخوة جرح وبعضهم استشهد. انتابني قلق مفاجئ، وسألته: وماذا عن السيد البهشتي؟ قال: السيد البهشتي اُصيب ببعض الجراح أيضاً. وعندها أجهشت بالبكاء. فسألته مباشرة: وما مقدار إصابته؟ هل هي مثل إصابتي أم أفضل أم أسوأ. كنت أُريد أن أعرف شدّة إصابته. قال: انّ شدّة اصابته قريبة من شدّة اصابتك. فشعرت حينها بقلق عميق.

وبعد هذا الحديث ودعني الشيخ الرفسنجاني والسيد أحمد الخميني وذهبا.

وبعد ذهابهما احتملت أن الشيخ الرفسنجاني قد أخفى عنّي شيئاً، فناديت على أحد الأشخاص القريبين منّي واستفسرت منه عن حالة السيد البهشتي. فقال: لقد استشهد في اللحظات الأولى بعد الانفجار الذي وقع في مقر الحزب. وما أن سمعت هذا الخبر حتى غرقت في الحزن والأسى.

لقد كانت هذه الحادثة بمنتهى الصعوبة والمرارة بالنسبة لي، لأنه وبغض النظر عن العلاقات السياسية ووشائج العمل التي كانت تربطني واياه، كان ثمة صلة روحية في ما بيننا أيضاً. وفي الحقيقة أن السيد البهشتي كانت فيه شفافية تجتذب إليه الجميع، وكان بعيداً عن صفات العنف أو سوء السريرة. كان في غاية الرأفة ولا يسوّغ لنفسه ايذاء أحد.

كان السيد البهشتي شخصية فريدة حقّاً وجوهرة ثمينة.

أسأل الله أن يتقبل من الاُمة الإسلامية هذا القربان العزيز الذي قدمته على طريق أهدافها. ومن المؤكد ان الثورة الإسلامية مدينة في نهوضها وديمومتها لهذه الدماء.

أعلام الجهاد