الشخصية المعنوية للإمام الخميني(رض)

الشخصية المعنوية للإمام الخميني العظيم قدس سره

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى الإمام الخامنائي دام ظله

توضيح: كتب قائد الثورة الإسلامية سماحة آية اللّه الخامنئي هذه الكلمات أيام تصدّيه رئاسة الجمهورية أي في وقت كانت فيه القوة الكبرى الشرقية ـ أي الاتحاد السوفيتي ـ والدول الحليفة لها مازالت في أوج قوّتها الظاهرية وكان العالم مازال قائماً على أساس نظام القطبين، الشرقي والغربي الاّ انّ عامي 1990 و 1991 قد شهدا انهيار وتلاشي القطب المستكبر الشرقي وانتهاء ما كان يسمّى بالمعسكر الشرقي الشيوعي وآل مصير النظام والفكر الماركسي والشيوعي الى مزبلة التاريخ بعد أن انحلّ حلف 

وارسو وتفكّكت الدول الشرقية بل وحتّى الجمهوريات السوفيتية نفسها، وهو ما تنبّأ بوقوعه الإمام الخميني (أعلى اللّه مقامه الشريف) عنـدما بعــث برســـالة الــى الزعــيم السـوفيتـي السابق ميخائيل غــورباتــشوف عـام 1988م.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه

وأفضل الصلوات والسلام على بشير رحمة اللّه ونذير نقمته محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)

لقد انطلقت الثورة الإسلامية في هذا العصر إثر الصرخة المدوّية والقوية والخالدة التي أطلقها الإمام الخميني. لقد علت صيحة فقيه العصر هذا وحكيمه من قلب هذه الاُمّة المحكومة والمستضعفة والمهتضمة في إيران، التي خمدت أنفاسها وحبست آهاتها في صدرها سيطرة أرباب التبر والزور، فظلّ أنين المظلومين حبيس حناجرهم الظمأى، ومرة واحدة ارتفعت تلك الصرخة فمزّقت نقاب الظلم وبشّرت باقتراب صبح الانعتاق والحرية.

ومنذ أن أيقظت تلك الصرخة الفريدة ضمير الشعب وحثّته على الاستيقاظ وإلى اليوم الذي تحوّلت فيه كل أنّات هذا الشعب وآهاته إلى صرخة مدوّية، كان هناك سنين طويلة مليئة بالمعاناة ومضمّخة بالدماء القانية، مرّت على شعبنا؛ هذا الشعب المظلوم المحروم.

وشهدت تلك السنون سفك دماء أفضل أبناء هذه الأرض الإلهية الطيبة، على يد المجرمين العملاء، في سبيل إقامة الحق والعدل والقسط.

ولقد تحمّل هذا الشعب كلّ تلك الصعاب وعانى كلّ تلك المعاناة، متمسّكاً بذكر واسم شخص أفنى كلّ عمره المبارك في سبيل الإسلام، ونذر نفسه وجميع ما يستطيع لخدمة القضايا الاسلامية، وجعل كلّ ما لديه وقفاً لتحقيق الأهداف الإسلامية وإحياء السنّة المحمّدية، وبرز ـ في طليعة الاُمّة الإسلامية بأسرها ـ يكافح المخطّطين والمنفّذين لمؤامرة فرض العزلة على الإسلام، وإبقاء الشعوب تئنّ تحت نير الاستضعاف.

لقد أثمرت الشخصيّة العظيمة لهذا القائد العظيم، وحزمه الفريد وعزمه الشديد احدى أكثر ظواهر التاريخ إثارة للعجب والدهشة ألا وهي الثورة الإسلامية، وأقاما صرح الاستقلال والحرّية في بلد ظلّ محروماً منهمّاً توّاقاً إليهما قروناً عديدة.

وبهذا الشكل؛ فانّ الثورة الإسلامية والإمام الخميني كائنان مرتبطان ببعضهما لا يقبلان الإنفصال والانفصام عن بعضهما بعضاً.

وانّ تحليل مسيرة الثورة الإسلامية في إيران دون معرفة شخصية قائدها العظيم لَهُو أمر مستحيل مثلما أنّ تحليل شخصيته الفريدة وذات الأبعاد الكثيرة، والتدبّر في شخصية هذا الشخص الإستثنائي في هذا الزمن بمعزل عن معرفة الثورة أمر مستحيل أيضاً.

انّه هو الذي أشعل فتيل الثورة الإسلامية، وأوصل شجرتها إلى مرحـلة إعطـاء الثـمار، ورفعـته الثـورة الإسلامـية إلـى أسمـى القمم التي لا يحتلّها إلاّ الإنسان الاسطوري وجعلت منه وجهاً خالداً، ولم يتيسّر ذلك إلا بتوفيق إلهي والتحام تام بين الاُمّة والإمام يكاد يشبه الاسطورة.

انّه ألغى مصطلح “الخضوع” من قاموس الشعب، وحطّم قلعة الخوف، وأرشد اُمّة بكاملها إلى نبع الفطرة الإلهية؛ ذلك النبع الطاهر الزلال.

إنّه باني الثورة وقائدها ومعلّمها وأبوها، تلك الثورة التي كانت أعظم أحداث هذا العصر كلّها.

وإنّ الثورة الإسلامية غير معروفة في أيّ مكان من العالم إلاّ وهي مقترنة باسم (الخميني)، لأنّه أوّل من صاغ حروفها وأبدع صنعها، وهو الذي قاد سفينتها في تلك اللحظات العصيبة والمدلهمّة، وجعلها تعبر المضائق الخطيرة وتجتاز المنعطفات الرهـيبة، وخلق من الثورة الإسلامـية التي قام بها شعب ايران إنموذجـاً يُحتـذى بـه واُسـوة يُقتدى بها فـي العالم كلّه.

ولا ينبغي الشكّ في أنّ أيّة ثورة لا يمكن أن يُكتب لها الوجود والانتصار إلاّ بوجود القائد في حدّ ذاته، وهكذا فقد اكتمل ببركة وجود الإمام الخميني وبنعمة قيادته المنقطعة النظير عنصران هما:

ـ الإيمان الإسلامي

ـ والملاحم الشعبية

وفضلاً عن قيادته الثورية، فإنّ الإمام الخميني فقيه إسلامي أي “مظهر ذلك الإيمان” وهو مرجع للتقليد، أي “تجسيد لثقة الناس وتجلٍّ لتضامنهم”. انّه كالأنبياء، يريك من خلال وجوده؛ الدِّين والسياسة، والثورة، واللّه والشعب، دفعة واحدة، وثورته تعيد إلى الأذهان ثورات الأنبياء الإلهيين.

إنّه محيي التفكير الديني ومؤجّج شعلة الإيمان وخالق أعظم ملحمة شعبية في عصرنا هذا.

ولقد قام بما قام به ببديع كلامه ورائع بيانه.

لقد عرف شعبنا وشعوب العالم الإمام الخميني عبر هذا الكلام وتلك البيانات، وفي هذا اليوم أيضاً، مازال كلامه وما لبثت بياناته توجه دفّة مسيرة الثورة الإسلامية في إيران وفي العالم كلّه.

وثمّ ثلاث ميزات أساسية لبيانات الإمام الخميني التي ظلّت منذ سنين طويلة وحتّى اليوم تبعث الدفء في قلوب المناضلين وتؤجج نيران النضال وتبقي على أوارها ولهيبها، وهي:

1 ـ استنهاض الناس.

2 ـ رسم خطّ الثورة وتوجيه دفّتها.

3 - التسجيل الدقيق لتاريخ الثورة ووقائع نضال الشعب.

وانّ الميزة البارزة لبيانات الإمام كانت وما تزال؛ تأثيرها الحاسم في تهييج الناس واستنهاضهم، ولا يقتصر ذلك على الماضي وحسب وانّما مازالت كلمات هذا المرشد والقائد البسيطة والصادقة تلهب نفوس التوّاقين للحقّ والعدالة وتنفخ فيها الحماس والهيجان.

وإنّ بحر هذا الشعب كان على الدوام هادئ الأمواج وغير هائج لسنوات طويلة من التسليم والسكون وصار ذلك خصلة طبيعية له، ولم يكن بإمكان أيّ شيء غير هتاف الإمام المفعم بالحماس أن يحوّله إلى بحر متلاطم الأمواج.

لقد صرف الحكّام الجائرون الكثير من الجهود خلال القرون الماضية والعصور السالفة ليجعلونا شعباً ميت القلب عديم الأمل، وليجعلوا اُفق أي نضال ضدّ الجور والتعسّف يبدو مظلماً ومصيره غامضاً محكوماً عليه بالفشل الذريع.

انّ فكرة الخوف واليأس التي كانت مسيطرة على الروابط الإجتماعية جعلت نضال الشعب وقدرة الطاغوت بمثابة حكاية الطرق على السندان بالمطرقة دون جدوى، والعجيب أنّ أعداؤنا نجحوا في تبليغ هذه القضية وإشاعة هذه الفكرة في الظاهر.

لقد سيطرت أفكار القدر المكتوب بامتلاك الملوك مفاتيح القوّة وأسرار السيطرة على ساحة الأدب والشعر والأناشيد والأغاني والأساطير والأمثال وجميع مظاهر الحياة الثقافية للمجتمع.

وفي هذه الثقافة المنحطّة تمّ تصوير المستضعفين بأنّهم فئة غير واعية، وشريحة يائسة لا مستقبل لها. وبقي هذا المبدأ الأجوف القائل انّ الظالمين خلقوا لممارسة الحكم والإمساك بأزمّة الحكومة وإنّ المظلومين خلقوا ليرزحوا تحت نير التسلّط وصل إلينا من عصور التاريخ البعيدة وظلّ مسيطراً على الأذهان في عصرنا الحاضر وبقي يُعدُّ مبدأً ثابتاً ومحتوماً.

وأبان ذلك العهد الذي كانت فيه مثل هذه الثقافة مسيطرة على العقول والفكرة السائدة هي أنّ تهييج الناس وتثويرهم لخوض النضال ضدّ الحكومة المتجبّرة والجائرة بحاجة إلى لسان وقلم يشبه ألسنة الأنبياء وأقلامهم، انبرى كلام الإمام ليهدم جدران السكوت الذي تمادى قروناً طوالاً، وحوّل الموت والجلاّد إلى اُمور تافهة لا قيمة لها في أنظار الناس الذين عقدوا آمالهم عليه.

وليس من باب المبالغة القول : انّ النظام الشاهنشاهي الخبيث والمجرم كان يقوم بتوجيه مئات العيارات النارية من فوهات رشاشاته إلى صدور أتباع الإمام من أجل إحباط مفعول كلّ جملة من كلام الإمام وبياناته، بيد أنّه فشل في تحقيق ما أراد.

وانّ نظرة إلى تلك الأيام التاريخية في المرحلة الأخيرة تبيّن أيّ نيران كان يشعل أوارها في الصدور كلام الإمام؛ صدور الآملين وطالبي الحقّ والقسط والحريّة، وماذا كان يفعل الجلاّدون المتوحّشون إزاءها.

ومنذ الخامس من حزيران عام 1963 وحتّى الثامن من أيلول 1978 كان هناك مئات الأيام التاريخيّة والملاحم البطولية في كلّ مدينة وقرية من مدن وقرى هذا البلد، حاولت فيها زخّات رصاص عملاء الشاه إخماد صرخة أبناء الشعب، وفي كلّ تلك الأيام كانت أنفاس الإمام الدافئة تنفخ في نيران النضال فتزيدها أواراً وتصعّد ألسنة لهيبها، وتزيد صرخة الشعب تصاعداً وزمجرةً.

يوماً ما كانت كلمات الإمام الناريّة الملهبة للمشاعر لا تسمع إلاّ في نطاق حلقة الدرس وحوزة العلم ولا تطرق سوى أسماع بضعة طلاّب كانوا يرتوون من منبع علومه الفيّاض، لكنّها ما لبثت ـ بعد فترة قصيرة ـ أن صارت عنصر استنهاض الشعب كلّه وتهييج الاُمّة بأسرها، واستمرّت كذلك حتّى بلغت أصداؤها أبعد زاوية على وجه الأرض، وطفقت تلهج بها ألسنة الملايين من المسلمين الثوريين في العالم.

وفي الوقت الراهن، فانّ كلام الإمام صار يعطي الأمل للمحرومين والمظلومين في الدول الخاضعة للهيمنة، ويرسم لهم اُفقاً نيّراً تصبو إليه أنظار المنتظرين، ويسلب الكرى من عيون المتسلّطين.

وما فتئت القوى الكبرى ـ وهي الأصنام العالميّة الجديدة ـ ترتعد فرائصها اليوم من رعود كلمات هذا الرجل، وما أسرع ما ستتمرّغ في الثرى من جرّاء صرخات أتباعه في كلّ أنحاء العالم، وهكذا صاروا يعتبرونه أمل المستضعفين في الأرض وإبراهيم زمانه.

والميزة الثانية لبيانات الإمام ؛ هداية الاُمّة وترسيم مسيرة الحركة الثورية.

فكلامه الأخّاذ بمجامع القلوب، النافخ للروح في الأبدان، كان يحطّم التردّد والإبهام اللذين يملآن القلوب على الدوام وخصوصاً في لحظات القرارات الحاسمة، وينير السبيل أمام السالكين.

فهناك لحظات ومراحل حسّاسة تمرّ بها الحركة الثورية يبدو فيها الطريق مسدوداً بوجه الثائرين، وحينما تسري هذه الحالة من شريحة صغيرة وخاصة إلى مستوى واسع على صعيد الشعب تزداد هذه الحالات، وما أكثر تلك اللحظات العصيبة التي مرّت بها نهضتنا الدامية، وكم عانت القلوب المخلصة العاشقة للنضال، من خبث الذين كانوا يبثّون بذور التردد والإبهام في أفئدة الآخرين.

في اُولى بوادر النهضة عام 1962، وأبان وقوع اُولى الاشتباكات وحوادث العنف، وخلال الاستفتاء المزيّف الذي أجراه محمّد رضا، وفي الحوادث المتوالية التي لم يسبق لها مثيل عام 1963، وفي المنعطفات الخطيرة التي لم يكن يتوقعها ـ مطلقاً ـ العلماء حولهم وكذلك جميع الناس، ولم يخطر لها نظير في بال أيّ واحد منهم، وفي حادثة عاشوراء تلك السنة التي جرّت إلى وقوع انتفاضة الخامس من حزيران وفي الحوادث المرّة والدمويّة التي تلتها، وبالتالي في شتّى المراحل المهمّة في السنوات التالية وحتّى لحظات تفتُّح اُولى براعم النهضة، يمكن العثور على ما لا يحصى من الحالات التي وصلت قافلة أنصار الثورة السائرة حثيثاً والمفعمة بالدوافع الخلاّقة؛ وصلت إلى مفترق طريق محيّر صعب ولم تهتدِ إلى اختيار الطريق الصائب..

وعادةً ما يُصبح مصير النهضة ـ في مثل هذه المراحل ـ باعثاً على القلق وعاملاً على الإضطراب. إذ في هذه الحالات يتفاقم الخوف من الانجراف والانحراف أو المداهنة أو الانجرار إلى الأعمال الإرتجالية وغير المدروسة المؤدّية إلى الأضرار الفادحة، والظنّ بأنّها ستؤدّي إلى الاختلاف والتشرذم بين العناصر الأصليّة في مسيرة النضال وبالتالي في صفوف الشعب كلّه، يتفاقم كلّ ذلك، ويتضاءل الأمل في سلامة النهضة من دون امتلاك الدليل والمعلم الحكيم.

في مثل هذه اللحظات الحسّاسة وفي هذه الدوّامة من الابهام والحيرة وأحياناً اليأس والقنوط، الناشئة من إنعدام التشخيص وفقدان الادراك الصحيح، كانت قيادة الإمام الخميني تصبح حلاّل المشكلات والمرشد إلى الطريق القويم والهادي إلى سواء السبيل.

فكان كلام الإمام أو بيانه الذي يصدره ـ قصيراً كان أم مطوّلاً ـ وشريط التسجيل المحتوي على خطاب الإمام والذي يعمل عمل الرسول الحاسم للاُمور، ينتشر في كلّ مكان، ويخلق موجة من التحرّك في الاتجاه الذي يسير فيه تنفتح له جرّاءها كل الأبواب الموصدة، وتزول كلّ الشكوك وتنمحي الحيرة بأجمعها ويوصد طريق الاختلاف، ويكون الجميع قد عرفوا ماذا ينبغي لهم عمله، وما الذي يجب قوله، وكيف ... إذ أنّ بيان الإمام أو خطابه يلقم المخالفين حجراً ويقفل أفواههم ويسفّه منطقهم ويبعث في أفئدة السائرين إيماناً واضحاً لا لبس فيه ولا تردّد.

لقد بدأت تطرح همهمات المشكّكين وأراجيف المرجفين بعد وقوع مذبحة الخامس من حزيران ـ وكانت آنذاك أوّل حادثة دمويّة جماعية عُدَّ ضحاياها بآلاف من الناس ـ وكان مصدر التشكيكات والأراجيف عناصر تنتمي إلى شتّى الاتجاهات من أكثرها يساريةً إلى أشدّها يمينية.

فقد عدّها اليساريون الذين كانوا يستطيعون إيصال صوتهم إلى كلّ مكان ـ بدعم من مسانديهم الكبار الأجانب ـ تمرّداً وعصياناً أعمى وعملاً ينبغي عضّ أصابع الندم عليه وسدّ أبواب الطريق المؤدّي إليه تماماً.

بينما اعتبرها حتّى بعض الأشخاص من ذوي الشهرة والبروز بالصفة الإسلامية؛ خسارة ابتلع فيها فم الموت شريحة من أفضل الناس وأكثرهم تديّناً كان ينبغي أن يكونوا مروّجين للإسلام، بَيدَ أنّنا بقينا وحيدين من بعدهم.

ولم يكن عدد الذين يقفون من بين هذىـن القطـبين متفرّجـين على ما يقوله هذا وذاك قليلاً، ولا عدد الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط وينظرون بعين التشاؤم لا للمستقبل فحسب بل للماضي أيضاً ـ ذلك الماضي الذي كان لهم هم أيضاً نصيب فيه ـ.

لقد لوّثت هذه الأقاويل الأجواء بالشكّ والتردّد. وفي أوّل خطاب ألقاه الإمام بعد إطلاق سراحه من السجن والحصار ـ الذي بدأ ليلة الخامس من حزيران واستمرّ لعدّة أشهر ـ روّى عطش أرواح الناس من عذب فيضه الزلال الرقراق، وأزاح ما لفّ أنفسهم من الغموض، وأثنى على الحركة التي قام بها الناس في الخامس من حزيران وأعرب عن إجلاله وعظيم احترامه لشهداء تلك الحادثة وعوائلهم، واعتبر ذلك اليوم وتلك الانتفاضة واُولئك الشهداء؛ صنّاع تاريخ الثورة وروّاد دربها اللاحب فيما بعد.

وفي العام الذي تلى واقعة حزيران تلك، لم يعرف أيّ من الناس أو الثوّار ـ على حدّ سواء ـ ماذا ينبغي عليهم عمله في قبال قضية منح الحصانة القضائية للمواطنين الأمريكيين في ايران بموجب لائحة (الكابيتالسيون) سيئة الصيت، ولم يهتدِ أحد إلى السبيل الذي ينبغي أن يُسلَك.

ولم ينبس ببنت شفة أيّ واحد من اُولئك الذين يُطلق عليهم (المصلحون الاجتماعيون) من ذوي اللحى المحيطة بأحناكهم على الطراز الغربي من خرّيجي الغرب وذوي شهادات التخرج في كلّيات الحقوق والقانون، ومن عبدة إيران ووطنييها، بل وفضلاً عن هؤلاء ـ لم يتنفس حتّى مدّعو الثورة والنضال ضدّ الإمبريالية والاستبداد وأمثالهم، على الرغم من كلّ ادّعاءاتهم الضخمة الجوف، ولم يبدو أي اعتراض يُذكر، وقابلوا تلك الخيانة المهينة والمبدّدة للكرامة وماء الوجه بالسكوت المطلق والجبن والخوف والتردّد، ولم يحصل الشعب من أيّ واحد من اُولئك ذوي الإدّعاءات الفارغة على إرشاد وتوجيه.

ولم تسمع الآذان سوى تلك الصرخة المدوّية التي انطلقت من حنجرة الإمام الخميني، وسوى ذلك الخطاب الناري الفاضح للمؤامرة وملابساتها والمشير إلى خيوطها ودقائقها، مما أدّى إلى فضح كلّ شيء على رؤوس الاشهاد، وبذلك قاد الشعب وأرشد الناس بكلّ ما للكلمة من معنى.

وطوال سني النفي، ومن خلال متراس تدريس فقه الإسلام ومن أعلى وأسمى كرسي في الحوزات العلمية ومن حنجرة مرجع تقليد محبوب وشعبي وشجاع اهتدى الشعب الإيراني ابان سني الإرهاب والخوف إلى الطريق الطويل الصعب الذي ينتظرهم، ويستقدم إليه خطاهم، ويرسم لهم الإمام خطّ التحرّك ومنهج المسيرة.

وبقي يسدّدهم ويرشدهم ـ على الدوام ـ في مفترقات الطرق، وبقي كلام الإمام ورأيه وبياناته تمثّل الترياق الشافي والدواء الناجع لما يُبتلى به الناس دائماً في دوّامة الأحابيل التي يدبّرها العدو لهم بمكره في داخل البلاد، والشعارات التي يدسّها فيما بينهم لإلهائهم وإنسائهم شعاراتهم الأصلية، والنقاط المثيرة للشقاق والنزاع والتشرذم بين الناس، والانشقاقات التي كان يُحدثها النظام في جبهة الثوّار عبر تحفيزه بعض عناصر النضال للقيام بذلك، وابّان اشتبداد أعمال العنف والقسوة التي كان يقوم بها عملاء النظام، والهجمات التي كانوا يشنّونها على الشرائح المؤثّرة والفئات الفعّالة كعلماء الدين والطلبة الجامعيين، والضغوط التي تفوق التحمّل والتي كانت توجّه إلى الناس هنا وهناك.

خلال ذلك كلّه، كانت عيون الجميع ترنو إلى الإمام وتنتظر بشوق ولهفة ما يمكن أن يصل من النجف الأشرف، وما سيطّلع به الإمام عليهم، وعندما كان المراد يأتيهم كانوا يلتهمونه ويروون به غلّتهم ويتداولونه فيما بينهم ويعمّ صداه كلّ مكان ويبلغ كلّ الآذان خلال مدّة قصيرة في طول البلاد وعرضها، ولم يبقَ أيّ مكان وأي امرئ محروماً من نعمة ذلك الفيض العذب اللذيذ.

وفي سنوات الكبت والاختناق الأخيرة، اتّخذت تلك التعليمات والتوجيهات صبغة نبوية من حيث تتابعها وقاطعيتها وصراحتها، وكانت تتغلب على كلّ نقاط الضعف وتسدّ كلّ فراغات التهاون وتعالج كلّ الآراء الصادرة عن اختلاف الأذواق، وتشقّ الطريق أمام مسيرة الشعب ليجتاز جبال من المشاكل والاعتقادات المتباينة ولحظات العجز والإحباط.

وحلّ الفصل الأخير من النضال ضدّ نظام الشاه المفروض، بدءاً من أوائل عام 1977، والذي انتهى بيوم 11 شباط/ فبراير من عام 1979، وكان هذا الفصل زاخراً بالوقائع والحوادث التي تبيّن أكثر فأكثر دور قيادة الإمام المتجلّية من خلال رسائله الموجّهة إلى الشعب وخطاباته وبياناته، وأخذت تتوضح وتبرز تلك القيادة كلّ يوم أكثر من الذي سبقه، ويندرج ضمن هذا السياق:

ـ زجّ الشعب في المقاومة بوجه المذابح الجماعيّة وإيجاد سلسلة أربعينات الشهداء.

ـ تنوير الأذهان عبر فضح الخفايا المتعلّقة بدور النظام المقبور في جريمة إحراق سينما (ركس) بمن فيها في مدينة عبادان.

ـ حمل الشعب على المقاومة في قبال الهجوم المسلّح والدامي الذي يشنّه عليه جلاوزة الشاه.

ـ تهيئة الشعب للإستفادة من موسم شهر محرّم وإعلان شعار (الدم ينتصر على السيف).

ـ طرح شعار (على الشاه أن يذهب) في الوقت الذي لم يكن أي امرئ يفكّر آنذاك بمثل هذا الدواء لادواء إيران ولم يكن أي شخص ليجرؤ على طرح هذا المطلب حتى ولو على شكل مجرّد افتراض.

ـ إعلان المواقف الحاسمة والصارمة إزاء الحكومات المهزوزة المتوالية على الحكم في الأشهر الأخيرة من عمر النظام الشاهنشاهي وسلب هيبة الحكم العرفي وأبهته، ومن بعده الحكومة العسكرية.

ـ إفشاء حقيقة الحكومة المتظاهرة كذباً بـ(الوطنية) وفضح أهدافها واتّخاذ موقف صارم من طلب رئيس تلك الحكومة المرائي الذي كان يريد الالتقاء بالإمام أثناء مكوثه في باريس.

ـ الإعلان، بعد المجيء إلى إيران عن عزل الحكومة المنصّبة من قبل الشاه وإقالتها، وتعيين الحكومة المؤقتة، ومن ثمّ اتّخاذ المواقف المناسبة حيال حوادث الثورة لحظة بلحظة وإصدار التوجيهات وإعطاء التعليمات للناس لمساعدتهم في اجتياز أصعب منعطف مرّ به هذا البلد طيلة تاريخه خلال القرون الأخيرة.

في كلّ هذه الوقائع، كان كلام الإمام وبياناته البيّنة والخالية من الإبهام تعتبر الكلمة الفصل في خضمّ الاضطراب والغموض الذي يسيطر على هذه الفئة، والحيرة التي تتملّك تلك الفئة، والجهل الذي يلفّ فئة ثالثة، وكان كلامه وبياناته ترشد الناس إلى سلوك الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه، وكان الناس طرّاً يختارون ذلك الطريق ويسلكونه.

وبعد انتصار الثورة الإسلامية، وخلال عشرات الوقائع الكبرى والمصيرية، كان كلام الإمام المتين وحديثه الرشيد هو الذي يفرز خطّ الثورة عن غيره من الخطوط ويوجه الناس فيه. وكان الناس يطلعون من خلال تلك الكوّة على ما يريده اللّه منهم، وتزول بواسطته عنهم الشبهات ويعثرون على الأجوبة التي يبحثون لها عن مجيب.

تُرى، إلى أين كانت تتوجّه قافلة الثورة لولا تلك القيادة الربّانية؟ وإلامَ كانت ستصغي لو سكتت تلك القوّة الناطقة الإلهية؟!.

لقد كانت بيانات الإمام ـ في الوقت ذاته ـ اللسان الصادق والمعبّر الناطق والمرآة الصافية لتاريخ دينٍ وشعبٍ يزخر في كلّ لحظة من لحظاته بالوقائع العظيمة والحوادث الضخمة.

وهذه هي الميزة الثالثة لتلك البيانات والخطابات.

وقد انعكست في تلك المرآة حقائق وملاحم ثورة جذورها متوغّلة في عصر صدر الإسلام، وكانت هذه فرصة جديرة بالاغتنام لشعبنا الثوري يستطيع من خلالها أن يصون الثورة الاسلامية من التحريف التاريخي الذي يعتبر من أهمّ آفات أية ثورة اُخرى.

وهي ـ أيضاً ـ فرصة ثمينة يستغلّها المراقبون والمحلّلون كي يحصلوا على أصحّ الروايات التاريخية المتعلّقة بهذه الثورة العملاقة من خلال هذه الوثائق والمستندات القيّمة.

خلال القرون الأربعة عشر الماضية، ثار عشّاق الحقّ وطلاّب العدالة مئات المرّات ضدّ الظلم والكفر والاستكبار، لكن القسم الأعظم من تلك الثورات إمّا أن تمّ قمعه من قِبل ذوي السيطرة والجائرين، أو تمّ تحريفها عن مسيرها الأصلي من قِبل المنافقين والمعاندين، أو تمّ تحريف حقائقها من قبل كتّاب التاريخ المطيعين للحكام المتسلّطين، ومأجوريهم.

ولقد جرّب أعداء الثورة الإسلامية هذه الآفات الثلاث منذ بدء انبثاق الثورة وحتّى اليوم، في مواجهة الثورة؛ جرّبوها مراراً، وسيعيدون تجريبها من جديد في المستقبل أيضاً.

لقد تجسّد أئمة الكفر في زماننا هذا على شكل قوّتين عظميين: شرقية وغربية* ، عملائهما وأذنابهما، فما لم تتمكنا من القضاء على ثورة لا تستند إلى أي قوة أجنبية، وما لم تستطيعا تحطيمها، فانّهما سوف تسلكان الطريقين الآخرين.

ستحاول هاتان القوّتان ـ ابتداءً ـ أن تحرفا مسيرة الثورة، وكما نعلم فانّ عملاء الأجانب لم يدّخروا وسعاً ولم يتركوا أيّة وسيلة من أجل التمكن من حرف هذه الثورة، ولن يدّخروا وسعاً ـ بعد الآن ـ ولن يتركوا التآمر في هذا المضمار.

وتوجد في ثنايا هذه المجموعة من بيانات الإمام وخطاباته العديد من المواضع التي يكشف فيها خطط هؤلاء العملاء، ويشير إلى طريقة إحباطها، وينبغي أن تخلَّد هذه الامور وتُسجَّل للأجيال القادمة.

أما إذا امـتزجت هـذه التـعليمات بـوعي الاُمّة وانسدّ بكليهما طـريق الانحراف بالكامل فانّ الأعداء سينهجون طريق تحريف تاريخ الثورة الإسلامية.

انّهم سيكلّفون كتّاب التاريخ المأجورين بتلويث الحقائق والوقائع التاريخية التي تخصّ الثورة الإسلامية بأوحال الكذب والتحريف ورش غبار التزوير على وجه تلك المرآة الصافية لجعله مشوّهاً كدراً.

وهذا هو العمل الذي قام به المتأثّرون بالغرب والشرق في هذا القرن بالذات ضدّ نهضة المشروطة المشروعة، فحرموا الناس من جني ثمار تلك الحقائق التاريخية لهذه الثورة الإسلامية مائة في المائة، والتي جُرَّت إلى الانحراف منذ بدايتها.

وهكذا كان مصير ثورات العلويين، وثورة أبطال غابات شمال ايران ـ سربداران ـ ونهضة السيد جمال الدين، وثورة التنباك، وثورة أهالي الغابات (الايرانية الشمالية) وحتّى النهضة الوطنية “في عهد السيد الكاشاني والدكتور مصدق” والكثير من الثورات والنهضات الإسلامية والإيرانية الاُخرى، فهي لم تسلم من القمع والإنحراف والتحريف من قبل أعدائها.

انّ مجموعة بيانات الإمام هي صحيفة ثورتنا وهذه المجموعة تحدّد ملامح المسيرة الثوريّة للشعب الإيراني المسلم منذ بدئها وحتّى تحقيقها الانتصار، ومنذ انتصارها حتّى اليوم. وهذه المجموعة توضح اتجاه الحركة المستقبلية لشعبنا ومحتواها، وتذكّرنا بواجبنا وتكاليفنا في الفترة الواقعة بين الثورتين العظيمتين؛ ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) وثورة المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).

وها هي مجموعة بيانات الإمام مشرعة بوجه التاريخ، فكلّ جملة في هذا الكتاب العظيم هي عصارة لمكابدة المحرومين. والآن فانّكم أيّها المؤرّخون والشعراء والكُتّاب والرسّامون والفنّانون الملتزمون والمسؤولون قادرون على رسم ملامح معاناة شعبكم للأجيال القادمة بالإستفادة من هذه المجموعة.

انّكم تمتلكون الآن قسماً من أكثر مصادر هذه الملحمة العظيمة في التاريخ المعاصر أصـالة وصـراحة وهـذه فرصة ثمينة وجـديرة بالاغتـنام ولا ينبغي إضاعتها.

وها هي المرآة الصافية المعبّرة عن كلّ تطلّعاتكم وأهدافكم وآمالكم ومطالبكم ـ أيّها الشعب العظيم ويا خَدَمَة الإسلام والمسلمين ـ أمام أعينكم، فاعتبروا النظر المستمر في هذه المرآة النقيّة فريضة وانظروا إلى التعاليم والتوجيهات التي تحتويها كدرس بليغ لهذه الثورة لا يمكن أن يُنسى.

ويجب أن يكون الشعب الإيراني مراقباً دائماً وواعياً لكلّ واحدة من الجمل المعبّرة والخلاّقة التي تتـضمّنها هـذه البىـانات والخطـابات، وأن لا يسمح لأحد بالانحراف عنها لأنّ استقلال الشعب وحرّيته وجمهوريّته الإسلامية كلّها نشأت من هذه البيانات والخطابات.

ومع كلّ ذلك، فانّ هذه المجموعة لا تضمّ التاريخ الكامل للثورة الإسلامية. فمن أجل تدوين الثورة الإسلامية في ايران بأكمله ينبغي أن تضاف إلى هذه المجموعة الإسلامية والإنسانية العظيمة: صور المعوّقين، وآثار التعذيب الباقية على أبدان المناضلين على أيدي جلاوزة الطاغوت، وذكريات عهد الكبت والاختناق لحظة بلحظة، وملاحم النضال ضدّ عملاء الاستكبار العالمي بعد انتصار الثورة الإسلامية ـ إستمراراً لذلك النضـال البـطولي الـذي سبق الانتـصار ـ، وصـور التضحية والإيثار الـذي لا حدود له لكل الشعب الإيراني المسلم الثوري.

وهذا عمل ينتظر تحقيقه بهمّة المؤرّخين والشعراء والمؤلّفين والخطباء والرسّامين وكلّ الفنانين الملتزمين.

وإنّني بدوري وكممثل لشعب إيران أتقدّم بالشكر لجميع الذين كان إنجاز هذه المجموعة من ثمار أتعابهم وجهودهم المخلصة، واقترح ـ بتأكيد ـ ترجمته إلى اللغات العالميّة الحيّة، وخصوصاً اللغات المستخدمة في المنطقة الإسلاميّة، وانتظر اليوم الذي يتمكّن فيه كلّ أتباع خطّ الإمام الخميني وعشّاق الثورة الإسلاميّة في ايران، في كلّ أنحاء العالم، من قراءة هذه التعاليم بلغاتهم، إن شاء اللّه).

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

من فكر القائد