الشباب ومتطلبات المرحلة

دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (ع)

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد الخامنئي «دام ظلّه»

بسم الله الرحمن الرحيم

اجتماعنا هذا اليوم طافح بالصفاء والصدق وأروقته تظللها المحبة، إنكم تحيطونني بمحبتكم وأنا بدوري أبادلكم المودة، والأمل يحدوني بأن تتحول هذه الأجواء الملأى بالحيوية والنشاط إلى منطلق يعيننا على تبادل الحديث حول أهم القضايا التي هي في صميم اهتمامنا أنا وأنتم.

بادئ ذي بدء أتقدم بالشكر لكم حيث تتحملون عناء الجلوس في هذا الجمع الحاشد، وللاخوة القائمين على الاعداد لهذا الاجتماع، ومَنْ شاركوا في المراسيم، وكذا ابنتي العزيزة التي قرأت الرسالة ـ وسأحتفظ بهذه الرسالة وأطالعها بدقة على أمل أن تتوفر لدي فرصة متابعتها إن شاء الله ـ وشكري كذلك لأبنائي الأعزاء الذين أنشدوا أبياتاً حزينة من شعر اللاهيجي [أحد الشعراء المعروفين في محافظة جيلان]، وإن أية خطوة نخطوها باتجاه تحقيق الأهداف التي يتطلع إليها هذا الشعب سننال عليها الثواب الجزيل من لدن الباري تعالى إن هي اقترنت بالاخلاص.. وتأسيساً على ذلك فإن الثواب يشملكم جميعاً.

الشهيد العَلَم

اليوم يوم المعلم واجتماعنا هذا خاص بالشباب، والعلاقة بين المعلم والشباب علاقة منطقية ودائمية، وإنني أتقدم من الأعماق بآيات التقدير والتبجيل لمعلمينا الأعزاء، وليعلم المعلمون والمدرسون في كافة أرجاء البلاد أنني من أكثر الناس اخلاصاً لهم وعرفاناً لقدرهم، إذ إن عملهم والمهمة التي يحملونها على عواتقهم من العظمة ما يعجز البيان ـ من قبيل البيان الذي يدلي به أمثالي ـ عن وصفها.

واليوم يوم الشهيد المطهري أيضاً، ذلك العالم المعلّم الذي أصبح فيما بعد الشهيد المعلّم، وهو لم يحصر العلم بين جنبات قاعة الدرس، إنه كان يدرس في الجامعة والحوزة، ويستمر تدريسه ساعات وساعات، بيد أن تدريسه كانت له مديات واسعة جداً، وكان يؤلف ويحاضر وعدد تلاميذه في مجال التأليف والخطابة أضعاف عدد تلاميذه في قاعات الدرس، وكان ينتقي من الحديث ما يلبّي مقتضيات الزمان.

ليست لدي الآن الفرصة لأتطرق بالتفصيل لأعمال هذا الشهيد التي قل نظيرها، لكنني أوصيكم بالتواصل مع حديث الشهيد المطهري لما يمثله من حديث العصر. لقد انهالت عليه كافة العناصر التي وقف طوداً فكرياً بوجهها وصبّوا عليه حمم هجماتهم الفكرية وتحاملوا عليه اجتماعياً أيضاً، لكنه صمد أمامهم بمفرده. مَن هم أولئك المهاجمون؟ إنهم المروجون للثقافة الأجنبية الدخيلة والمضلون ممن ينصبون المصائد في طريق الشباب؛ يومها كانت الشيوعية وبعض الأفكار الليبرالية هي الرائجة ولم تزل تلك الأفكار تطل علينا في هذه الأيام؛ فالشيوعية قد ماتت بظاهرها، أما الحديث الذي يطرح قراءات مختلفة لمصادر الفكر الإسلامي فهو لم يزل حياً.

الشباب وروح الاستقلال

لأدخل الآن في صلب موضوعي، حيث كان لي الكثير من الكلام حول قضية الشباب، كما صدر عن الآخرين الكثير، بيد أن القضية لم تزل في أهميتها تشغل الأوساط الفكرية والعلمية في مجتمعنا ولا مفر من مواجهتها، وإنكم الشريحة التي تشكل فحوى قضية الشباب، ولي معكم حديث بهذا الصدد.

إن عدد الشباب ونسبتهم إلى المجموع السكاني في البلاد يعد ظاهرة مدهشة، فنصف أبناء شعبنا هم من الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين، وقلّ أن اتفق أن يجرب بلد هو من أكثر البلدان شبابية واحدة من أعظم الثورات وأكثرها فتوة في التاريخ ونظاماً سياسياً هو الأوفر استقلالية في العالم، إنه اقتران عجيب. وهذا الكم الهائل من الشباب لا يقطن بلداً يحكمه نظام سياسي تابع لأمريكا أو الشركات العالمية الكبرى أو الشركات المتعددة الجنسيات أو هذا البلد أو فلك تلك السياسة بل يحيى في بلد يتميز نظامه السياسي بشبابيته، والشباب بطبيعته ميّال نحو الاستقلالية ورفع الهام ويأبى الأسر والتبعية، وإن النظام السياسي في بلدكم اليوم نظام شامخ لم يطأطئ رأسه أمام أحد أبداً، ولم ترهبه مدافع الأمريكان وعنجهيتهم ولا الأخطار على اختلافها التي واجهها على مدى اثنين وعشرين عاماً.

إن وطننا يعيش ثورة حديثة وفتية لذلك فهو بحاجة إلى برنامج عمل سريع مقرون بالتخطيط الصائب باتجاه بناء النفس وبلوغ التطور، كي يتسنى له قطع ألسنة الأعداء وفرض وجوده عليهم علمياً وعملياً، وهذا ما يستحيل تحقيقه بمجموعة من العجزة الذين ذرّفوا على الخمسين أو الستين، لكنه في عداد الممكنات على أيدي شعب نصفه من الشباب؛ وها هي قوافل الشباب تقتحم الميدان بسرعة والآفاق في أقصى الجلاء والوضوح على هذا الصعيد.

كلامي هنا ذو شقين: أحدهما موجه إلى مسؤولي البلاد والقائمين على التخطيط فيها، أما الآخر فهو لكم أيها الشباب. وحديثي ـ بطبيعة الحال ـ مع المسؤولين ليس ابن يومه، بل هو ما أدليت به أثناء مختلف الاجتماعات العملية مع كبار مسؤولي البلاد أو حتى أثناء الاجتماعات العامة أحياناً، لكن الشعور يراودني بضرورة تكراره مرة أخرى أو ربما مرات عديدة كي يرتفع صداه في الأجواء، ليزيل كل مانع يقف في طريق المبادرة للعمل.

وظيفة المسؤولين تجاه الشباب

أقول لمسؤولي البلاد والاداريين والمشرفين على التخطيط: عليكم أن تعتبروا هذه القاعدة العريضة من الشباب نهراً هادراً متلاطماً وهو يشق طريقه بشكل متواصل وسيبقى على هذا المنوال على مدى السنوات اللاحقة؛ وثمة نمطان لاستغلال هذا النهر:

أولهما: أن تنهمكوا بتدبر وبأسلوب عملي لتشخيص أهمية هذا النهر أولاً، وتحديد المناطق التي تحتاج لمياهه ثانياً، ووضع الخطط اللازمة لانشاء القنوات التي تنقل هذا الماء إلى المناطق ذات الحاجة ثالثاً.. حينها ستزدهر الآلاف من المزارع والبساتين وستعمر كل خربة بهذه النعمة الإلهية الفياضة. وبإمكانكم تخزين مياه هذا النهر في سدود مخصصة لانتاج الطاقة، فتحولونه إلى مصدر ضخم للطاقة، وتدفعون بالبلد نحو العمل والنشاط.

إن تصرفتم مع هذا الأمر بمثل هذا التصرف فستتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة ميمونة واستثنائية لا نظير لها، بحيث ان أبناء الشعب الإيراني فرداً فرداً لو حاولوا جاهدين شكر الله سبحانه كل يوم لما قدروا على أداء ذلك الشكر كما ينبغي، والعلامة البارزة في هذا التعامل هي التخطيط، والهداية، وتعبيد الطريق، وتشخيص الأرض التي تحتاج لهذا الزاد النفيس وهذه الهبة الإلهية وتوظيفها فيها، لتكون ثمرة ذلك الاخضرار والازدهار والإعمار والنشاط والخيرات.

أما النمط الثاني فهو أن تتركوا هذا النهر دون تفكير به أو تخطيط له أو معرفة لقدره؛ فماذا ستكون النتيجة حينها؟ ستجف المزارع وتندثر الحقول من ناحية، وسيضيع هذا الماء هدراً حيث سيصب بسهولة في المياه الآسنة، فلا فائدة تُرجى منه. وهذه هي عاقبة النمط الثاني من التعامل، حيث سيتحول الماء إلى مستنقع تعشعش فيه شتى الأمراض، والأسوأ من ذلك أن يتحول إلى فيضان يأتي على المكتسبات التي حققها الشعب برمّتها.. هذه هي العواقب الناجمة عن فقدان التخطيط والدقة في العمل.

لقد من الله سبحانه على شعبنا بهذه النعمة، فأين المستفيد منها؟ ومَن ذا الذي يغتنمها في محلها ـ وهو المعنى المراد من شكر النعمة ـ؟ إنهم الاداريون والمشرفون على التخطيط من أعلى المناصب حتى أدناها.

ثمة بلدان تعاني الأمرّين لقلة نسبة الشباب وارتفاع معدل الأعمار فيها، لكننا عندما نجول بأبصارنا في بلدنا نجد الوجوه الشابة الباسمة، والهامات المرفوعة، والسواعد والأبدان السليمة والقوية؛ فالشاب يعقب تلألؤاً في فكره وقوة في بدنه، فلابد من معرفة قدر الشاب.

إن البعض لا يتعامل مع هذه الظاهرة بما تستحقه؛ فبدلاً من المبادرة لوضع الخطط اللازمة التي تصب في صالح الشباب يلجأ أحياناً للتزلّف إليهم، وانني لأستهجن الايغال بالإطراء والمديح لجيل الشباب حين مواجهتنا لهم، فما ذلك سوى تلاعب بالألفاظ وتمرير للأهواء مما لا داعي له، وما يبعث على الأسف أن البعض قد ابتلي بهذا المرض؛ فأنى بدر القصور منهم نادوا باسم الشباب! ومتى ما لاح العجز عليهم علقوا يافطة الشباب! إنه لمشكلة التصنع للشباب وأفعال الأساطير لهم، دون الأخذ بنظر الاعتبار واقع الشباب وهواجسهم وطبيعة حركتهم والتخطيط الصحيح الذي ينفعهم.

والمشكلة الأخرى تتمثل في تسخير الشباب كسلعة استهلاكية فيتم استغلالهم للمشاركة في الانتخابات وترديد اسم زيد وعمرو لا غير، وكل ذلك مرفوض البتة. وليس هذا الذي يفترض القيام به، بل أن يبادر واضعو الخطط في البلاد في الحقول الثقافية والاقتصادية والسياسية لدراسة هذه الظاهرة العملاقة ووضع الخطط الكفيلة بها، وهذا ما تحتاجه البلاد.

إن بلدنا يمتاز بسعة مساحته ووفرة امكانياته، وفي المقابل يعاني من مصاعب عديدة؛ فهو من البلدان التي تعاني شحة في المياه وندرة في بعض المصادر الطبيعية حيث تتوسطه صحراء واسعة، بيد أن هذه السواعد الإنسانية إذا ما استلمت الايعازات من عقول ناضجة واعية فإنها ستقضي على هذه النواقص وترفعها وسيعم الرقي بلدنا، وذاك منوط بالتخطيط العلمي الحكيم. ولقد نقل هذا الشاب العزيز عني قولاً، وأنا أقول: نعم، لقد تكرر مني القول بضرورة وجود إرادة وطنية وعامة على كافة المستويات في البلد، بدءاً من الحكومة ومروراً بأجهزة المحافظات والمدن وانتهاءً بالقرى لمتابعة قضية الشباب، ولا فارق بين شاب وآخر من حيث سكناه في المدينة أو في الريف أو بين ابن طهران وبين ابن أقصى مدينة في البلاد؛ فمزايا الشباب على حد سواء لدى الجميع، وهذا ما نحتاجه نحن. ولا أريد هنا أن أرفع المسؤولية عن عواتقكم أيها الشباب؛ كلا، فهذا مما لن أتفوّه به أبداً، وسأتطرق فيما بعد إلى كيفية تشكيلكم لإحدى مرتكزات المسؤولية، كما لا أريد القول بوجوب حلّ جميع هذه المشكلات خلال فترة وجيزة وزمان قصير، كلا فهي بحاجة إلى تخطيط بعيد المدى؛ فمرة يتحقق بعضها خلال عام من الزمن، وأخرى خلال خمسة أعوام، وثالثة يمتد بها الزمن إلى عشرة أعوام.. غاية الأمر إن لم يكن هنالك تخطيط فلا ينحصر الأمر بعشرة أعوام، بل قد يطول المقام حتى عشرات أخر من الأعوام دون أن يثمر شيئاً. وإنني أحث أحداً على الاستعجال أبداً، لا أنتم ولا المسؤولين، فلا أدعوكم للوثوب والمطالبة والالحاح، ولا أدعو المسؤولين للاستعجال والتخبط لتأسيس شيء ما، ثم يقولون إن هذا كان استجابة لما دعا إليه فلان خلال حديثه في المكان الفلاني، فلا جدوى من كل ذلك، بل على الشاب متابعة عمله بتأنٍّ ـ وقد اتضحت معالم مهمته في وقتنا الراهن ـ وينبغي للمسؤولين الاهتمام بهذه القضية والتفكير بها تفكيراً ينمّ عن المسؤولية والتدبير واعتبارها قضية جوهرية؛ ففي بعض الحالات نرى لجاناً تتشكل لمتابعة قضايا عابرة وعاطفية وهي لا تستحق أن يكلف شخص واحد أو لجنة بكاملها لمتابعتها. يجب أن يباشر أناس التفكير بهذه القضية والعمل من أجلها على نحو الخصوص.

لقد كان تشكيل المنظمة الوطنية للشباب خطوة في محلها، وإن ما أطرحه ـ وإن كنت راضياً عن مسؤوليها ـ لا ينحصر انجازه على منظمة الشباب، بل هو مهمة الحكومة، مهمة التخطيط السياسي والاقتصادي؛ فعلى الجميع التصدي بأنفسهم لهذه المهمة، وللمنظمة الوطنية للشباب دورها التطبيقي والتنفيذي أيضاً ويتعين عليها النهوض به.

وبناءً على ذلك فإن عملية التخطيط البعيد المدى ضرورية.

يجب أن يسود التعاون والتنسيق بين كافة السلطات في هذا المضمار، ومنطلق حثّي على التنسيق والتعاون بين السلطات الثلاث خلال أحاديثي أو الرسالة التي بعثتها لرؤساء هذه السلطات إنما مرده الأضرار التي تلحق بالبلاد نتيجة التضاد بين السلطات الثلاث، الذي يعمد إلى اذكائه الذين يصبون اهتمامهم على القضايا العابرة والمرحلية ذات الطابع السياسي والفئوي. فيجب أن يسود التعاون بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، والمسؤولية العظمى في هذا المجال تتحملها السلطة التنفيذية التي يتعين عليها العمل ومتابعة نشاطاتها على كافة المستويات. فهذه القضية أساسية وجدية بالنسبة للبلاد.

إذا ما توفرت هذه المثابرة فإننا سنشهد بلداً يتميز شبابه بالحيوية والنشاط والفاعلية، فما أن يمضي عقد من الزمن حتى يشهد المراقب لبلدنا حشداً من السواعد والعقول والأفئدة الفاعلة، وهي تقتحم كافة الميادين، يومها لن يستسيغ أحد مغادرة أرض الآباء، أرض إيران المقدسة العزيزة بحثاً عن لقمة عيش لا قيمة لها متحملاً من أجلها امتهان بلد وشعب أجنبي، حتى وإن عاش بينهم عمراً كاملاً فإنهم يطلقون عليه عبارة الأجنبي وعدم انتمائه لتلك الديار، وقد تصل الأمور حدّاً بحيث ينهال النازيون ـ كما في ألمانيا ـ على الأجانب المقيمين في تلك البلاد، وكنت قد قلت مراراً إن هؤلاء ما هم إلا وحوش أنيقة متعطرة تلبست بالمدنية؛ فأيّ بلد ينهال شبابه ضرباً للأجانب كالذي جرى مؤخراً في ألمانيا وتبعتها النمسا وايطاليا؟! إن الوهم يخالط الشاب الإيراني إذا ما حاز مرتبة عالية في إحدى المنافسات ثم يتوجه إلى تلك الدول طمعاً في أن يعرفوا قدره! كلا فإنك عندهم أجنبي وغريب بالرغم من عملك لصالحهم وتسخيرهم لك، وامتصاصهم لجهودك دون مقابل، بالاضافة إلى نأيك عن ديارك، وقد يأتي اليوم الذي يعتري السكر شبان ذلك البلد فيطيحون بك ويقولون إنك أجنبي ولابد أن نلقي بك خارجاً!

إذا ما توفرت هذه المثابرة حينها لن يرغب أحد في الرحيل عن بلده العزيز إيران وعن دياره وينأى بفؤاده عن ساحة العمل والجهاد، وسيدخل هؤلاء الشباب بأجمعهم معترك العمل العلمي والصناعي والزراعي والخدمي ويزدهر الانتاج والابداع، وبالتالي سيشيدون وطناً متكاملاً من كافة الجوانب، وما ذلك إلا ثمرة ذلك التخطيط، وهو الأفق الزاهر الذي سيتمخض عن تلك الإرادة الوطنية وهذا التخطيط. وإذا ما تطلعت عيون ذلك الشاب الداخل توّاً لرحاب الدرس والمباحثة إلى ذلك الأفق فإنه سيندفع نحو درسه بكل شوق ورغبة، وبذلك يرتفع المستوى العلمي في البلاد.

أما البعد السلبي في القضية فيتمثل في اهمالها وعدم التخطيط لها وعدم فسح المجال بين صفوف المجتمع أمام الجيل الصاعد، فماذا ستكون النتيجة يا ترى؟ إنها بروز طابور من العاطلين ممّن يشكلون عبئاً ثقيلاً على كاهل المجتمع، حيث لا أمل ولا اندفاع ولا حيوية ولا مستقبل ولا منطق للاعتزاز بالوطن، بل لا وجود لهذا الاعتزاز من الأساس.. وهذا هو أدنى ما مرتقب من عواقب؛ فهنالك ما هو أسوأ منه.

إن الجميع مسؤولون؛ مسؤولو البلاد والمشرفون على أمر التخطيط والتنفيذ ووسائل الإعلام، والإذاعة والتلفزيون والصحافة، ويجدر بالاذاعة والتلفزيون والصحف أن لا تعرض على الدوام أمام الشاب شاباً بيروقراطياً غارقاً في حياة الدعة واللامبالاة والبذخ كأسوة لهم، وينبغي أن لا تلجأ بعض الصحف إلى التفلسف والحديث بنحو يوحي للشاب أن أقصى غاية بالنسبة للإنسان هي جمع الثروة عن أي طريق كان، فإن استطاع الحصول على شهادة علمية فإنها حينذاك تمثل وسيلة لجمع الأموال، وإلا فإنه يسلك أي طريق آخر حتى لو لجأ إلى التهريب أو التذلل وتحمل الاهانات والصَّغار أو السرقة من الآخرين! يجب أن لا تتخذ الثروة هدفاً أساسياً، فهي لا اعتبار لها، وليست الغاية كل الغاية جمع الأموال، بل الأموال وسيلة لتمشية الأمور الحياتية، وهي أدنى من أن تتحول إلى غاية بالنسبة للإنسان، يجب أن لا توضع أمام الشاب القدوة المنحرفة التي تدفع لديه الشعور بضرورة البحث عن الثروة بدلاً عن الموهبة والابداع والاجتهاد وطلب العلم والاختصاص! حتى إننا نسأل أحد الشباب عن السبب في تركه للدراسة فيجيبنا: لا حاجة لي بالدراسة، فإن عند أبي من الثروة ما يغنيني عنها! وهكذا يتضح أن الغرض من الدراسة هو الثروة.. وحتى لو أدت به هذه الثروة إلى البطالة واللامبالاة والطبيعة الاستهلاكية فإنه لا يرى ضيراً في ذلك أيضاً، فهل في هذا التفكير من صواب؟! إنه أسوأ نمط من التفكير، ولذلك فإن وسائل الإعلام تتحمل المسؤولية أيضاً.

إن بمقدورنا تصور هكذا مستقبل لنا ـ ليس على المدى البعيد غير المنال وإنما على المدى القريب ـ وإن نتفاءل به، فلم لا نقدر عليه؟ فلقد صنع شبان هذا البلد خلال عقدي الخمسينات والستينات [حسب التاريخ الهجري الشمسي] المعاجز، حيث قاموا يومذاك بما لا قدرة لأي شعب على انجازه في نزولهم إلى الشوارع ـ كنزولكم إلى شوارع مدينة رشت أو مدن المحافظة الأخرى أو سائر البلاد ـ وكان ذلك الحضور من القوة ما أشعر النظام المدجج بالسلاح المدعوم بسياسات الاستعمار العالمي بعدم بقاء أية امكانية له للعيش فاضطر للهروب، ليذهب بلا رجعة.. وقد تكررت هذه التجربة فيما بعد، في حين لم يشهد لها نظير في أي بلد قبل ذاك، إذ إن الثورات التي كانت تحدث في سائر المناطق إنما كانت ثمرة العمليات الثورية وحرب المليشيات ودوي الرصاص، بيد أن تجربة الشعب الإيراني كانت صنيعة الشباب.

قبل أن يخطف نيلسون مانديلا النصر في جنوب أفريقية، وكان قد خرج تواً من السجن، جاء إلى إيران وكان لي معه لقاء، فسألته عن الأوضاع في أفريقية الجنوبية فتحدث لي عنها، فقلت له: إن لدينا تجربة أعتقد بإمكانية تطبيقها في بلدكم، وهي أن ابناء شعبنا بأغلبيته رجالاً ونساءً نزلوا طواعية إلى الشوارع ودون أن يرفعوا قبضاتهم أو يحملوا سلاحاً أو يتسلحوا بالقنابل اليدوية أو حتى بأدواتهم المنزلية، بل نزلوا بأبدانهم فقط، ولم يتدرعوا بشيء أبداً، بل نزلوا بصدور مشرعة، وبذلك فقد أثاروا حفيظة النظام فشعر بعجزه عن الصمود بوجههم، ومَن هم الذين يريد ممارسة الحكم عليهم؟! وأكدتُ له: أنني أعتقد بإمكانية تطبيق هذه التجربة في أفريقية الجنوبية، فما كان منه إلا أن يهز رأسه، وبعد مغادرته لم يطل بنا المقام أكثر من شهر أو شهرين وإذا بنا نطالع في الصحف أخبار المسيرات الشعبية الضخمة التي انطلقت من أفريقية الجنوبية، فأدركت أن هذا الغرس قد أينع هناك حيث تكررت تجربة إيران، إذ غصت شوارع المدن الكبرى في أفريقية الجنوبية بالسود والتحق بهم بعض البيض معلنين رفضهم للحكم العنصري، فكانت النتيجة ذاتها، أي أن القطب الحاكم رأى استحالة قيامه بأي فعل، فرحل مخلفاً من ينوبه في الحكم، وهذا بدوره أدرك عجزه أيضاً فلجأوا إلى نقل السلطة بهدوء بيد السود وأصبح مانديلا نفسه رئيساً للجمهورية.

إنها تجربة يمكن تقليدها، وهذا الانموذج كان قد حققته سواعد الشباب الإيراني خلال الخمسينات والستينات لتقتدي به الشعوب من أجل نيل حريتها.

لقد جاءت معجزة الثورة الإسلامية في الخمسينات فيما جاءت معجزة حرب السنوات الثماني في الستينات، وفي بداية الحرب كان بعض الاخوة قد اعتاد العمل وفق التعليمات والأوامر العسكرية التقليدية، وكانوا يقولون بوجوب مقابلة العراق بالمثل فإن تقدم بخمسين دبابة لابد من مواجهته بمثلها، وحقاً كان رأيهم، غير أننا لم نكن نمتلك ذلك! ولقد توجهت ذات ليلة إلى احدى الألوية المنظمة الذي كان يفترض امتلاكه لـ (120) دبابة فوجدته لا يملك أكثر من سبعة عشرة دبابة! وكان ذلك اللواء مرابطاً في منطقة حردان لمواجهة القوات العراقية، فكان الرأي باستحالة المواجهة، بيد أن الشاب الإيراني ـ سواء من التعبئة أو الجيش، ذلك الشاب الضابط في الجيش أو التابع لقوات الحرس الثوري ـ أثبت إمكانية ذلك وخلق المعاجز.

لم يأتِ ذلك الجيش المدجج بكافة المعدات الحربية الحديثة كي يذهب، وهل جاء الجيش العراقي إلى إيران ليرجع؟! فلو كان ينوي العودة لما جاء، انه جاء ليستحوذ على خوزستان وينتزع مصادر النفط من الجمهورية الإسلامية ويلصق العار على جبين الجمهورية الإسلامية مشهراً بها لعجزها عن المحافظة على واحدة من محافظاتها الغنية بالثروة النفطية، لكنهم اضطروا بعد حين لتغيير طريقهم والعودة إلى بلادهم تحت وطأة سياط غضب شبابنا، متحملين كل تلك الخسائر ومنها خمسين إلى ستين ألف من الأسرى، وعلى اثر ذلك أدرك العالم أنهم هم المعتدون؛ أي أنهم خسروا الحرب عسكرياً ومنوا بالهزيمة سياسياً أيضاً. فمن هم الذين أنجزوا ذلك؟ إنهم شبابنا الذين صنعوا هذه المعجزة؛ فالشاب الإيراني الذي صنع تلك المعاجز خلال الخمسينات والستينات لِمَ لا يقدر على صنع المعجزة خلال الثمانينات والتسعينات؟ ولماذا لا يستطيع ترسيخ تلك المعجزة وتعميقها على المستوى العالمي؟ ولماذا يعجز عن اثبات انموذجية الشاب الإيراني لشبيبة العالم بشكل لا يقبل الشك؟ ما الدليل الذي تقيمونه على ذلك؟ إنه لأمر قابل للتحقيق.

إنني أقول للمسؤولين: علموا شبابنا المنعة والعفاف الأخلاقي والثقة بالنفس والاعتماد على الذات والصدق والشجاعة، ونمّوا لديهم الإرادة الصلبة والانضباط الاجتماعي والوجدان العملي، ثم أردفوا ذلك بوضع الخطط الضرورية لهم، إذ ذاك ستصبح كل تلك المهام في غاية اليسر وسيشهد المستقبل تحققها؛ فأولئك الذين استطاعوا خلال السنوات الاثنين والعشرين العبور بالبلاد من كل هذه المعابر الخطرة والصعبة مازالت لديهم القدرة لحد الآن، فلماذا تجذرون اليأس في أنفسكم؟ ولماذا تسرّبون ما بكم من يأس إلى الآخرين؟! فإن كنت محبطاً فتنحَّ وافسح المجال أمام هذه الحشود لتشق طريقها، فالاحباط الذي يصاب به شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص ينبغي أن لا يقف حائلاً في طريق شعب عظيم. وأقول أيضاً: عليكم بمصارحة الشباب والصدق معهم بدلاً من التزلف إليهم، افصحوا عن المصاعب والامكانيات، ثم وظفوا أنفسكم للعمل على توفير الامكانيات ومعالجة المشكلات؛ حينها سيتحول هؤلاء الشباب أنفسهم إلى جيش يعاضدكم في معالجة المشكلات؛ فالشاب لا يستسيغ أي شيء سوى الصدق على صعيد العلاقات الإنسانية.

الشباب والمسؤولية

إنني أعتقد بأنكم أيّها الشباب تتحملون مسؤولية كبرى، والمسؤولية التي بوسعكم النهوض بها ـ يا أعزائي ـ هي أن كل شاب يهفو إلى أن يتمتع وطنه الذي يحيا فيه والديار التي نما فيها بالعزة والرفعة والاقتدار وتزينهما المحاسن ومعالم الجمال، ويصبو إلى أن يحيا في مجتمع متحضر وتتوفر له مقومات التقدم العلمي والعملي. وهذا كل ما يتمناه أي شاب، وأمامه من أجل ذلك طريقان: أحدهما واقعي، والآخر زائف كاذب. ولابد هنا من سلوك الطريق الواقعي وتقبّل مشقّاته وتسديد ضريبته.

ما هو الطريق الواقعي يا ترى؟ إنه يتمثل في أن يعزم الشاب الإيراني على غرس بذرته في أرضه مسخراً من أجلها طاقاته وثروته الثقافية وإرادته، معتزاً بشخصيته واستقلاله رافضاً تجرع كأس الصَّغار وتقليد الطروحات الدخيلة؛ فالحضارة الواقعية التي تليق بشعبنا هي الحضارة الإيرانية الخاصة بنا، النابعة من مواهبنا الممتزجة الملتصقة بظروف حياتنا، والسبيل الحقيقي للعلاج هو السبيل الوطني، فعلينا أن نغرس بذرتنا ونبقى مواظبين عليها حتى ايناعها وندع تقليد هذا وذاك، ولا نندفع للحديث بلسان الأجانب ولغتهم والاستعارة من تجاربهم المستهلكة، وذلك لا يعني رفض الانتفاع من المنجزات العلمية للآخرين، فإنني على تمام الاعتقاد بضرورة الانتفاع من التجارب العلمية البشرية وعدم اغلاق النوافذ أبداً، بل لننتقِ الصالح من ابداعات الآخرين.

لقد أوضحت غير مرة ما هو الفرق بين الغزو الثقافي والتبادل الثقافي؛ فالغزو الثقافي أمر سلبي أما التبادل الثقافي فهو إيجابي.. فتارة يبحث المرء بنفسه عن الطعام أو الدواء المناسب الذي من شأنه سد النقص في بدنه وينفعه فيتناوله إذا ما عثر عليه ويدخله إلى جوفه، وتارة لا نتناوله باختيارنا، بل إنهم يكبلوننا ويخدروننا ويزرقون في أبداننا ما يريدون لا ما نحتاجه نحن، أوليست هنالك فارق بين الاثنين؟!

ما أقوله هو: على الشعب الإيراني أن لا يتعرى ليدس العدو في كيانه ما يحلو له من نفايات ثقافته مستخدماً في ذلك أحدث الوسائل.

لقد مرّ زمن أغمض المبهورون بالغرب عيونهم داعين لاستلهام كل شيء من الغرب؛ فما الذي تعلمه هؤلاء من الغرب؟ من المزايا الجديدة لدى الأوربيين هي المخاطرة وهي كانت منطلق نجاحاتهم، فهل تعلم المبهورون بالغرب تلك الميزة وجلبوها إلى إيران؟ هل أصبحت لدى الإيرانيين قابلية المخاطرة؟ ومن مزايا الأوربيين الجيدة أيضاً مثابرتهم وعدم التهرب من العمل، فهل جاء "المتغربون" بذلك إلى إيران؟ لقد كان أكابر العلماء والمخترعين في الغرب وأكثرهم مهارة من أولئك الذين عاشوا حياة قاسية وانهمكوا سنوات طوال في حجرهم حتى أفلحوا في تحقيق الاختراعات. وحينما يتصفح المرء حياتهم تتضح أمامه الطريقة التي عاشوا فيها. فهل جاؤوا بهذه الروحية التي لا تعرف الكلل من أجل أن يعرفها الشعب الإيراني فقط؟ هذه جوانب صالحة من الثقافة الغربية لم يأت بها هؤلاء، فما الذي جاؤوا به يا ترى؟! لقد جاؤوا بالاختلاط بين الرجل والمرأة، والحرية الجنسية، والتربع وراء طاولات العمل، والاهتمام باللذات والشهوات!

لما أراد الطاغية رضا خان المجيء لنا بهدايا الغرب كان أول ما جلبه عبارة عن خلع الحجاب وفرضه بقوة حرابه وعنجهيته، وفرض أن يكون اللباس قصيراً وأن يكون ارتداء القبعة وفق طريقة معينة، ثم تغيرت فيما بعد، بل لابد أن تكون القبعة على الطريقة الـ"شاپو"! وكل من يتجرأ ويرتدي غير القبعة البهلوية التي اشتهرت وقتذاك أو يرتدي الملابس الطويلة فإنه يواجه الضرب والطرد، ولم يكن مسموحاً للنساء بارتداء الحجاب، ليس فقط العباءة التي مُنعت يومذاك، بل حتى لو غطت النسوة رؤوسهن بالخمار وأخفين مقدمة شعورهن فإنهن يتعرضن للضرب، فلم ذاك؟! إنه نتيجة السفور الذي ظهرت به المرأة في الغرب! وهذا ما جلبوه لنا من الغرب، إنهم لم يأتوا بما هو ضروري للشعب الايراني، فلم يجلبوا العلم والخبرة والجد والاجتهاد والمثابرة والمخاطرة ـ وبطبيعة الحال فإن لكل شعب خصالاً جيدة ـ إنهم لم يأتوا بكل تلك الخصال، وما جاؤوا به من فكر وعلم تقبلوه دون تردد بعيداً عن التحليل، قائلين بوجوب تقبله لأنه صادر من الغرب، فلابد من القبول بطريقة الملبس والطعام والتكلم والمشي لأنها وصفة غربية ولا مجال في ذلك للنقاش! وهذا بمثابة أخطر سم يتناوله أي شعب.

السبيل الأمثل للعلاج هو أن يفكر الشعب بعقله وينظر بعينه ويختار بإرادته، والذي يقع عليه اختياره هو ما يصب في صالحه. علينا أن نباشر العمل بسواعدنا وأيدينا نحن مع المحافظة على حضارتنا، وأن لا يقتصر جهدنا على الترجمة؛ فالبعض ليسوا على استعداد حتى على عرض الفكر المترجم على المعايير، مدعين عدم امكانية مناقشته لأنه فكرة أو معادلة صادرة عن عالم نفس أو عالم اجتماع أو اقتصادي معين، ومن خالفه كأنما كفر! لكنهم وبعد عدة أيام يعدلون عن رأيهم ويلتزمون قولاً آخر فيتقبلون القول الثاني دون تحليل! إنه الشقاء بالنسبة لأي بلد. السبيل الأمثل للعلاج هو أن يبادر الشعب للعمل بنفسه ومن أجل ذاته، ويفكر بعقله، وهو بنفسه يجتهد ويشق طريقه معتمداً على إبداعه ومستفيداً من التجارب أيضاً.

أما ما هو الطريق الكاذب للعلاج؟ فهو ان يقنع الشعب بالتغيير الظاهري معرضاً عن القيام بتحرك عميق، فقد تصادفون أمّياً جاهلاً خاوياً من الإرادة والتجربة عاجزاً عن العمل لكنه يتشبه بلباسه وظاهره بأحد الفنانين أو بشاب غربي، هذا هو الطريق الكاذب للعلاج. فهل أصبحت بهذا العمل متمدناً ومتطوراً؟! ولقد حاول الشاه العميل أن يجعل من هذا الطريق الكاذب "بوابة الحضارة الكبرى" بالنسبة لهذا الشعب، وقد بذلت الجهود على مدى سنوات متمادية في هذا السبيل، فكان الانحطاط الأخلاقي قد وصل أقصى مداه، ولم يكن هنالك نظير للإفلاس المعنوي والروحي والعملي الذي خيم على هذا البلد، وكانت محاولاتهم تتركز على بيع ما تبقى من كيان معنوي في البلاد في سوق النخاسة تحت يافطة "بوابة الحضارة الكبرى" والحداثة الإيرانية. وهكذا وقع الشاه الفاسد الجاهل في قبضة الأمريكان والصهاينة وعرض الشعب لاحتقارهم ومهاناتهم؛ فالحداثة الإيرانية هي نتاج أولئك، وهذا بحقيقته لا يمت للحضارة أو الحداثة الواقعية بصلة أبداً. ومن مظاهر تلك الوصفة الكاذبة هو ان كل منطقة كانت تدر عليهم بالأموال كانت تتحول إلى وكر تعشعش فيه عناصر وذيول الشركات الأجنبية بالاتفاق مع شركائهم في الداخل من أتباع البلاط والسياسيين المرتبطين بالأجنبي في ذلك العهد. فهذه الحداثة لا تداوي جرحاً، بل لا تجلب للشعب غير الشقاء والعناء والدمار الذي يأتي على كل شيء، فلولا قيام هذه الثورة، ولو أن تلك الصرخة لم تعصف بكل شيء كالرعد فتبعث فيه الحيوية والنشاط وتقتلع القلوب من مكانها، فالله وحده العالم بما يكون عليه وضع البلاد الآن. انظروا إلى بعض الدول المتخلفة في آسيا وأفريقية كي تتيقنوا كيف كان وضعنا أكثر سوءاً منها بالرغم من الموقع الجغرافي والاقليمي والتاريخي الممتاز الذي تتمتع به إيران، بيد أن الثورة أنقذت البلاد وانتشلت الشعب من السقوط في قاع بحر متلاطم لا تقوى على الخروج منه، وتأسيساً على ذلك فإن مثل هذا السبيل كاذب وحري بالشاب عدم اقتفائه.

الشهداء والمجاهدون قدوتنا

إنني أقول للشباب: يا أعزائي ويا أبنائي، دعوا التقليد وفكروا بذلك النهج والسبيل الذي فيه قوة لعقولكم وإرادتكم وتطهير وحصانة لأخلاقكم، حينها سيتحول كل منكم إلى عماد ترتكز عليه حضارة هذا البلد وثقافة هذا الشعب بحقيقتها، وانني أؤكد لكم أن الدوائر الإعلامية الغربية المتطورة ـ لاسيما الأمريكية والصهيونية ـ تُعد الآن مخططاً عملياً يستهدف عقولكم ونشاطاتكم وعواطفكم وإرادتكم، فلا تتصورا أن هؤلاء يغطون في غفلة وعلى مرأى منهم ثلاثون مليوناً من الشباب يزخر بهم بلدنا، بل إنهم منهمكون بالتخطيط لما يرسمون من أهداف، وخططهم هذه يستهدفون بها أخلاق شبابنا وعقيدتهم وإيمانهم، وهذا هو التفسير الذي ينطوي عليه الكثير مما تتداوله أوساطنا الصحفية أو الثقافية؛ ومن خلال هذه الرؤية تتيسر عملية تحليله؛ إنهم يسعون إلى تحويل الجيل الذي غدا قدوة للمضحين من شباب الدنيا إلى جيل متحلل.

إنكم تتحمسون اليوم وأنتم ترقبون فلسطين، وابنتنا العزيزة قالت: "يا ليت أبصارنا تمتد إلى فلسطين" فهل تعلمون ممَّ تعلم الفلسطينيون؟ فلسطين اغتصبت منذ خمسين عاماً، وخلال هذه المدة كانت فلسطين تغص بالشباب، ولكن ممَّ تعلم هذا الشاب الفلسطيني الذي اقتحم الميدان بهذه الصورة، وبمن اقتدى؟ قدوته الشاب اللبناني المجاهد المؤمن الطافح بالاخلاص، وهذا ما لا أقوله أنا بل هم الذين يصرحون به، فهم يرفعون صور السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله لبنان أثناء المسيرات التي ينظمونها في قاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن ـ وهي منطقة فلسطينية ـ وقد نصبوا راية حزب الله على قبة المسجد الأقصى، نصبوها بالرغم من ممانعة الصهاينة، وهكذا فقد أصبح أسوة للشاب الفلسطيني، وإن أكثر المتابعين لمحطة المنار التلفزيونية التابعة لحزب الله لبنان ـ والتي تبث برامجها على امتداد عشرين ساعة ـ هم من فلسطينيي الأراضي المحتلة! وهم يستمعون له وكأنهم ينتهلون ماءً عذباً، وليس فقط يكتفون بالاستماع إليه، بل يستقبلون كلماته كالعطاشى، ومَن كان قدوة الشاب اللبناني، ومن أين انبثق حزب الله لبنان؟ وأية تربة أينع فيها؟ أنتم قدوته، وشعاراته نفس شعاراتكم، وأفعاله هي أفعالكم، وهو يقلدكم في عصابة الجبين وفي المسير العسكري للتعبويين.. بناءً على ذلك فإن قدوة ذلك الشاب هم المجاهدون والشهداء الذين تزخر جيلان بأمثالهم، فأولئك تعلموا من هؤلاء التضحية في سبيل الله والنطق والعمل من أجله.

لمّا تعرض الشهيد املاكي مساعد فرقة جيلان للقصف الكيمياوي كان إلى جانبه تعبوي لم يكن معه قناع للوقاية، فخلع الشهيد املاكي قناعه وألبسه ذلك التعبوي! هذه هي البطولة، وكلاهما استشهد، غير أن الخلود كان نصيب هذه البطولة.. وهؤلاء هم الذين لا يطويهم الفناء {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}؛ إنهم أحياء عند الله وفي قلوبنا وعقولنا وفي أوساط حياتنا. وثمة أب لأحد الشهداء في مدينتكم جيلان عندما جاؤوا بابنه شهيداً محزوز الرقبة قبّل ابنه من عنقه ولم يتأوه أبداً! هؤلاء هم قدواتنا، والأعداء يريدون انتزاع هذه القدوات مني ومنكم والحط من قدرهم في أعيننا، ثم يبدلونهم بنماذجهم المزيفة الكاذبة، إنهم يسلبون قيمنا ويبدلونها بقيمهم!

تحاول وسائل الإعلام الغربية اليوم، ومن خلال برامجها التي تكلف المليارات وتبثها عبر شاشات التلفزيون أو محطات الاذاعة التابعة لها أو عن طريق اللقاءات التي تجريها ـ ومما يؤسف له انخداع بعض العناصر في الداخل بها وتحولهم إلى خدم يرددون ما تقول ـ تحاول الايحاء بخوائكم وفقدانكم للقابلية، وما أنتم إلاّ أوانٍ خالية، وهم الذين يمنحونكم القابلية ويفيضون عليكم بها، ولا خير يرجى منكم اليوم ـ كما في السابق ـ وكذا ستكونون في المستقبل أيضاً! ويتنكرون لتاريخكم محاولين سحقه بأقدامهم، وذلك لا يقتصر على تاريخكم الممتد عدة مئات من السنين، بل يحاولون سحق تاريخكم الذي سطرتموه خلال السنوات العشرين المتأخرة والتنكّر له، ويسعون لاصطناع ثقافة جديدة وأنموذج جديد، وتحويل جيل الشباب والنشء الجديد في إيران إلى جيل حقير ممتهن، كي يتسنى لهم امتطاؤه وتكبيله بأحابيلهم والقيام بما يحلو لهم. فإن أفضل طريق يستطيعون من خلاله تطويع الإنسان هو الايحاء له بأنه لا شيء ولا تاريخ له، وبذلك يتنكرون لمفاخر شعب بأكمله كي يشعر في قرارة نفسه بأنه لا شيء!

لقد كان ميرزا كوجك خان وحيداً وصرخ بوجه تلكما القوتين العالميتين آنذاك ـ أي روسيا وبريطانيا ـ فعلنها: لا لروسيا ولا لبريطانيا، بيد أن الذن كانوا إلى جانبه كانوا يحاولون مقارعة الحكومة، ومن بعدها رضا خان الذي كان في طريقه للامساك بسدة الحكم بالاحتماء خلف روسيا، فتوجهوا صوب باكو وتعاقدوا وتعاهدوا مع الروس ثم عادوا إلى إيران وأصبحوا عملاء لهم، لكن ميرزا كوجك خان أبى القبول والمساومة فحارب الانجليز والروس معاً فهو قارع جيوش رضا خان ومن سبقه، ولم يساوم احسان الله خان أيضاً، والشاب من أهل جيلان عندما يقف عند ضريح ميرزا كوجك خان تقع عيناه على رجل قام وحيداً متسلحاً بإيمانه ونقائه؛ وبالرغم من أنه قضى وسط غابات جيلان إلا أنه خلد شخصيته في تاريخ إيران، إنه رجل نبراس، وكلما كنا نستذكر اسم ميرزا كوجك خان خلال فترة كفاحنا ونطالع سيرته كنا نستمد القوة منه.. لقد وظف عزيمته وشخصيته وهويته ليمنح جيلاً بأكمله الهوية والشخصية والقوة والإرادة، وذلك بالغ الأهمية؛ فقلة هم أمثاله الذين خاضوا غمار الجهاد غرباء، لكنكم تشاهدونهم اليوم ليسوا غرباء، فعجيب أمر التاريخ؛ فهو لم ولن يدع الشيخ فضل الله وميرز كوجك خان وخياباني وأمثالهم يبقون على غربتهم كما قضوا غرباء، أما الأعداء فإنهم يحاولون سلب هذه المفاخر من أيدي الشباب الإيراني.

أهم متطلبات الشباب

كثير هو الحديث عمّا يحتاجه الشباب، ولقد قلت الكثير، وهنالك مَن سبقوني بالحديث عن ذلك أيضاً، ولكن أتدرون ما هي في نظري أهم متطلبات الشباب؟ إن أهم ما يحتاجه الشاب هو معرفة هويته وهدفه؛ يجب عليه أن يعرف مَن هو، وما الهدف من عمله وسعيه.. فالعدو يحاول سلب الشاب الإيراني هويته ومحو الأهداف التي يصبو إليها وتضبيب الآفاق أمامه، فيوحي إليه: انك مخلوق مهين محدود، هلمّ إلي واستظل بظلي! ومن الواضح أن إيران الغنية بثرواتها ومنطقتنا الستراتيجية المهمة، وما لشعبنا من تأثيرات بجميع الاتجاهات لا يمكن أن تقع في قبضة الاعداء إلا عن طريق امتهان شخصية الشباب، وهذا هو المخطط الذي يرسمه الأعداء لكم اليوم. فعليكم أن تكونوا في غاية الحذر، ولا أقول هذا لكم كي يتبادر إلى الأذهان افراغ كاهل مسؤولي البلاد من المسؤولية حيالكم، فلقد سبق لي التصريح بأنهم مسؤولون أيضاً، لكنكم مسؤولون أيضاً.

وآخر ما أقوله: إنني أرفض رفضاً قاطعاً ايحاءات القائلين بإعراض الجيل الحاضر أو ما يصطلح عليه "جيل الثورة الثالث" عن الثورة وعن القيم الدينية، أو إنه سيكون كذلك في نهاية المطاف إن لم يكن فعلاً.. لا أنني لا أرى عوامل الفساد الثقافي ولا أعرفها أو أجهلها. كلا، فإنني على اطلاع تام بأمر الفضائيات وشبكات الانترنت والأفلام وأشرطة الموسيقى ووسائل الفساد ولا أستهين بها أبداً، ولقد أمضيت عمراً بين أوساط الشباب؛ فمنذ أن كنت شاباً كانت لي علاقات مع الشباب الجامعي خارج الوسط الذي كنت أعيش فيه، وحتى يومنا هذا لم تنقطع اتصالاتي بالشباب، وبذلك فإنني على علم بما يراود الشاب ويستهويه وما يدور في أوساطنا الشبابية اليوم، لكنني على اعتقاد بأن الجيل المعاصر في غاية الحصانة والمنعة، لكنهم أساؤوا فهمه؛ فقد نما هذا الجيل في وسط هو الأكثر نزاهة وطهارة مما كان عليه قبل ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاماً، فالذين ولدوا في هذا الوسط استطاعوا بفضل اهتدائهم الديني انجاز ذلك العمل الجبار والتعبير عن ايمانهم الراسخ، وإنني اعتقد بأن هذا الجيل يتميز عن الجيل الذي سبقه بأنه تربى في وسط أفضل حالاً وهو يتمتع بقابليات ومعلومات عالية؛ فعندما كنت في العشرين لم تكن لديّ من المعلومات ما لديكم الآن أنتم الذين في العشرين من العمر، فالشاب الإيراني المعاصر يتميز بوعيه ومعرفته وبصيرته وحسه السياسي وقدرته على التحليل، والأسمى من ذلك كله الإيمان.

ما السبب في أن يتحول مسجد جامعة طهران إلى واحد من أكثر مراكز الاعتكاف ازدحاماً خلال أيام شهر رجب، بالرغم من احتدام الهجوم الثقافي الذي عجت به مجموعة من الصحف في العام الماضي ضد الفكر الديني وضد الثورة والإمام وكل شيء؟! مَن الذي حث الشباب للاعتكاف وصيام ثلاثة أيام وعدم مغادرة المسجد، وامضاء الوقت بالعبادة والذكر والدعاء والتضرع والتوسل؟ مَن الذي وزع على الشبيبة بطاقات الدعوة؟ وإنني على علم بأن ثمة مساجد ومحافل في رشت هي كعبة آمال الشباب الذين يرتادونها ليتزودوا منها المعنويات.

الشاب الذي تربى في أحضان الثورة يتميز بمعرفته الدينية وإيمانه العميق، وهو بطبيعة الحال بحاجة إلى دوام تغذيته معنوياً وفكرياً. أجل، إنني على يقين بما تحمله الرسالة الموجهة إليَّ وتُلي مقطع منها، فينبغي أن توظف الوسائل والفعاليات الثقافية لجيل الشباب، وعلى الواعين من العلماء والجامعيين المؤمنين الشعور بالمسؤولية حيال الإيمان الذي يحمله الشباب، وعلى المسؤولين في البلاد ـ لاسيما المسؤولين في المرافق الثقافية، وبالذات في قطاع التربية والتعليم أن لا يجعلوا من الشباب حقلاً لتجربة الأعمال السياسية، فذاك هو الخيانة بعينها؛ فكل مسؤول أو مدير يتولى مسؤولية ثقافية ويكرس عمله الثقافي لخدمة السياسات الفئوية والحزبية إنما هو خائن، وإن كلاًّ من الذين يتوهمون فساد جيل الشباب حينما يرون مجموعة من الشباب ذكوراً واناثاً قد ارتدوا زياً لا يعجبهم وقد لا يكون ذلك سلبياً بالضرورة، وكذلك أولئك الذين يتصورون امكانية استغلال الشاب سياسياً واستثماره كسلعة سياسية، كلا الطرفين يقعون في الخطأ، وهنالك طرف ثالث يراوده الخطأ أيضاً وهم أولئك الذين ينتظرون نفاد عمر النظام الإسلامي على أمل أن يروا بأعينهم نكوص الشباب عن الدفاع عن النظام الإسلامي، إنهم يخطئون كثيراً.

لقد أخطأ أعداؤنا كثيراً فيما يتعلق بهذا البلد وهذه الثورة وتكرر الخطأ منهم في مناطحتهم للصخر، فالنتيجة الطبيعية للخطأ هو الاخفاق، وحيث إنهم لم يعرفوا شعبنا وثورتنا ومسؤولينا وشبابنا ويخطئون التحليل والعمل فإنهم ظلوا يناطحون الصخر ولمرات عديدة؛ فعندما انتصرت الثورة قالوا إنها لن تدوم أكثر من شهرين! في حين أن الشعب هو الذي بلغ بهذه الثورة الكبرى إلى ساحل النصر بحركة وصل صداها أصقاع الدنيا، وعندما انقضت الشهران تساءل المعادون للثورة من السذج في الداخل ما الذي حصل؟ فقيل لهم إن الأمر سينتهي بعد ستة أشهر أخرى البتة! وهكذا مددوا هذه الأشهر الستة إلى ستة أخرى! فهذه الثورة وهذا النظام وهذا الشعب وهذا الجيل مشمولون جميعاً بلطف الباري جلت قدرته، وعلينا نحن أنا وأنتم ومسؤولي البلاد أن نعرف قدر هذا اللطف الإلهي ونؤدي الشكر لله سبحانه على نعمه.

إنني لا أكلّ ولا أرتوي من لقائكم والتحدث إليكم، ولكن نظراً لأن الوقت قد أخذنا فإنني أنهي حديثي وأستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من فكر القائد