فلسفة عاشوراء  

فلسفة عاشوراء  

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد الخامنئي «دام ظلّه»

كلّما أمعنّا النظر أكثر في قضية عاشوراء وثورة الامام الحسين(عليه السلام)، سنجد انّ تلك الثورة تتّسع للتفكير والبيان أكثر فأكثر. وكلّما ازددنا تفكيراً في هذه النهضة الكبرى، ستظهر أمامنا حقائق جديدة لم نكن نعرفها من قبل.

فذكرى عاشوراء ليست مجرّد ذكر لبعض الخواطر والذكريات والاحداث فقط، وإنّما هي تبيان لحادثة في غاية الاهميّة، ولها عدد غير محدود من الابعاد والجوانب التي تركت أعمق الاثار في حياة الاُمة الاسلامية على مرّ التاريخ.

إذاً، فالتذكير بهذه الفاجعة هو موضوع يمكن أن يتبلور عن كثير من الخيرات والبركات لابناء هذه الامة، لذا تلاحظون انّ قضية البكاء والابكاء على الامام الحسين(عليه السلام) كانت تحتلّ مكانة متميزة في زمن الائمة(عليهم السلام).

فلا يتصوّر أحدٌ انّه مع وجود المنطق والاستدلال، فما هي الحاجة للبكاء؟ وما هي الحاجة للبحث في قضايا قديمة من هذا القبيل؟

إنّ هذا النوع من التفكير بيّن البطلان، لانّ لكلٍّ من هذه الاُمور دوراً في بناء شخصية الانسان وتكامله. فالعواطف لها دورها والمنطق والبرهان لهما دورهما المهم أيضاً. فالعاطفة لها دور في حلّ كثير من المشاكل والمعضلات التي يعجز المنطق والاستدلال عن حلّها.

ولذلك حينما نراجع تاريخ الانبياء سوف نرى انّه في أوائل بعثتهم كان يلتفّ حولهم اُناس لم يكن المنطق والبرهان هما الدافعين الاساسيين لايمانهم ولالتفافهم حول اُولئك الانبياء.

فلا تجدون في تاريخ نبينا(صلى الله عليه وآله) ـ وهو تاريخ مدوَّن وواضح ـ بأنّ الرسول اجتمع في أوّل البعثة مع مجموعة من الكفّار وبرهن لهم بالادلّة العقلية على وجود اللّه ووحدانيته أو بطلان عبادة الاصنام ـ مثلاً ـ . فالاستدلالات العقلية للنبي(صلى الله عليه وآله) جاءت بعد أن تقدّمت الدعوة وانتشر أمرها، أمّا في المرحلة الاُولى فقد كان عمل الدعوة يقوم على أساس كسب المشاعر والعواطف الصادقة لدى الناس.

ولم يكن يستدلّ للناس بالادلّة العقلية والفلسفية على وجود اللّه ووحدانيته، بل كان يكتفي بالقول: «قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا»، فلم يبرهن للناس عقلياً أو فلسفياً بأنّ الاعتقاد بـ «لا إله إلاّ اللّه» يؤدّي الى فلاح الانسان وسعادته، بل إنّ هذه العبادة تخاطب مشاعر الانسان وأحاسيسه الصادقة.

طبعاً إنّ كلّ المشاعر والاحاسيس الصادقة والسليمة تنطوي على برهان فلسفي واستدلال عقلي. لكن المسألة هي انّ كلّ نبي عندما كان يريد البدء بالدعوة لم يكن يطرح الدليل العقلي والفلسفي من أجل هداية الناس، بل انّه كان يبدأ بتحريك العواطف والاحاسيس الصادقة والسليمة التي تحمل المنطق والاستدلال في ذاتها. وهذه الاحاسيس والعواطف توجّه أنظار الانسان الى ما يعيشه المجتمع من ظلم واضطهاد وتمايز طبقي، وما يمارسه أنداد اللّه من البشر «شياطين الانس» من ضغط وإرهاب ضدّ أبناء ذلك المجتمع. أمّا طرح البراهين العقلية والمنطقية فكان يبدأ حينما تستقر الدعوة وتأخذ مجراها الطبيعي.

وليس شرطاً أن يكون الانسان الذي يمتلك قوة استدلال أكبر أعلى شأناً من غيره من الناحية المعنوية. فقد تكون عواطف بعض أصحاب المستوى الفكري المتواضع أصدق وأسلم، وارتباطهم وتعلّقهم بالنبي وبمبدأ الغيب أقوى وحبّهم أصدق وأعمق. وهذا من شأنه أن يكسبهم مكانة معنوية أعلى ومرتبة أسمى عند اللّه سبحانه وتعالى. فلكلٍّ من العاطفة والاستدلال دوره ومكانته، فلا العاطفة تستطيع أن تحتل مكان الاستدلال العقلي، ولا الاستدلال بإمكانه احتلال مكان العاطفة.

وحادثة عاشوراء تنطوي في طبيعتها وذاتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة. فهذه الفاجعة جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم ومعصوم، إنسان لا يمكن التشكيك بمقدار ذرّة في شخصيّته المتسامية، ويقرّ جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه وهو «انقاذ المجتمع من براثن الظلم والاستعباد». وقد أعلن عن هذا الهدف بوضوح عندما قال:

«أيّها الناس إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان ولم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مَدخله».

إذاً فالهدف من الثورة هو الوقوف بوجه الظلم والطغيان.

وقد تحمّل الحسين(عليه السلام) من أجل هذا الهدف المقدّس أشقّ أشكال الجهاد والصراع مع أعداء اللّه، لانّ أشقّ أشكال الكفاح هو الكفاح في الغربة، وهو الكفاح الشاق والمليء بالمتاعب والعقبات، حيث ينزل الانسان الى ساحة الحرب وهو يرى أنّ جميع أفراد المجتمع يقفون ضدّه، أو يتغافلون عن نصرته، أو يحاولون الابتعاد عنه، وحتّى الذين يؤيّدونه في قرارة أنفسهم لا يجرؤون على إعلان هذا التأييد بألسنتهم.

ففي فاجعة كربلاء لم يجرؤ حتى أمثال عبداللّه بن عباس أو عبداللّه بن جعفر ـ اللذين كانا من بني هاشم ومن تلك الشجرة الطيبة ـ على إبراز تأييدهما للامام الحسين(عليه السلام) في مكة أو المدينة.

إذاً فجهاد الغرباء من أشقّ وأصعب أشكال الجهاد في سبيل اللّه. فالجميع يقف بوجه ذلك الانسان المجاهد ويعرض عنه حتى الاصدقاء.

حتى إنّ الامام الحسين(عليه السلام) حينما دعا أحدهم الى نصرته رفض نصرة ابن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعرض فرسه على الحسين(عليه السلام) بدلاً من ذلك. فهل توجد غربةٌ أعظم من هذه الغربة؟ وهل يوجد كفاح في الغربة أشقّ من هذا الكفاح؟

وفي خوضه لهذا الصراع رأى الامام الحسين(عليه السلام) بأمّ عينيه مقتل أولاده وإخوانه، وأبناء إخوته، وأبناء عمومته، وجميع بني هاشم، حتى انّه شاهد مقتل ولده الرضيع الذي كان له من العمر ستة أشهر فقط.

وبالاضافة الى ذلك، فقد كان يعلم(عليه السلام) انّه بعد استشهاده سوف تقوم تلك الذئاب الكاسرة بالهجوم على عياله وأطفاله لاخافتهم وإرعابهم ونهب أموالهم وبالتالي أسرهم وتوجيه الاهانة لهم والاعتداء بالضرب على بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) زينب الكبرى(عليها السلام) التي كانت من الشخصيات البارزة في العالم الاسلامي.

وقد واصل أبو عبداللّه كفاحه المرير على الرغم من علمه بجميع تلك الاُمور تفصيلاً.

فلكم أن تتصوروا الان كم كان شاقّاً وعظيماً ذلك الجهاد الذي خاضه إمامنا الحسين(عليه السلام).

فأيّ إنسان لا تهتزّ عواطفه من فاجعة استشهاد مثل هذا الانسان العظيم الطاهر المعصوم؟

وأيُّ إنسان حرٍّ يعرف مغزى تلك الفاجعة ويفهم أهدافها ثمّ لا يشعر بالارتباط القلبي والعاطفي معها؟

فهذا النبع المعنوي والعاطفي بدأ بالتدفّق وما زال عصر يوم عاشوراء حينما وقفت زينب ـ على ما ورد في النقل ـ على التل الزينبي وخاطبت جدّها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قائلة:

«يا رسول اللّه صلّى عليك مليك السماء هذا حسينك مرمَّل بالدماء مقطَّع الاعضاء مسلوب العمامة والرداء» وبدأت بقراءة عزاء الامام الحسين بصوت عال، وبعد ذلك قامت بإفشاء ما أرادوا كتمانه من خلال خطبها وكلماتها الرنّانة في كربلاء والكوفة والشام والمدينة المنوَّرة. هذه هي فاجعة عاشوراء وهذه هي أبعادها وأهدافها.

والحقيقة التي لا ريب فيها هي أنّ اللّه سبحانه وتعالى سوف يسأل الانسان يوم القيامة عن جميع النعم التي منَّ بها عليه، وإنّ من أعظم النعم الالهية علينا هي مجالس العزاء التي تُقام إحياءً لذكرى فاجعة عاشوراء الامام الحسين(عليه السلام).

وللاسف فإنّ إخواننا من المسلمين غير الشيعة قد حرموا أنفسهم من هذه النعمة العظيمة التي بإمكانهم استثمارها إذا أرادوا.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الفائدة التي يجب أن تجنى من هذه الذكرى ومن هذه المجالس؟ وما هو الطريق لشكر هذه النعمة؟

أما الجواب عن هذه الاسئلة وأمثالها فهو ملقى على عاتقكم أنتم.

فهذه النعمة الكبيرة هي التي تربط القلوب بمنابع الايمان باللّه وبالغيب مباشرةً، وهي التي جعلت الحكّام الطواغيت على طول التاريخ يرتجفون خوفاً وفزعاً من عاشوراء ومن قبر الامام الحسين(عليه السلام). فقد بدأ هذا الخوف منذ زمن بني اُمية وتواصل الى يومنا هذا.

وقد شاهدتم نموذجاً لهذا الخوف والفزع في أثناء أحداث الثورة الاسلامية المباركة. فحينما حلّ شهر محرّم ـ في أيام الثورة الاسلامية ـ لم يتمكن النظام الشاهنشاهي الرجعي الكافر والفاسد من القيام بأيّ عمل وشُلَّ عن الحركة تماماً.

وتشير التقارير المتبقية من زمن ذلك النظام المنحط بصراحة الى انّ النظام البهلوي ومع حلول شهر محرّم الحرام قد فقد السيطرة على كلّ شيء وفلت زمام المبادرة من يده في جميع أرجاء البلاد.

وقد عرف إمامنا الراحل(رضي الله عنه) ـ ذلك الرجل الحكيم وصاحب النظرة الثاقبة ـ كيف يستغل أيام عاشوراء من أجل السعي الى تحقيق أهداف الامام الحسين العظيمة، فقد اعلن(رضي الله عنه) بأنّ محرّم هو شهر انتصار الدم على السيف، وبهذا المنطق ـ وببركة شهر محرّم ـ انتصر الدم على السيف في إيران الاسلامية وكما خطّط له الامام الراحل(رضي الله عنه).

إذاً لا بدّ من استثمار هذه النعمة الالهية بشكل كامل وبنّاء من قبل العلماء وأبناء الشعب معاً. أمّا استثمار أبناء الشعب لهذه النعمة فيتمثّل في إقامة مجالس العزاء وتوسيعها على أكبر نطاق ممكن والمشاركة الفعّالة والجادّة فيها.

إذاً يجب على أبناء الاُمّة معرفة القيمة الحقيقية والاهميّة البالغة لتلك المجالس والمشاركة الجادّة فيها وجعلها وسيلة لتعميق الارتباط القلبي والنفسي بينهم وبين الحسين وآل النبي(عليهم السلام) واتّخاذها ـ تلك المجالس ـ للوصل بينهم وبين روح الاسلام والقرآن.

هذا ما يتعلّق بالناس حول الاستفادة من هذه المجالس.

وأمّا ما يرتبط بعلماء الدين، فإن القضية أكثر تعقيداً، لان مجالس العزاء تقوم على أساس اجتماع عدد من الناس ومشاركة أحد الخطباء الذي يتولّى إقامة العزاء حتى يستفيد الاخرون. ولكن كيف يجب ان تقام مراسم العزاء؟ إنه سؤال موجّه الى جميع من يشعر بالمسؤولية في هذه القضية، وباعتقادي، ان هذه المجالس يجب ان تتميّز بثلاثة اُمور:

الامر الاول: هو تكريس محبة أهل البيت ومودّتهم في القلوب، لان الارتباط العاطفي ارتباط قيّم ووثيق، وعليكم ان تعملوا في هذه المجالس على تكريس مودة الحسين بن علي(عليهما السلام) وأهل بيت النبوّة في قلوب المشاركين وتوثيق ارتباطهم بمصادر المعرفة الالهية أكثر فأكثر. وأمّا إذا وجدتم وضعاً في هذه المجالس لم يؤدّ ـ لا سمح اللّه ـ الى تكريس مودة أهل البيت في قلوب المستمعين أو من هم خارج المجلس وإنما يؤدّي ـ لا سمح اللّه ـ الى ابتعادهم واشمئزازهم من مجالس العزاء، فإن هذه المجالس تفقد عندئذ واحدة من أهم فوائدها وأهدافها،بل تصبح مضرّة في بعض الاحيان. فانظروا ماذا ستفعلون أنتم الذين تؤسّسون هذه المجالس، وأنتم الذين تخطبون فيها، حتى تتعزّز العلاقة العاطفية للناس بالحسين بن علي(عليهما السلام) وأهل بيت النبوة يوماً بعد يوم نتيجة المشاركة في هذه المجالس.

الامر الثاني: الذي يجب أن تتميّز به المجالس الحسينية هو اعطاء صورة واضحة عن أصل قضية عاشوراء للناس وتبيانها لهم، وان مجالس العزاء على الحسين بن علي(عليهما السلام) يجب أن لا تكون مجرد منبر لخطابات غير هادفة، لان هناك في هذه المجالس اُناساً يتميّزون بالتفكّر والتعقّل والتأمّل في الاُمور وما أكثرهم في مجتمعنا ببركة الثورة الاسلامية سواءً من الشباب والشيوخ والنساء والرجال الذين يتساءلون مع أنفسهم، لماذا جئنا الى هذا المجلس وبكينا على الحسين(عليه السلام)؟ ما هي أصل القضية؟ لماذا جاء الامام الحسين الى كربلاء وأوجد قضية عاشوراء؟ هذه الاسئلة يجب ان يجاب عنها في المجالس الحسينية حتى تتعزّز معرفة المستمع بأصل قضية عاشوراء، وإذا لم تتطرّقوا في منابركم وخطبكم ونعيكم الى هذا المعنى ولو بالتنويه والاشارة، فإن هذه المجالس ستفقد ركناً من الاركان الثلاثة التي أشرت إليها، ومن الممكن ان لا تستحصل الفائدة المتوخاة من المجلس أو قد تؤدي ـ فرضاً ـ الى الضرر لا سمح اللّه.

أمّا الامر الثالث: الذي يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار في مجالس العزاء، فهو تكريس المعرفة الدينية والايمان الديني. إذ إنه لا بدّ من التحدّث عن تعاليم الدين في هذه المجالس بشكل يعزز إيمان المستمع ومعرفته باللّه سبحانه، ولا بدّ من الموعظة والتطرّق الى حديث شريف صحيح السند أو رواية تاريخية لاستخلاص العبر منها، أو تفسير آية شريفة من القرآن الكريم أو نقل موضوع مما تطرق له كبار العلماء والمفكرين الاسلاميين، يجب أن لا يكون الامر بأن يرتقي الخطيب المنبر ويتحدث بدون رؤية وبكلام غير هادف، أو يتطرّق في النعي الى مواضيع هشّة من حيث الفحوى، ليس فقط لا تؤدي الى تعزيز الايمان وتقويته، وإنما تؤدي إلى اضعافه. وإذا حدث مثل هذا الامر، فإننا سوف لا نبلغ الفوائد والاهداف المتوخاة من هذه المجالس.

قد يكون هناك موضوع أو أمر سمعه شخص من شخص آخر بغض النظر عن صحة وسقم السند، أو استشفّه من قصيدة وبادر الى نقل هذا الموضوع من كتاب وقع بأيدينا على سبيل الفرض، فنحن يجب ان لا نتطرّق إلى هذا الموضوع الذي لا يمكن تسويغه أو تبريره إلى المستمع، وخاصةً إذا كان ممن يتميّز بالوعي والذكاء والبحث في دقائق الاُمور، لانه ليس واجباً ان نقول كلّما نعلم أو ننقل ما دُوِّن في الكتب.

ان الجانب المهم من القضية الثقافية في مجتمعنا اليوم إنما يرتبط بالشباب، ولا أعني الطلبة الجامعيين وحدهم، وإنما أعني جميع الشباب من الرجال والنساء والطلبة وغيرهم الذين تفتّحت أذهانهم أزاء مختلف القضايا، وأصبحوا ينظرون إليها بعين التبصّر والتحقيق، فإنّهم معرّضون للشبهات ويريدون أن يفهموا الاُمور ببصيرة.

ان القضية الثقافية في عهدنا هي الشبهات المثارة من جانب الاعداء، إنهم يلقون الشبهات ولا يمكن ان نفرض على من لا يؤيّدنا أو لا يقبل أفكارنا بأن يخرس ولا يتكلم. إنهم يفتعلون الشبهات ويروّجونها ويثيرون الشكوك في النفوس، انتم تقولون بضرورة التصدي للشبهات وعدم إشاعتها في حين ان البعض يرتقي المنبر دون التوجّه إلى هذه المسؤولية الخطيرة، ويتفوّه بكلام ليس فقط لا يحلّ أية مشكلة في ذهن المستمع، وإنما يزيد هذه المشاكل تعقيداً. فلو ارتقى أحدنا المنبر وتفوّه بكلام أثار شكوكاً حول الدين في أذهان عشرة أو خمسة أو حتى واحد من الشباب، فكيف يمكن التعويض عن هذه الخسارة وإزالة الشكوك؟ وهل يمكن أساساً التعويض عن ذلك؟ وهل يغفر لنا اللّه ذلك؟.

هذه هي الاُمور الثلاثة التي يجب ان تتميّز بها مجالس العزاء: تكريس المودة للحسين بن علي(عليهما السلام) ولاهل بيت النبوة، وتعزيز العلاقة والارتباط العاطفي بهم، واعطاء المستمع صورة واضحة عن واقعة عاشوراء، وتكريس المعرفة الدينية ووشائج الايمان باللّه سبحانه وتعالى لدى المستمع. وإنه يكفي لو تحقق الحدّ الادنى من ذلك.

هناك اُمور تُقرّب الناس إلى اللّه وتعزّز تمسّكهم بتعاليم الدين، ومن هذه الاُمور هي مراسم العزاء التقليدية، وأنّ ما أوصانا الامام ـ رضوان اللّه تعالى عليه ـ بإقامة مراسم العزاء التقليدية هو المشاركة في المجالس الحسينية ونعي الامام الحسين(عليه السلام) والبكاء عليه واللطم على الصدور في مواكب العزاء، وهي من الاُمور التي تعزّز المشاعر الجيّاشة أزاء أهل البيت.

غير ان هناك اُموراً خلاف ذلك وتبعد البعض عن الدين حيث شوهدت
ـ وللاسف ـ خلال الاعوام الثلاثة أو الاربعة الماضية أعمال تروّجها بعض الايدي على ما يبدو، أنهم يروّجون في مجتمعنا بعض الاعمال التي تثير علامات استفهام في اذهان المشاهدين. لقد جرت العادة في قديم الايام وبين عوام الناس ان يعلّقوا أقفالاً بأجسامهم في مراسم العزاء، فانبرى لها كبار العلماء واندثرت هذه العادة، غير انها ظهرت مجدداً في الاونة الاخيرة، وسمعت ان البعض يعلّقون الاقفال بأجسامهم في مواكب العزاء، انه عمل خاطئ يقوم به هذا البعض، وكذلك الامر بالنسبة لشجّ الرؤوس بالسيوف اي ما يصطلح عليه بـ «التطبير» الذي يعتبر عملاً مخالفاً هو الاخر.

أنا أعلم بأن البعض يقول بأن الحق كان مع الامام الذي لم يتطرّق إلى موضوع شجّ الرؤوس، كلاّ، ليس الامر بهذا الشكل، فلو كان الامام ـ رضوان الله عليه ـ حيّاً لتصدّى لظاهرة شجّ الرؤوس بالسيوف على الصورة التي روّجت خلال السنوات الاربع أو الخمس بعد انتهاء الحرب، انه عمل خاطئ ان يشجّ البعض رؤوسهم بالسيوف، وما هو الحاصل من إراقة دمائهم بهذه الصورة؟ وكيف يمكن اعتبار هذا العمل من مراسم العزاء؟ أجل من مراسم العزاء اللطم على الرؤوس والصدور، ولكن ليس من العزاء أن يشجّ الانسان رأسه بالسيف ويريق دمه حتى لو كانت المصيبة قد حلّت بأعزّ أعزائه، انها بدعة وليست من الدين، ولا شك في ان اللّه لا يرضى على ذلك.

ان العلماء الماضين الذين لم يتصدّوا لهذه القضية إنما كانت يدهم مغلولة في هذا المجال، امّا اليوم فإنه عصر الحكومة الاسلامية وعصر تجلّي الاسلام وينبغي ان لا نقوم بأعمال تشوّه سمعة المجتمع الاسلامي الذي يتميّز بمودّة أهل البيت(عليهم السلام) ويفخر بأنه يتبرك بالاسم القدسي لولي العصر ـ أرواحنا له الفداء ـ وباسم الامام الحسين(عليه السلام) واسم أمير المؤمنين(عليه السلام).

كيف؟ ينبغي ان لا نقوم بأعمال تصوِّر أبناء هذا المجتمع بأنهم خرافيون وغير منطقيين أمام المسلمين وغير المسلمين في العالم، وفي الحقيقة أنني كلّما فكّرت وجدت بأنه لا بدّ ان احذّر أبناء شعبنا العزيز من هذه الظاهرة التي هي في الواقع بدعة وخلاف لتعاليم الدين ليكُفّوا عن هذا العمل. فانا لست راضياً عمن يتظاهرون بشجّ الرؤوس، فان ينطلق عدة آلاف من الاشخاص وهم يحملون السيوف ليشجّوا بها رؤوسهم، فإن هذا العمل يعتبر خلافاً بلا ريب ولا يرضى عنه الامام الحسين(عليه السلام)، ولا أدري من أين نشأت هذه الاعمال التي جاؤوا بها إلى مجتمعاتنا الاسلامية.

وهناك بدعة غريبة ابتدعوها مؤخراً في كيفية الزيارات. أنتم تعلمون أن جميع أئمة الهدى(عليهم السلام) كانوا يزورون المرقد الطاهر للرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله)والمراقد المطهرة لائمة أهل البيت(عليهم السلام) في المدينة المنورة والعراق وإيران، ولكن هل سمعتم أن أحداً من الائمة أو من العلماء كان يزحف على صدره من باب الحرم إلى الضريح أثناء الزيارة؟ فلو كان هذا العمل مستحباً أو مستحسناً لقام به علماؤنا الكبار، إلاّ أنهم لم يقوموا بمثل هذه الاعمال، وحتى انه نُقل بأن المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي ـ رضوان اللّه عليه ـ ذلك العالم الورع والمجتهد البارز وذو الافكار النيّرة منع حتى تقبيل العتبة لدى دخول الحرم المطهر لاي من الائمة(عليهم السلام). رغم أن هناك رواية باستحباب تقبيل العتبة، ولعل المرحوم البروجردي إنما منع ذلك حتى لا يُتصوّر أنه نوع من السجود يتبجّح به الاعداء لتوجيه الاتهامات إلى الشيعة.

ليس صحيحاً أن يدخل فجأة عدد من الناس إلى الحرم المطهر للامام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) ويزحفون على صدورهم مسافة مائتي متر نحو المرقد، كلا، انه عمل خاطئ، انه استهانة بالدين وبحرمة الزيارة، من يروّج هذه الامور بين الناس؟ ليكفُّوا عن ذلك، انه من عمل الاعداء.

عليكم ان تبيّنوا هذه الحقائق للناس حتى تتفتّح أذهانهم. الاسلام دين منطقي، والفهم الشيعي للاسلام هو الاكثر منطقية من غيره. ولا أحد يتمكن من ان يتّهم الشيعة بضعف منطقهم، لان علماء الكلام من الشيعة كانوا كالشموس الساطعة في عهدهم، سواء الذين عاصروا حياة الائمة كمؤمن الطاق وهشام بن الحكم، أو الذين جاءوا بعد الائمة كبني نوبخت والشيخ المفيد وغيرهم، أو المتأخرون من علماء الكلام الشيعة كالمرحوم العلامة الحلّي وغيرهم.

فالشيعة هم أهل المنطق وأهل الاستدلال المنطقي، وان الكتب الخاصة بالشيعة مفعمة بالاستدلالات المنطقية القوية ككتب المرحوم شرف الدين وكتاب الغدير للمرحوم العلامة الاميني في عصرنا الحاضر.

هذا هو التشيّع وليس تلك الاعمال التي لا تستند إلى أي دليل، فلماذا يروّجون هذه الاعمال؟ انها من الاخطار الكبرى التي يجب على علماء الدين وحماة العقيدة ان ينتبهوا إليها.

لقد أشرت إلى أنه قد يكون هناك من يقول من منطلق التعاطف انه كان الافضل ان لا يتطرّق فلان إلى هذه الاُمور في الوقت الحاضر، ولكن ليس الامر بهذه الصورة. كان عليّ ان أتطرّق إلى هذا الموضوع، فإنّ مسؤوليتي أكثر من الاخرين، كما ان على الاخرين أن يحذّروا من هذه الاعمال وعليكم ان تشيروا الى هذه الاُمور، وان الامام الراحل ـ رضوان اللّه عليه ـ ذلك القائد الجريء إنما كان يتصدّى بمنتهى القوة ودون أية اعتبارات لكل ثغرة تشمّ منها رائحة الانحراف، ولو كانت هذه الاعمال رائجة بهذه الصورة على عهده لتصدّى لها بلا ريب.

ان هذا الامر مسؤولية كبيرة يتحمّلها السادة العلماء والخطباء أينما كانوا. فمجلس العزاء على الحسين بن علي(عليهما السلام) هو ذلك المجلس الذي يجب أن يكون منشأً للمعرفة ومتميّزاً بالاُمور الثلاثة التي أشرت إليها آنفاً.

من فكر القائد