خصائص الطالب الجامعي

خصائص الطالب الجامعي

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد الخامنئي «دام ظلّه»

بسم الله الرحمن الرحيم

أشعر بسرور وافر لتوفيقي في زيارة جامعتكم؛ وهي جامعة ذات صيت ذائع وحافل بالمفاخر. 

ومن المؤسف ان مثل هذه الفرصة لم تسنح لي من قبل؛ إذ حاولنا عدّة مرّات وخططنا ـ سواء في عهد رئاسة الجمهورية أو في أعقاب ذلك ـ للقدوم إلى هذه الجامعة ولقاء طلابها إلاّ أن المشاكل والمعوقات حالت دون ذلك. وأنا أحمد اللّه لهذه الفرصة التي أُتيحت لي اليوم وحالفني الحظ لزيارة جامعتكم.

 

صفتان بارزتان في جامعة الشريف

أودّ التحدّث باقتضاب حول جامعة الشريف الصناعية، وأشير إلى أن المرء يشاهد في تاريخ هذه الجامعة صفتين بارزتين: إحداهما الصفة العلمية، والأخرى الصفة الثورية والدينية. أي أن جامعتكم تعتبر جامعة متقدمة وناجحة في مجال الجهود العلمية الجامعية من ناحية، وتعدّ في الوقت ذاته من الجامعات الناجحة والمتقدمة في ميادين النشاطات الثورية والدينية من ناحية أخرى.

أشار السيد رئيس الجامعة إلى أن هذه الجامعة قدّمت في الماضي شهداء معروفين وبارزين من أمثال الشهيد عباس بور، والشهيد وزوايي، والشهيد شوريده، والشهيد شريف واقفي نفسه، الذي استشهد قبل انتصار الثورة الإسلامية؛ وهؤلاء كلهم شهداء، ولكن لكل واحد منهم شخصية متميّزة ولامعة. وقد كان لأفراد من هؤلاء المبرّزين في هذه الجامعة دور بارز في تكوين مؤسسة جهاد البناء، وفي الحرب المفروضة، وفي تشكيل النواة الأولى لحرس الثورة الإسلامية، وفي النشاطات الثورية والسياسية في السنوات الأولى للثورة؛ أي أنها جامعة تلقّت رسالة الدين والثورة على نحو متميّز وعكسته بين الطلاب والأساتذة وعمداء الكليات ورؤساء الجامعة، والجامعة نفسها.

أما على الصعيد العلمي فإن هذه الجامعة في مستوى راقٍ؛ والاحصائيات التي قدّمها لي الأساتذة المحترمون ـ الذين التقيتهم قبل عدّة دقائق ـ وكنت بطبيعة الحال مطّلعا على الكثير منها، تدل على مدى نجاح هذه الجامعة في المسابقات الدولية، وفي الميادين العلمية، وفي مجال استقطاب الطاقات الخلاقة.

إذاً.. نستنتج إلى هذا الحد من الكلام أن هذه الجامعة وما فيها من طلبة أعزاء وأساتذة تعتبر نموذجاً حيّاًً وبارزاً وعملياً لتلاحم الدين والعلم. وحتّى إذا كان البعض يعلن ويَصرخ بعدم انسجام العلم والدين، فإن صراخه وكلامه لمئة ساعة لا يساوي عملياً ساعة واحدة من حضوركم. وذلك لأنكم أثبتّم مصداقيتكم وكفاءتكم في مسابقات [الروبات] وفوزكم بالمرتبة الأولى في العالم في مسابقات الرياضيات، وقدرتكم على اجتذاب الطاقات، وكثرة العناصر العلمية البارزة بينكم، اضافة إلى ما تتحلون به من صفة دينية؛ فهذه الجامعة تتميز حالياً بمراكز قرآنية ودينية وبإبداعات ـ فنّية دينية تفوق الجامعات الأخرى في البلاد وتبدو أكثر منها فاعلية وحيوية ونشاطاً؛ وأنا مطّلع على جانب كبير من هذه النشاطات.

إذاً .. كما يقال: “إن أدلّ الدليل على إمكان الشيء وقوعه”؛ فعندما نبحث عن إمكانية وقوع أمرٍ ما أو عدم إمكانية وقوعه، ثم لاحظنا وقوعه في الوجود الخارجي، ينحسم البحث تلقائياً. إلاّ أن بعض الأشخاص يستمرون في البحث. ومن الطبيعي أن البطالين والساعين وراء البحوث! الذهنية الصرفة ليسوا قليلين، ولا ينفكّون يثيرون هذه المباحث هنا وهناك، ويناقشون: هل تتعارض التوجّهات الثورية والميول الدينية والعمل الديني مع التطور العلمي، أو لا؟

حسناً، فليبحثوا هذا الموضوع ويشبعوه نقاشاً حتى المساء. غير أن وجود هذه الجامعة وهذه المجموعة العلمية ووجودكم أنتم أيّها الطلبة الصالحون الأعزاء وأساتذتكم الكرام يثبت بطلان هذه المباحث وعدم جدواها.

الحقيقة هي إنني عندما ألتقيكم أيها الطلاب الأعزاء يدور في ذهني كلام كثير، كما وأن أكثر خطاباتنا موجّهة إليكم ـ أنتم الجيل الجامعي الشباب ـ، وحينما نقول “نحن” فلا أقصد نفسي بصفتي مسؤولاً في نظام الجمهورية الإسلامية، وإنما بصفتي علي الخامنئي وباعتباري طالب علوم دينية وعالم دين، وباعتباري شخصاً يعنى بالقضايا العلمية والفكرية في المجلات التاريخية والإسلامية والسياسية. ومن الطبيعي أن المسؤولية بحد ذاتها لها شأن آخر وموقف آخر.

المخاطب الأساسي في كلامي هو شريحة الشباب؛ وشريحة الشباب هذه فيها نخبة من ذوي العلم والثقافة والمعرفة والكتابة والخطابة والفهم والتقدم. ولا شك في أن حجاب المسؤوليات الحكومية يحول دون وصول الكثير من هذه الكلمات إلى قلوب المخاطبين؛ أي أننا أنفسنا لا نستطيع اختراق هذا الحجاب والوصول إلى أعماق القلوب. ومعنى هذا ان الكلام كثير.

 

ظاهرة (الحركة الطلابية)

بما أننا نريد أن يكون بحثنا مقتضباً إلى أقصى ما يمكن، لكي أفسح المجال بعد ذلك لطرح أسئلتكم المكتوبة والإجابة عليها، فقد رأيت أن يكون البحث طلابياً تماماً، ونتناول فيه ما يُطلق عليه اليوم اسم الحركة الطلابية أو النهضة الطلابية. وهو ما يمكن أن يُطلق عليه تعبير أفضل وتسمية أبلغ وهي تسمية الوعي الطلابي أو الشعور بالمسؤولية الطلابية. هذا الموضوع طلابي بَحت، وله أهمية بالغة، ولكن لماذا نصفه بأنّه موضوع طلابي بَحت؟ لأن هذه الشريحة قد تحمل الكثير من الهموم والآمال والمشاعر التي لا توجد لها علاقة مباشرة بالصفة الطلابية التي تتصف بها هذه الشريحة، من قبيل هموم العمل والقلق تجاه المستقبل؛ فقد لا تجد طالباً لا يحمل مثل هذه الهموم والهواجس إلا أنّ هذه الهموم والهواجس، لا تتعلق بصفته الطلابية، وإنّما تجدها على جميع الشباب حتى وإن لم يكونوا من طلاب الجامعات. أو مثلاً هاجس الزواج وتشكيل الأسرة، فكل طالب وطالبة يحملون هذا الهم وتداعبهم هذه الرغبة لأنّها المسألة الأساسية في الحياة، إلاّ أن هذه القضية لا تعتبر لازماً ذاتياً للطالب، وإنما هي لازم ذاتي للإنسان والشباب حتى وإن لم يكن طالباً في الجامعة.

أما الظاهرة التي أسمّيها بظاهرة “الوعي الطلابي” والتي أصبحت سائدة اليوم بين طلبة الجامعات وغيرهم ويُطلق عليها اسم “الحركة الطلابية” فهي خاصّة بشريحة الطلاب من حيث هم طلاب؛ أي أنّها لا تتعلق بجميع الشباب ولا بالشاب الذي لم يدخل الأجواء الجامعية بعد أو الذي تخرج من الجامعة، لأن هذه الظاهرة تتعلق بالأجواء الجامعية وتقتصر على مدة الأربع أو الخمس أو الست سنوات التي تقضونها في الجامعة.

 

واقع النهضة الطلابية

إنّ النهضة الطلابية، أو بالتعبير الأصح ـ الوعي الطلابيّ ـ ليس أمراً جديداً ولا يختص بإيران وحدها؛ لأنه ـ كما سلفت الاشارة ـ يرتبط بالأجواء الجامعية.

هذا الوعي له خصائصه، وتكمن فيه دوافع وتتمخض عنه نتائج معيّنة. ونحن إذا أدركنا هذه الخصائص على الوجه الصحيح يمكن اتخاذها كمصدر غني ومتدفق لصالح البلاد ولتلك الأجواء ولذلك المجتمع، ولكنها إذا لم تُفهم على الوجه الصحيح فقد تذهب هدراً، ويكون مثلها كمثل الثروة التي لا نعلم بوجودها أو لا نعرف كيفية استثمارها؛ والأسوأ من ذلك هو إذا كان صاحب تلك الثروة جاهلاً بوجودها ثم يأتي لص أو شخص محتال له معرفة بوجود هذا الكنز، وبكيفية استثماره، فيأتي ويستحوذ عليه لصالح نفسه. وهنا تكون الخسارة مضاعفة.

إن إحدى الفرائض الأولية على الطلبة أنفسهم أولاً، وعلى الدوائر الجامعية ثانياً، وعلى مسؤولي البلاد ثالثاً، هي معرفة هذه الصحوة الطلابية، أو الحركة الطلابية المشهورة ـ أو أي اسمٍ آخر تطلقونه عليها ـ حق المعرفة.

 

عوامل الظاهرة

من الطبيعي أن مصدر هذه الظاهرة ينبثق من الخصائص التي تتصف بها تلك الجامعة وتلك المجموعة الطلابية الموجودة فيها، وتتأثر عادة بالأعمار والتقوى والطاقات الشبابية، وبالعلوم والمعارف التي يكتسبها الطالب في هذا الدور ـ سواء المعارف العلمية منها أم السياسية أم الاجتماعية ـ إضافة إلى فراغ الطلاب من معاناة الحياة وأوزار المعيشة، فضلاً عن الحرية النسبية التي يتمتعون بها وتحررهم من أعباء المسؤولية.

يضاف إلى ذلك تجمّع الطلاب في أجواء خاصّة، والتأثر بالأمواج التي لا تعمّ المجتمع وانعكاساتها ـ السلبية أو الإيجابية ـ تعتبر من جملة العوامل المؤثرة في هذه الظاهرة المهمة والمباركة، في حين تعتبر ظاهرة خطيرة فيما إذا لم تستثمر أو إذا استغلت على نحو مغلوط.

تتصـف الجماعة الطلابية أو الحـركة الطلابية أو الوعـي الطلابي بجملة من الخصائص التي يمكن القول أنها متشابهة في أغلب الأماكن وتوجد في ما بينها مشتركات كثيرة، مع الأخذ بنظر الاعتـبار الفوارق الثقافية والتاريخية والأرضية التي يتميز بها كـل بلد وكـل شعب وكـل جماعة بشرية.

 

خصائص الحركة الطلابية في إيران قبل الثورة

أما الأمور التي يمكن أن نعتبرها من خصائص الحركة الطلابية في بلدنا قبل الثورة إلى حين مرحلة الثورة، ومنذ ذلك الوقت فلاحقاً فهي كالآتي:

الخاصّية الأولى: النزعة المبدئية في مقابل النزعة المصلحية؛ بمعنى حب المبادئ والاندكاك فيها. عندما يعيش المرء في أجواء الكد والعمل في حياته العادية يجابه في بعض الأحيان موانع تظهر له أن القضايا التي يؤمن بها بعيدة المنال أو يستعصي تحقيقها، وهذا خطر جسيم طبعاً لأنه يؤدي أحياناً إلى نسيان تلك المبادئ. أما في أجواء الشباب فالمبادئ تكون محسوسة وملموسة وحيّة وقريبة المنال؛ ولهذا فالشباب يسعى نحو تحقيقها، وهذا السعي يُعتبر بحد ذاته سعياً مباركاً.

الخاصية الثانية: الصدق والصفاء والإخلاص. يكاد أن يكون الغش والخداع والتحايل والأساليب غير الإنسانية المنتشرة في مختلف جوانب الحياة، قليلة او معدومة ـ بصورة طبيعية ـ في الحركة الطلابية؛ ففي أجواء الحياة العادية، وفي أجواء السياسة والتجارة والتعاطي الاجتماعي ينتبه الإنسان عادة إلى الكلمة التي تخرج من فمه ومدى ما تعود به عليه من نفع أو ضرر، وكل ما يكسبه أو يفقده يتوقّف طبعاً على مدى ما يتصف به من ذكاء ودهاء، أو ما يحمله من صفات معاكسة. أما في أجواء الحركة الطلابية فالكلام يُقال انطلاقاً من صحته وجذّابيته ولذاته وللحقيقة التي يطمحون إليها. لا أريد أن أعمم هذا الكلام على كل كلمة تخرج من فم كل طالب، إلاّ أن هذه الحالة هي الحالة الغالبة في مثل هذه الأجواء.

الخاصية الثالثة: التحرر والانعتاق من القيود والعلاقات الحزبية والسياسية والعنصرية وما شابه ذلك والتي تعدّ فرعاً متشعّباً من النزعة المصلحية. فبإمكان المرء مشاهدة هذه الخاصية في الحركة الطلابية؛ ففي أجواء الحركة الطلابية لا يُوجد عادة أي قيد من القيود التي تفرضها عادة المجموعة السياسة وغير السياسية على أعضائها؛ لأن الشاب غير قادر على تحمّل مثل هذه القيود.

ولهذا السبب فإن الاحزاب التي كانت تعمل قبل الثورة كان الضبط ينفرط من يدها حينما تصل إلى الجامعة! فهي ربّما كانت تنجح في كسب بعض الأنصار، إلاّ أنها كانت عاجزة عن فرض الانضباط الذي تريده ـ وهو الانضباط الحزبي الصارم الذي كانت ولازالت الأحزاب في العالم تمارسه على أعضائها ـ في الأجواء الجامعية؛ وذلك لأن الطالب لابدّ وأن يواجه موقفاً يجتهد فيه برأيه.

في ذلك العهد كان حزب (توده) حزباً فاعلاً وكانت له تشكيلات واسعة جداً، وكان مرتبطاً بالاتحاد السوفيتي، بل كان يعمل لصالحهم، إلاّ أنه حينما كان يصل إلى الجامعة كان يضطر لإخفاء الكثير من الحقائق الحزبية عن أعين الطلاب!

الخاصية الرابعة لهذه الحركة هي: عدم التعويل على الأشخاص؛ بمعنى أن هذه الحركة موجودة في جامعة شريف الصناعية، وكانت موجودة قبل عشر سنوات، وستكون موجودة بعد عشر سنوات؛ لكنكم لم تكونوا موجودين قبل عشر سنوات، ولن تكونوا موجودين فيها بعد عشر سنوات، بيد أن هذه الحركة موجودة. وهذا يعني أنها غير قائمة على الأشخاص وإنما هي قائمة على هذه الأجواء.

الخاصية الخامسة: الموقف المضاد لما تستقبحه الفطرة الإنسانية من ظلم واضطهاد وتمايز وجور وغش ونفاق؛ ففي أول الثورة استغلت زمرة المنافقين ظروف الثورة وتغلغلت بين الشباب والطلبة الجامعيين، ولكن غالبية الطلبة أعرضت عن تلك الزمرة بعدما اتضح لها نفاقها. وقد أطلقت عليهم كلمة المنافقين لزعمهم أن تشكيلاتهم تقوم على أساس العقيدة الدينية، ولكن ثبت عملياً عدم وجود شيء من العقيدة الدينية لديهم، وإنما كل أفكارهم ماركسية، وهي ليست أفكار ماركسية خالصة، بل هي أفكار التقاطية وهجينة ومضطربة. كما أن الصفة الغالبة على أكثر نشاطهم ونضالهم هي حب التسلط والسعي من أجل الاستحواذ على السلطة؛ تلك السلطة التي لم يكن لهم دور كبير في تحققها، بل ولم يكن لهم أساساً ـ بصفتهم مجموعة ـ أي دور فيها؛ وإن كان من المحتمل أن بعض أفرادها كان لهم دور بين عموم أبناء الشعب.

ولهذا السبب فبعد أن عُرف نفاقهم، وكُشِف أن ظاهرهم مناقض لباطنهم، وكلامهم لا يشـبه ما فـي قلـوبهم، ومزاعمهم لا تنسـجم مـع مـا يسـعون إليـه حقيقـة، أعـرضت شريحـة الشـباب الجامعـيـين عنهم وجَفَتهُم.

ومن جملة الخصائص الأخرى التي تتسم بها الحركة الطلابية وهذه الحركة المنبثقة ذاتياً من الأجواء الجامعية هي أنّها لا تخضع للمشاعر فقط، وإنّما تتصف إلى جانب المشاعر بالمنطق والفكر وبعد النظر والرغبة في الفهم والتدقيق. طبعاً هذه الحالة تمر بأطوار من الضعف والشدة.

هذه هي مجموعة الخصائص التي نرى وجودها في الحركة الطلابية أو الوعي الطلابي. وبإمكان أصحاب التحليل والتدقيق البحث عن خصائص أخرى من هذا القبيل، ولابد طبعاً من وجود خصائص أخرى، إلاّ أنني لا أريد بحثها على هذا النحو.

اعلموا يا أعزائي أنّ الحركة الطلابية قدّمت خدمة كبرى لهذه الثورة؛ فقد كان للجماهير الطلابية حضور فاعل في ساحة المجابهة إلى جانب جماهير الشعب، وأكثر ما شاهدته في هذا المجال يتعلق بمدينة مشهد؛ فقد كان لي نشاط في البيئة الطلابية بمشهد، وهكذا الحال أيضاً حينما كنت آتي إلى طهران، فقد كنت أتردد على جامعات مختلفة وكان الطلاب على اتصال بي، وكنت أنظر الأمور عن كثب؛ وبعض المسؤولين الحاليين في البلاد هم من طلاب الأمس الذين كانوا على اتصال بنا.

 

بركات الحركة الطلابية

ولم ينته هذا الدور في عهد الثورة؛ ولو كان بعض الأشخاص قد تصدّوا للمسؤوليات المختلفة المتعلّقة بقضايا الطلاب وكان لهم اهتمام بهذا الجانب لتمخضت عن هذه الحركة بركات أكبر، ولكن حتى بدون ذلك، نجمت عن هذه الحركة بركات جمّة، أشير في ما يلي إلى نماذج منها:

أحد تلك النماذج هي الأحداث التي وقعت في جامعة طهران؛ حيث أقدمت الزمر الإلحادية، واحتلت جامعة طهران، واتخذت من غرفها وقاعاتها كمراكز حربية ومشاجب للسلاح وبؤر للتآمر ضد الثورة والنظام، وجعلوا البلاد تعيش في حالة طوارئ، وأشاعوا حالة من الرعب ليس في أوساط المسؤولين آنذاك فحسب ـ إذ كان المسؤولون آنذاك عبارة عن حكومة مؤقتة ليست لديها القدرة والطاقة والصبر على الخوض في تلك الميادين ـ بل وحتى في قلوب الكثير من العناصر الثورية؛ وبعثوا أشد حالات الرعب في أوساط جامعة طهران نفسها.

ولا أنسى أنني ذهبت في أشد تلك الأيام مرارة إلى جامعة طهران، حيث كانت لدي جلسة أسبوعية فيها، وذهبت كالعادة إلى مسجد الجامعة، ولكنني وجدت الجامعة خالية تماماً من الطلاب، وعندما دخلتُ المسجد لم أجد فيه أكثر من عشرين أو ثلاثين طالباً. وجاءني بعضهم وقال: سيّدنا! غادر المكان فوراً. وبعدما استفسرت عن السبب اتضح لي أنّهم أشاعوا حالة من الطوارئ في الجامعة، وأنهم لم يكونوا يتورعون عن الضرب والقتل وما شابه ذلك! ولكن من الذي تصدى لهم؟ تصدّى لهم طلاب الجامعة أنفسهم؛ حيث برزت أولى ـ أو واحدة من أولى ـ علائم ظهور النشاط المؤثّر والفاعل للحركة الطلابية في هذه القضية. كانت الجامعة شبه معطّلة، إلاّ أن الطلبة ـ وأقصد المجموعة الثورية الخالصة منهم ـ اقتحموا الجامعة بفاعلية وحيوية وطهّروها من تلك العناصر المفسدة. وهذا النموذج الذي أتحدث عنه يعود إلى عام 1358هـ.ش [1979م].

لو لم تكن لدينا تلك الوشائج والعلاقات الطلابية ـ التي ترسخت بفضل الثورة ـ لما أمكن حسم ذلك الموقف بمثل ذلك النجاح. ومن الطبيعي أن طلاب الجامعة دخلوا في ذلك الوقت في القطاعات الأساسية للثورة وأخذوا يمارسون نشاطهم فيها؛ كحرس الثورة الإسلامية، وجهاد البناء، وغيرها من القطاعات الأخرى. وبعدما اندلعت الحرب كان الشهداء الذين ذكرت أسماءهم من طلبة العلم والدراسة في الجامعة؛ وكانت للبعض منهم كفاءات عالية، إلاّ أنهم وظفوا وجودهم لمستلزمات ومتطلبات الثورة.

كنتُ على الدوام أكرر هذه الجملة على الأصدقاء، وأقولها لكم الآن وهي أن كل إنسان يجب أن يسعى، ويعرف متطلبات اللحظة، ويقضيها؛ فإذا لم يعرف متطلبات تلك اللحظة التاريخية ولم يقضها في وقتها، ثم أدرك حقيقة الأمر في الغد، تكون الفرصة عندئذ قد فاتت. ومثلها في ذلك كمثل خط الإنتاج الذي يسير بحركة رتيبة ويحتل كل مهندس وفني وعامل ومتخصص مكانه أمام ذلك الخط، وحينما تمر الأداة أمامهم ولا يؤدي أحدهم العمل المطلوب منه، تكون الفرصة قد فاتت. أمّا بالنسبة إلى الأداة الأخرى فهو أمر آخر. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة لتاريخ وزمان ومتطلبات المجتمع.

وهذه مهمة يتسنى للشاب ـ وخاصّة طالب الجامعة ـ النهوض بها؛ فهو قادر على فهمها وإنجازها بسبب ما يتوفر فيه من طاقة وفاعلية، ولأنه يتمتّع بعين بصيرة وذهنية متفتحة، ولأن المستقبل مستقبله، وهو يعمل لمستقبله ولذاته.

المستقبل مستقبلكم؛ فاليوم يوجد على رأس المسؤوليات في البلاد أفراد من أولئك الشباب ويمارسون في الوقت الحاضر عملهم ويقدّمون خدمات كثيرة في قطاع الحكومة وفي القطاعات الأخرى، نتيجة لما حصلوا عليه من تجربة ثمينة خلال سنوات مليئة بالنشاط والفاعلية في الحركة الطلابية.

أريد القول انكم اليوم طلبة جامعيّون أيضاً، وإذا تعاملتم في هذه الأجواء مع هذه الظاهرة، ظاهرة الوعي الطلابي، بنفس الخصائص التي ذكرتها، لنتجت عنها بركات قيّمة لبلدكم ولثورتكم ولمستقبلكم ولتاريخكم، ولأنفسكم ـ لأنفسكم في الدنيا، وأمام العدل الإلهي ـ وتكونون قد أدّيتم من خلال ذلك عملاً قيّماً وكبيراً؛ وإلاّ فلو انعدم وجود تلك الخصائص لتحوّلت هذه الظاهرة إلى شيء آخر ولما نجمت عنها مثل هذه البركات.

إنني أميل إلى هذه الظاهرة وأنظر إليها كظاهرة إيجابية ومباركة، وقد تعرفت على منطلقاتها عن قرب وأعلم أن منطلقاتها نزيهة؛ أمّا بالنسبة إلى خصائصها فهي ما سبقت الإشارة إليها. ولكن إذا تحولت النزعة المبدئية إلى حالة ملل ومقتٍ للمبادئ فلا تبقى هذه الظاهرة على ما هي عليه، بل تؤول إلى شيء آخر، وحتى إذا اتخذت شكلاً جديداً تبقى رجعية ومتخلّفة ومتفسّخة وتعدّ بمثابة تقديس لقيم بالية. وهذه الحركة يجب أن تتجه اتجاهاً مبدئياً، أي أن تنادي بالعدالة والمساواة والحرية المعنوية والحرية الاجتماعية والعزّة والكرامة والرفعة الوطنية في العالم.

وإذا تحولت صفة الصدق والاخلاص إلى تعامل تجاري وألاعيب سياسية ـ وهي ألاعيب يدركها كبار السنّ، أمّا الشاب الذي يأتي إلى الميدان حديثاً فيتوهم أنها أمور جديدة لا يفهمها أحد؛ ولكنها في الحقيقة ألاعيب قديمة ومعروفة وتمارسها الأحزاب البالية التي تحدوها رغبة عميقة في الاستحواذ على السلطة ـ فلا تبقى الحركة الطلابية تحمل هذه الصفة. وغالباً ما كنت أقول لمجاميع الطلاب الذين يأتون إليَّ ان محبتي لطلاب الجامعة منبثقة أكثر شيء من صفة الصدق والاخلاص التي يتّصفون بها. وهذه الصفة يجب الحفاظ عليها لدى كل الطلاب فرداً؛ فرداً. وإذا افترضنا عدم إمكانية الحفاظ على صفة الصدق والاخلاص والنزاهة لدى جميع الطلبة، فيجب الحفاظ عليها في مجموع الحركة الطلابية على الأقل.

لم تكن الحركة الطلابية ولا الوعي الطلابيّ عمّا في يوم ما جميع الطلبة، لا في الماضي ولا في الحاضر، ومن الطبيعي أن الطلاب الذين يعيشون في الجوّ الجامعي ليسوا كلهم من نمط واحد؛ فالذين لا يميلون إلى هذا النوع من الحركة يقولون دعنا نؤدّي واجباتنا الدراسية، ونحصل على وُرَيقَةِ التخرج بسرعة لندخل بعدها في ميدان العمل. وكلامي لا يشمل أمثال هؤلاء الأشخاص، ومن الممكن أن يكون هؤلاء شباب صالحون جداً، وأنا لا أبغي رفض موقفهم، وإنّما أريد القول أنهم غير مشمولين بكلامي هذا الذي أتحدث فيه عن الوعي، أو الانتفاضة، أو الحركة، أو النهضة الطلابية.

كما يوجد في البيئة الجامعية أشخاص يقومون بممارسات شبابية أكثر من اهتمامهم بواجباتهم الدراسية، ويجعلون من تلك الممارسات وكأنها الشغل الشاغل لهم وليس بعنوان “إلاّ اللَّمَم”؛ و”اللمم” الوارد في القرآن معناه أن الإنسان قد يصدر عنه أحياناً عمل مصادفة وبدون انتباه. ومن الذي لا يخطئ ولا يذنب؟ إلا الناس ذوو المقامات العالية. ومعنى هذا أنه قد يأتي الإنسان أحياناً بعمل غير مناسب، أو يقترف ذنباً من باب الخطأ والغفلة والجهل، وهذه الحالة لها حكم آخر، إلاّ أن البعض يجعل من هذه الممارسات الشائنة وكأنها شغله الشاغل ويبدو وكأنّه لا همَّ له سواها. وهؤلاء أيضاً غير مشمولين بكلامنا هذا.

وبطبيعة الحال كان أمثال هؤلاء الأشخاص في الماضي وقبل الثورة كثير، إلاّ أنهم بعد الثورة لم يبقوا على تلك الكثرة. وأنا أتحدث هنا عن تلك المجموعة التي تحمل أهدافاً ومبادئ ومشاعر، ومقولة الحركة الطلابية تتعلق بهم؛ وإلاّ فإنّ تلك الفئة حتى لو شاركت في وقت ما في تظاهرات، فإنّ مشاركتهم زائفة وغير حقيقية. وقد لوحظ أن هؤلاء الأشخاص الذين لا همَّ لهم سوى تلك الممارسات يحضرون أحياناً في بعض التجمعات من أجل إثبات وجودهم، ولكن من الواضح أن مقولة العمل المبدئي والجاد ليست بالمقولة التي يستطيع أمثال هؤلاء الأشخاص تأدية دور بارز فيها.

إذاً لاحظوا أن هذه الخصائص يجب أن تكون موجودة في هذه الحركة الطلابية. ولا شأن لي بالتشكيلات المختلفة الموجودة في الجامعات، لأن لكل واحدة منها حالةً وحكماً خاصاً بها؛ وكلامي هذا أوسع من قضية التشكيلات ويشمل جميع ذوي المشاعر؛ وأقصد بها المشاعر التي سبق تعريفها والتي تنتمي إلى هذه البيئة الجامعية، وهي مشاعر منبثقة من عناصر قيّمة كالفتوّة والصدق والاخلاص والطاقة والمبدئية. وهذا ما يوجب عليهم الحفاظ على هذه الخصائص.

 

آفات الحركة الطلابية

ولا ريب في أن الحركة الطلابية لها أمراضها أيضاً؛ ولهذا يجب توقي تلك الأمراض والاحتراس منها.

واحدة من آفات الحركة الطلابية هي أن بعض العناصر والمجموعات الخبيثة تطمع بها وتحاول استغلالها؛ وقد شاهدنا بأنفسنا في تلك المرحلة أعمالهم، وحتى أن البعض منهم كان يتمنى أن لا يكون هناك وجود للحركة الطلابية، وقد كان العبوس والاستياء يطغى عليهم حيثما شاهدوا وجود حركة شبابية، وخاصّة إذا كانت تلك الحركة طلابية؛ فهؤلاء حينما يلاحظون المجال مفتوحاً وان للطلبة وللجيل الشاب في البلد كلمته تجدهم يقررون التحرك زحفاً في بداية الأمر ثم ينهضون شيئاً فشيئاً ليطلّوا بأعناق مشرئبّة معلنين عن وجودهم! فإذا تحركت فئات سياسية طامعة في السلطات مغرضة وخبيثة وذات ماضٍ أسود صوب الحركة الطلابية ولصقت نفسها بها ووضعت يدها عليها، فهذه آفة.

صرّحت في بعض الأحيان للمجاميع والتشكيلات الطلابية التي تأتي إليّ بأسماء تلك الفئات الخطيرة، ولكن بما أن هذا الكلام من المحتمل أن يبثّ، لهذا لا أُصرّح لكم باسم معين. هناك ظروف ومواقف يحاول فيها شخص خبيث ويحمل نوايا سيئة استغلال النوايا الحسنة والناس الطيبين والحركات الخيّرة؛ وهذه طبعاً حالة تبعث على الأسى والألم، ولو تسنّى للمرء القيام بعملٍ ما لما سمح بحصول مثل هذا الوضع. والحالة هنا من هذا القبيل؛ ولذا يجب أن يكون الطلبة على حذر؛ لأنه لا ينبغي القول أن أحداً يجب أن يحرس الطلبة ويحافظ عليهم، لأن هذه الحالة تعد نقضاً للغرض؛ فالطلبة أنفسهم يجب عليهم الحذر وعدم السماح باقتراب الاشخاص الخبثاء والعناصر والفئات والمجموعات السيئة المقيتة ذات التاريخ الأسود. وإذا كان غرضها فعل الخير فلتفعله هي نفسها، ولا تتدخل في شؤون التجمعات الطلابية.

الآفة الأخرى التي تهدد الحركة الطلابية ـ كما ذكرت ـ هي الابتعاد عن المبادئ. انتبهوا يا أعزائي إلى حادثة إجرامية وقعت في يوم السادس عشر من شهر آذر [السادس من كانون الأول] قبل الثورة بسنوات عديدة؛ وكان من الممكن في أول الثورة إيداع تلك الواقعة في أدراج النسيان بسبب كثرة الاحداث والوقائع، غير أن المسؤولين والحريصين على قضايا البلاد كانوا يرغبون في بقاء ذكرى ذلك اليوم حيّة في الأذهان، وكان الداعي إلى ذلك هو أن تلك الحادثة وقعت في الجامعة بسبب كلمة حق؛ إذ إنّ جبهة الأنذال تصدّت للشبان نتيجة للهدف الذي كانوا يسعون إليه ـ وكان هدفاً سامياً ـ وأسفر عن ذلك مقتل ثلاثة أشخاص؛ وكان أساس القضية التي أثيرت يومذاك هي قضية العداء لأمريكا. ومتى حصل ذلك؟ في وقت كانت فيه السياسة الأمريكية وأدواتها الأمنية والعسكرية تهيمن على جميع شؤون هذا البلد، وكان كل شيء في هذا البلد بيد أمريكا سرّاً أو علانية.

وإذا تلاحظون اليوم أن الأمريكيين يتحسّرون لعدم توجّه إيران الإسلامية نحوهم، فهم يتأسفون على ذلك اليوم الذي يقفون فيه هنا ويمارسون النفوذ والسياسية على المنطقة برمّتها ـ بما في ذلك الدول العربية وتركيا وما شابه ذلك ـ حيث كانوا يعتبرون هذا البلد ملكاً لهم!

انتبهوا أيضاً إلى أن بلدكم يحتل مركزاً جغرافيّاً حساساً، وكانت إيران طبعاً أكثر أهمية لأمريكا في ذلك العهد، وذلك لوجود الاتحاد السوفيتي إلى جوارها؛ وفي الوقت الحاضر ليس للاتحاد السوفيتي وجود، ولكن هناك: أولاً بلدان آسيا الوسطى التي تحظى بأهمية بالغة، وثانياً هناك روسيا التي تعتبر مهمة بالنسبة للغرب وخاصة بالنسبة لأمريكا؛ فروسيا تمرّ حالياً بحالة احتضار وشبه غيبوبة، وهم يعلمون أن روسيا ـ وهي واحدة من أكبر بلدان العالم ـ إذا استطاعت الوقوف على قدميها في واحدة من أكثر المناطق حساسية في العالم، وتكونت لديها القدرة اللازمة ولم تكن خاضعة للنفوذ الأمريكي، فهي تشكل خطراً بالغاً على أمريكا وعلى نظام القطب الواحد؛ وهذا يعني أنها ستكون نموذجاً مثيلاً للاتحاد السوفيتي السابق، لذا فإن روسيا مهمة أيضاً. إذاً، على الرغم من عدم وجود الاتحاد السوفيتي في الوقت الحاضر، ولكن نظراً لوجود آسيا الوسطى وروسيا من جهة، ووجود دول مثل العراق وسوريا اللذين كانا خاضعين للنفوذ السوفيتي يوماً ما، والأمريكيون يطمعون اليوم في الاستيلاء عليهما، لهذا السبب يبقى الموقع الجغرافي والجغرافي السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في غاية الأهمية، وفريداً من نوعه في المنطقة.

حينما ينظر الأمريكيون يلاحظون عدم وجود موطئ قدم لهم هنا، ولا حتى على مستوى سفارة بسيطة، ولا مكتباً لرعاية المصالح؛ فاليوم لا يوجد ولا حتى موظف أمريكي واحد يعمل في هذا البلد، ومكتب رعاية مصالحهم يديره أفراد سويسريون؛ الأمريكيون لا مكان لهم هنا، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في هذا المضمار ومارسوا علينا الضغوط لمدّة من الزمن، غير ان المسؤولين في بلدنا قاوموا تلك الضغوط ولم يأذنوا لهم بالمجيء.

الأمريكيون يطالبون بالسماح لبعض الأشخاص بالمجيء إلى طهران لإدارة مكتب رعاية المصالح الأمريكية؛ والحقيقة هي أنهم يستهدفون إيجاد خط مخابراتي سياسي في وسط طهران من خلال الارتباط بالعناصر العميلة لهم؛ هذا هو مقصودهم. إن أحد أسباب الحنق الأمريكي علينا هو الوضع الذي كانوا يتمتّعون به هنا قبل الثورة؛ ففي مثل تلك الظروف عَبّر طلبة الجامعات عن سخطهم لزيارة معاون الرئيس الأمريكي آنذاك لإيران وعبّروا عن سخطهم بتلك الصورة التي نجمت عنها حادثة السادس عشر من آذر [السادس من كانون الأول]. وعلى الرغم من مضي أربعين سنة على تلك الواقعة، إلاّ أن ذكرى تلك الواقعة لازالت موجودة.

وجاءت الثورة الإسلامية وغيرت تركيبة الجغرافيه السياسية للبلد تغييراً تامّاً، وتغيّرت التوجهات السياسية عمّا كانت عليه في الماضي تغييراً كلّياً، وظهر نظام ديني وإسلامي ونظام شعبي مستقل تماماً، وأصبحت إيران قاعدة تستقطب اهتمام كل من يحملون عقداً مكبوتة ضد الهيمنة الأمريكية؛ فهناك شعوب كثيرة اليوم تشعر بالارتياح للشعارات الإيرانية المضادّة لأمريكا، ولو كان بالإمكان لأوردت أسماء تثير لديكم الدهشة؛ فهناك بلدان كبرى معروفة يسرها ويسعدها وجود شعب هنا يعلن بكل قوته وبصراحة تامّة عن موقفه المناهض للأطماع الأمريكية. فإذا ما أطل في مثل هذه الظروف عدد ممّن يطلق على نفسه اسم الطلاب ويتخذ موقفاً مضاداً لحركة السادس عشر من آذر ويطرح قضية التوجه نحو إقامة علاقات مع أمريكا تحت حجج وذرائع واهية لا تصمد أمام الدليل، فهذا معناه إعراض عن الحركة الطلابية، بل لا صلة له بهذه الحركة أساساً، وإنّما هو كلّياً أمر آخر وعلى العكس من ذلك؛ فهم يصنعون قضية الخلاف مع أمريكا في قوالب ضيّقة وأطر فئوية واهية من أجل الاجهاز على أصل القضية؛ وهذا لا يصح طبعاً، وهذا واحد من أمراض الحركة الطلابية.

إذاً، من جملة أمراض الحركة الطلابية هو الإعراض عن المبادئ والتخلّي عن الروح المبدئية.

أو حينما تطرح قضية العدالة الاجتماعية في البلاد، يجب على طلبة الجامعة دعم هذه القضية، فحتى الذين حاولوا التقليل من شأن شعار العدالة الاجتماعية لدوافع سياسية أو غير سياسية، عجزوا عن تحقيق تلك الغاية واضطروا في نهاية المطاف إلى الدعوة إلى تطبيق هذا المبدأ؛ إذ لا يوجد في العالم كلّه إنسان يتنكّر لمبدأ العدالة الاجتماعية عدا المستكبرين والطغاة ومصّاصي دماء الشعوب.

من الذي يجب أن يدعم هذا المبدأ حينما يطرح في البلد؟

ومن الذي يجب أن يفكّر فيه أكثر من الآخرين؟

ومن الذي يجب أن يعمل من أجله ويبحث عن سبل تحقيقه ويعقد الندوات لهذا الغرض؟

طبعاً الطلبة هم الذين يجب أن يتبنّوا هذه المهمة. يجب الحذر من أن تسير الحركة الطلابية والوعي الطلابي خلافاً للتوجهات. إذاً من جملة أمراض هذه الحركة هو التنصل عن المبادئ وتناسي القيم والأهداف.

ومن الأمراض الأخرى التي تصيب الحركة الطلابية هي السطحية. يجب عليكم يا أعزائي الابتعاد عن التفكير السطحي؛ لأن من صفة الطالب الجامعي التدقيق والتعمّق. فكّروا ودققوا في كل كلام تسمعونه؛ لأن في الإسلام “تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة”. ولأجل هذا فإنكم إذا فكرتم تتخذ عبادتكم معنيً أعمق، ويكون لجهودكم البنّاءة ولمجاهدتكم مغزاها. وأنتم طبعاً تعرفون العدوّ من الصديق.

لو كان هناك أشخاص في جبهات القتال لا يميزون جبهة العدو من جبهة الصديق، فهم يبقون حيارى تائهين ويدورون حول أنفسهم ويطلقون النار في هذه الاتجاه تارة وفي الاتجاه المعاكس تارة أخرى، أو قد يطلقون النار في الهواء أو على أنفسهم! فإذا انعدم التفكير يصبح الإنسان بهذه الحالة. والبعض يحاول استمالة جماهير الطلبة نحو مصالحه الذاتية تحت ستار من الضجيج والصيحات والشعارات البراقة الزائفة؛ وهذا الوضع ذو مخاطر على الحركة الطلابية؛ وفي مثل هذه المواطن يجب إعمال الفكر. والمرء إذا فكّر عند الاختيار يكون اختياره صحيحاً وصائباً، وهو حتى وإن أخطأ في الاختيار يمكن التفاهم معه بسهولة؛ أمّا الشخص الذي لا يستخدم فكره، فلا يمكن التفاهم معه بشكل منطقي إذا أخطأ في الاختيار؛ لأنه يُسلِم قياده لجهله وتعصّبه. بينما لو كان من ذوي التفكير والدقّة حتى إذا أخطأ يمكن لأحد الخيرين التفاهم معه وإرشاده إلى موطن خطئه بالأدلة والبراهين. وهذا يعني وجوب الابتعاد عن السطحية؛ فالإنسان لا ينبغي له الوثوق بأي كلام كان أو أيّ شعار أو قول أو نقل، وإنّما يجب إعمال الفكر في ما يسمع. فأساس كل القضايا هو الفكر؛ وهذا هو أهم ما يرتجى من الناس العاقلين الواعين.

ومن الأمراض الأخرى الوقوع في مصائد الأحزاب والفئات.

وهذا ما أشرت إليه من قبل. احذروا من الاخطبوط الخطير للأحزاب والفئات لكي لا يوقعكم في شباكه، لأن هذه الطبقة المستنيرة إذا وقعت في شباكه يجرّدها من كل صفاتها وخصائصها الإيجابية؛ وإذا وقع ذلك سيكون المرء حينئذ في خدمة أعداء الثورة. وهذه حالة خطيرة ينجم عنها ضياع الإنسان ودمار حياته ومستقبله، ولا يجني من ذلك إلاّ الندم والحسرة.

لقد أطلتُ عليكم الكلام. وفي ختام كلامي أودّ بأن أوصيكم يا أعزائي أن تأنسوا بقراءة نهج البلاغة، فهو كتاب جدير بالتدبّر ويبعث على الوعي واليقظة. زينوا مجالسكم بأقوال نهج البلاغة وكلمات أمير المؤمنين. وإذا وفقكم اللّه وتقدّمتم خطوة إلى الأمام، عليكم حينئذٍ بالصحيفة السجادية، التي تبدو على الظاهر وكأنّها كتاب دعاء فقط، ولكنها في الحقيقة، مثل نهج البلاغة، كتاب حكمة ودرس وعبرة وكتاب إرشاد نحو حياة سعيدة.

إن الكلام كثير طبعاً، ولكن بما أنه لم يبقَ أمامنا متّسع من الوقع إلى الظهر، حيث ينبغي أن أجيب خلال هذه الفرصة عن أسئلتكم، لهذا أنهي كلامي عند هذا الحد.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

 

أسئلة وردود

* لديّ سؤال حول موضوع “العدالة الاجتماعية”؛ فعلى الرغم ممّا ورد في كلماتكم في السنوات الماضية فقد وقع هذا الموضوع في خِضَمّ الألاعيب السياسية، ولم يتحقق اقتراب ملحوظ نحو الغاية التي كنتم تؤكدونها. ألم يحن الأوان للنظر إلى الموضوع بطريق أصولي، وتقصّي مصادر ثروات الأفراد ابتداءً من رجال الدولة أنفسهم ثم إلى أفراد المجتمع من بعدهم؟

ـ هذا كلام حسن جداً، والتلفّظ به سهل، إلاّ أن تطبيقه صعب وعسير للغاية. فما أن تُمدّ الأيدي نحو بعض المسؤولين، حتى تبدأ أول ما تبدأ صيحاتهم وتذمّرهم وشكواهم؛ وقد توضع العراقيل أمام اصل هذه المهمة ولا يتم تطبيقها! فأنا أعتقد اعتقاداً قاطعاً بأن قضية العدالة الاجتماعية يجب متابعتها بجدية؛ وهذا أمر لاشك فيه، وقد أعلنته مرّات عديدة؛ إلاّ أن الذي يجب أن يُتابع ليس أنا، وإنّما الاجهزة القضائية والأجهزة الحكومية هي التي يجب أن تتابع. وهناك جزء من هذه القضية يجب حلّه بواسطة القوانين الصالحة، والجزء الآخر منها يمكن حلّه بواسطة الاجراءات التنفيذية، وبعضها يمكن حلّه بواسطة التفتيش الذي تقوم به الأجهزة الأعلى؛ أي التفتيش الذي يجب أن تمارسه الأجهزة الحكومية على القطاعات التابعة لها. وعلى كل حال، فإنني أشارك هذا السائل في رأيه حول هذه القضية وأتمنّى أن تسير قُدُماً.

وهناك بطبيعة الحالة أعمال تجري في الوقت الحاضر، ولا يعني ذلك عدم التقدم في هذا المضمار؛ فقبل مدة طرحتُ سؤالاً على السلطة القضائية حول هذا الموضوع، وقدّموا لي تقارير بهذا الشأن، وهناك أعمال تجري في هذا المجال، إلاّ أن مسار العمل ليس بالشكل الذي يرضي طموحي، فما بالك بكم أنت الشباب المبدئيين.

* ما هو الحل العملي لمشكلة البلاد الاقتصادية؛ ومنها مشاكل العمل والسكن وما شابه ذلك؟ وهل هناك شيء اسمه “الاقتصاد الإسلامي”؟ أرجو أن تسلّطوا الأضواء على هذا الموضوع إن أمكن.

ـ نعم يوجد هناك شيء اسمه “الاقتصاد الإسلامي” وقد ألّفَت فيه كتب كثيرة. وجاءت بعض الاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة منذ بداية الثورة حتى الوقت الحاضر، كالنشاطات الاقتصادية وبعض الأعمال الأخرى، بناءً على أساس هذا “الاقتصاد الإسلامي”. وأعتقد أن المشكلة الاقتصادية في البلاد قابلة للحل، وقد تمّ إعداد خطط مناسبة في هذا المجال؛ ففي العام الماضي أعدّ رئيس الجمهورية بمعاضدة مجموعة من الأشخاص ـ بَعد جهود مضنية ـ خطّة عرفت باسم “خطّة الإصلاح الاقتصادي”. وكانت خطّة جيّدة. وبعد الاطلاع عليها أعلنت دعمي لها. ولو طُبّقت لتمخّضت عنها نتائج إيجابية، إلاّ أنّها أدغمت ضمن الخطة الخمسية. ولو طبّقت الخطة الخمسية بما فيها من سياسات واضحة، والتي أعلنت بعد الكثير من المشاورات والمداولات والجهود، لا أشك في أنها ستترك أثراً ملموساً خلال السنوات الخمس القادمة. وأنا لا أقول أن جميع المشاكل ستُحل، ولكنها ستترك بالتأكيد أثراً ملموساً، ولكن بشرط التطبيق الدقيق لتلك السياسات. وقد أكّدنا أن على الحكومة وعلى المجلس، حيثما كان ذلك عملياً، ـ وأعتقد أنها كلّها أو الغالبية العظمى منها عملية ـ العمل َعلى إبراز تلك السياسات في بنود تلك الخطة قدر الإمكان.

* ما هي صفة الصحيفة الجيّدة؟ وأيّ الصحف في الوقت الحاضر ترونها قريبة من هذه الصفة؟

ـ أولاً ليس من المناسب أن تتوقعوا منّي ذكر اسم صحيفة معينة والقول بأنها قريبة من هذه الصفات والخصائص، هذا أمر تُترك فيه حرية الخيار لكم، وأعتقد أنه ليس من العسير على الطالب الجامعي أن يبحث ويختار الصحيفة الصالحة. وتوجد لدينا بطبيعة الحال صحف صالحة؛ أمّا بالنسبة إلى الخصائص، فمن الواضح أن الصحيفة الصالحة هي تلك الصحيفة التي تهدف إلى نقل الأخبار الصحيحة، وتقديم التحليلات السليمة، والمطالب المهمة، وتناول الهموم التي يعاني منها عامّة أو أكثرية أبناء الشعب بأساليب فنية. وهذه هي الصحيفة الجيّدة في رأيي؛ وبعض صحفنا من هذا الطراز، والبعض الآخر ليس كذلك، وهناك صحف سيئة جداً!

* يرجى أن تبينوا لنا ماهية ومكانة المحكمة الخاصّة بعلماء الدين.

ـ المحكمة الخاصة بعلماء الدين، محكمة قانونية وصحيحة ووجودها لازم. أمّا ما يثار حولها من ضجيج واعتراضات فهو غير صحيح ولا يوجد له أي مبرر. وقد جاء قرار إيجادها صائباً وفي الظرف المناسب وقامت بأعمال مهمّة؛ فشريحة علماء الدين ـ شأنها شأن الشرائح الأخرى ـ معّرضة لارتكاب الأخطاء، ثم إن منزلتهم وخصائصهم بالشكل الذي يوجب وجود محكمة لديها الجرأة والقدرة على سوق عالم الدين إلى منصّة المحاكمة واستجوابه. وعندما يكون الحاكم عالم دين فإنه يُتقن كل ما يتقنه عالم الدين المتّهم، وهذا ما يتيح له بطبيعة الحال محاكمته بشكل أفضل. وقد أخذت هذه الأمور كلّها بنظر الاعتبار. أمّا الذين يزعمون أن هذه المحكمة لم تكن موجودة في عهد الإمام الخميني، فزعمهم باطل؛ لأنها كانت موجودة في عهد الإمام وهو الذي أسّسها وكان يعطيها أهمية بالغة. وقد اضطلعت هذه المحكمة بأعمال كبرى؛ ومعنى هذا أنها محكمة صالحة وذات مكانة قانونية. ولاشك في أن ما كان يقوله الإمام عن عموم السلطة القضائية ينطبق على هذه المحكمة أيضاً، وهو أن السلطة القضائية ومحاكمها معرّضة للسخط وعدم الرضا من قبل نصف مراجعيها كحد أدنى، لأنهم إمّا أن يكونوا محكومين أو من مؤيدي أولئك المحكومين؛ وبالنتيجة فهم غير راضين عن عمل السلطة القضائية.

* هل تعتبرون عمل المحكمة الخاصة بعلماء الدين عملاً عادلاً؟

إنّ عملها قانوني. وأنا لا يمكنني الحكم بشأن كل محاكمة تجري فيها هل هي عادلة مئة بالمئة أو لا؟ ولكن لم نلاحظ منها على الظاهر شيئاً غير عادل؛ وأسلوبها في العمل لا بأس به. وإذا كانت هناك حالة فيها مخالفة للقانون أو مخالفة للعدالة، فمن الممكن متابعة ذلك. ولكنني لم أشاهد منها عملاً غير عادل حسب علمي.

* هل ينسجم وجود مثل هذه المحكمة مع مفاد الدستور؟

ـ نعم، إن وجودها يتطابق مع الدستور تمام التطابق، وموضع توضيح ذلك لا يكون في الإجابة عن هذا السؤال. ولو لم يكن وجودها قانونياً لما أمكنها الاستمرار في عملها طوال هذه المدّة التي تناهز سبعة عشر عاماً.

* إلى متى تريدون الصمت إزاء ما تمارسه الأجنحة السياسية من هدم لصرح الوحدة؟ أنا أعلم طبعاً أنكم تقدمون لها النصائح، ولكن في الوقت الحاضر؛ حيث استطاع رئيس الجمهورية المحترم إبراز الوجه المسالم لإيران أمام العالم، أليس من الأفضل أن نشيع في داخل البلد أجواء تتيح للحكومة تنفيذ خططها؟ إذا كنّا مسلمين، وإذا كانت الأجنحة السياسية حريصة على إيران، أليس من الأفضل أن نعمل على تقوية قدرة الإسلام بدلاً من العمل على إضعاف بعضنا بعضاً؟

ـ هذا الكلام صحيح جداً؛ ويجب أن نقول لمن كتب هذا السؤال ـ سواء كان طالباً أم طالبة ـ “إنك تتحدث بما يجيش في صدورنا”. وطبعاً أنا لم ولن أسكت عن المورد الذي أشرتم إليه، وقد صرّحت بكلامي هذا للأجنحة والكتل السياسية في اللقاءات الخاصّة بها، أو أحياناً في اللقاءات المشتركة التي ضمّت عدّة فصائل منها، بل وحتى إنني أعلنت ذلك جهاراً في التجمعات العامّة كصلاة الجمعة والخطب العامّة، لتكون المشاعر الجماهيرية بمثابة ضاغط يرغمها على العمل والسير باتجاه الوحدة والتلاحم والتعاون. والوحدة التي نتحدث عنها هنا لا يراد بها أن يذوب الجميع في كتلة واحدة، وإنما المراد هو التعاون في ما بينها، والسير قُدُماً وعدم عرقلة بعضها لعمل بعض. وأنا أرى ان الطالب الذي كتب هذا السؤال تجيش هذه المشاعر في صدره، وهذا هو ما أريده؛ فأنا أطمع إلى أن يكون لدى الجميع مثل هذه المشاعر والمطاليب من الفصائل السياسية. وأعتقد بأن هناك خطوات قد تمت، وهناك إجراءات اتخذت في هذا المجال؛ ونأمل مزيداً من التقدم في هذا المضمار بعون اللّه.

* ما هو رأيكم في محاكمة الأنصار الحقيقيين للثورة؟ (وقد ورد في السؤال اسم لشخصين إلاّ أنني لا أقرأ هذين الاسمين أصلاً؛ سواء ذُكِرا ذكراً حسناً أم سيّئاً). وهل الوضع الحالي يليق بالنظام الإسلامي؟

ـ إن الدعوة إلى عدم محاكمة شخصٍ ما كونه من أنصار الثورة ليس كلاماً منطقياً؛ فالذي هو من أنصار الثورة يجب أن لا يأتي بما يُعتبر في قوانين هذه الثورة مخالفة بحيث يُستدعى إليها، وفيما إذا استُدعي برّئت ساحته. وإلاّ فإذا افترضنا أن أنصار الثورة الحقيقيين يجب أن لا يحاكموا حتى إذا ارتكبوا جريمة؛ وذلك لأنهم أنصار للثورة، فهذا المنطق غير صحيح. أمّا بالنسبة إلى الشخصين اللذين ورد ذكرهما في السؤال، كيف وضعهما؟ هل هما من الأنصار الحقيقيين للثورة، وكانا، ولا يزالا، أو أنهما ليسا كذلك، أو أن أحدهما من أنصارها والآخر ليس كذلك. فهذا كله لا شأن لي به. ولكن إذا افترضنا أن الشخص من أنصار الثورة، فهذا يجب أن لا يمنع أن تمتد إليه يد القضاء حينما يصدر منه ما يعتبر خطأً في نظر القانون.

* ما هو السبب الداعي إلى عدم الوقوف بحزم أمام ظاهرة الارستقراطية التي ظهرت في الكثير من المناصب الحكومية؟ ولماذا لا يطبق الدستور بشكل دقيق في ما يخص أموال رجال الدولة؟

ـ ليس هناك في الدستور ما يشير إلى تقصّي أموال المسؤولين الحكوميين بشكل دقيق إلاّ فيما يخص عدداً منهم؛ كالقائد، ورئيس الجمهورية، وبعض المسؤولين الآخرين؛ إذ يجب عليهم أن يقدموا كشفاً بأموالهم في بداية تصدّيهم للمسؤولية وبعد اعتزالهم عن تلك المسؤولية، لكي يتضح ما حصلوا عليه وما أضيف إلى تلك الأموال خلال هذه الفترة. وهذه المادة تطبق طبعاً. فأنا قد قَدّمت مثل هذا الكشف مرّات عديدة وأرسلته إلى السلطة القضائية عند بداية رئاستي للجمهورية وعند انتهاء تلك المسؤولية، وعند مُباشرتي للمسؤولية اللاحقة. والآخرون يعملون أيضاً بمفاد هذه المادة القانونية. غير أن السؤال المثار هنا يتحدث عن ظاهرة الارستقراطية، وهو سؤال وجيه جداً؛ وإذا كان مثل هذا السؤال وهذه المطاليب تراود أذهان الشباب الطلبة فإنّي أشكر اللّه تعالى من أعماق قلبي. اعلموا أن النزعة الارستقراطية ليست بالشيء الذي يمكن معالجته بالقانون والمحاكم والاستجواب أو ما شابه ذلك، وإنّما القضية أصعب من هذا بكثير، وهي من جملة القضايا التي يجب أن ترفض من قبل الأجواء العامة والمشاعر الشعبية والإرادة الجماهيرية، أو بتعبير أوضح من قبل عموم الثقافة الجماهيرية. ومن جملة الممارسات التي يحرص عليها الأشخاص الذين يميلون إلى نمط الحياة الارستقراطية وتهفو قلوبهم إلى هذا النمط من الحياة في المأكل والملبس والعيش والسلوك، وبشكل بعيد عن حياة متوسط الناس، هو أنهم يحاولون الإيحاء إلى الناس بأن هذا النوع من العيش صحيح ويعتبر قيمة وفضيلة، مثلما كان عليه الحال قبل الثورة؛ فقبل الثورة مهما كان المسؤولون الحكوميون يبالغون في التشريفات والظهور بمظاهر الجاه والجلال والأبّهة والتكبر والتفرعن والثياب الفاخرة، كان عدد من عوام الناس يزدادون بهم إعجاباً؛ وسبب ذلك هو أنهم صاغوا ثقافة الشعب على هذه الشاكلة! أمّا في مرحلة ما بعد الثورة فقد انعكست القضية؛ ولهذا فحتى الذين كانوا يحملون نزعة ارستقراطية أخذوا يتجنّبون الظهور بتلك المظاهر مخافة التوجّه الشعبي العام، أمّا اليوم فيحاولون تدريجاً عكس القضية. وأنا أعتقد أن الارستقراطية تُعتبر بمثابة الآفة بالنسبة للبلاد، وارستقراطية المسؤولين آفة مضاعفة؛ وسبب ذلك هو أن الارستقراطيين إذا كانوا ينفقون من اموالهم ـ بغض النظر عن حلالها وحرامها لأن ذلك يقع على عاتقهم ـ ويتظاهرون بمظاهر الارستقراطية والأبّهة، فإن المسؤولين إذا تظاهروا بمظاهر الارستقراطية فإنهم ينفقون من أموال الشعب وليس من أموالهم. ان ظاهرة الارستقراطية يمكن معالجتها من خلال المشاعر العامّة ومن خلال الكتابات والخطب، ومن خلال إشاعة التوجهات السليمة، وتحويلها إلى ثقافة عامة، إذ لا يمكن معالجة مثل هذه الظاهرة السلبية بالمحاكم الخاصة، والاستجواب وما شابه ذلك.

* هل يعني دعمكم للحكومة ولشخص السيد رئيس الجمهورية قبول السياسات التي تؤمن بها وتطبقها الحكومة وشخص رئيس الجمهورية؟

ـ أنا دعمت وسأدعم رئيس الجمهورية، وهذا واجب عليّ وأرى لزوم القيام به، كما وإنني أدعم الحكومة. ويوجد هناك طبعاً بين أعضاء الحكومة من لا أحبّذ سياساتهم وأساليبهم، وهم وبقية المسؤولين الحكوميين يعلمون ذلك، إلاّ أن الشعب قد لا يعلم بذلك، ولم تكن هناك ضرورة تدعو لإعلام الشعب بذلك. إلاّ أن الذين كان يجب أن يعلموا ذلك علموه، ووجهت لهم الانتقادات متى ما دعت الضرورة إلى ذلك. وإذا كانت هناك حالات تستدعي الشدّة، مارست الشدّة من أجل إصلاح الأمور. لكن السؤال عن دعمي للحكومة ولرئيس الجمهورية هل يعني قبولي بالسياسات التي تؤمن بها الحكومة ورئيس الجمهورية؟ ولا أدري ما المقصود بعبارة “يؤمن بها”. فالذي نشاهده هو الاعمال والاساليب التي لا يوجد لديّ أيّ اعتراض عليها. من الطبيعي أن الناس ليسوا جميعهم في مستوى واحد، وإنّما تختلف درجات الضعف والقوّة من شخص إلى آخر، مثلما تختلف الأذواق والأمزجة من شخص إلى آخر، ومثلما تتباين أساليب الكلام من شخص إلى آخر؛ فالبعض يدافع عن حقيقة معيّنة ويتحدث بأسلوب مغاير لأسلوب شخص آخر يدافع عن تلك الحقيقة نفسها. الإنسان الدقيق يجب عليه ان يتعدى القشور الظاهرية ويصل إلى لبّ الأشياء. ولو أنكم التفتّم إلى هذه الأمور فلا تبقى هناك أيّة مشكلة في نظري.

* إذا كانت هناك إشكالات في السياسات والممارسات، هل يجب إبرازها؟ وكيف يمكن إبرازها بالشكل الذي لا نتّهم فيه بمعارضة أوامركم الداعية إلى دعم الحكومة؟

ـ لم يسبق لي قط أن وقفت بوجه الانتقاد، أو منعت أحداً من الإدلاء بآرائه النقدية. والانتقاد الصحيح والحريص لا ضرر فيه، ولكن يجب أن لا يفضي إلى الهدم والتخريب. البعض ينتقد بأسلوب هدّام، وهذا ليس عملاً صالحاً؛ فالذي يحمل على عاتقه مسؤولية ثقيلة ونتوقّع منه أن يقدم عملاً ما ـ كأن نتوقّع منه إصلاح اقتصاد البلاد وما شاكل ذلك ـ فإذا لم ندعمه، وإذا ظهرت نقطة ضعف لا نسترها، فهل يمكننا أن نعقد عليه مثل هذه الآمال؟ وهل نرتجي أن تلبّى مطاليبنا، أو يتسنى له النهوض بالواجبات الملقاة على كاهله؟

أعتقد ان على الجميع مؤازرة ومعاضدة مسؤولي البلاد، ماداموا يسيرون طبعاً على الخط المستقيم للإسلام والإمام، أمّا إذا انحرف أحد ـ أيّاً ـ عن خط الإسلام والإمام، فهو لا يستحق الدعم، والجميع في هذا الأمر سواء ولا فرق فيه بين الأعلى والأدنى، وحتى أنا؛ فإذا ما زللت ـ لا سمح اللّه ـ عن نهج الإسلام الصحيح، فلا يجب على الناس دعمي أو الانقياد لأمري. ومن الطبيعي أن يوجد في بعض الأحيان اشتباه أو اختلاف في الأذواق، إلاّ أن هذا لا يستدعي حرمان مسؤولي البلاد والقائمين على شؤون القطاعات المختلفة من الدعم والمؤازرة، بل يجب علينا مواصلة تقديم الدعم والعون لهم.

اعلموا يا أعزائي! أن سر اقتدار هذا البلد في الوقت الحاضر يكمن في التلاحم الموجود بين الشعب والحكومة، وهذه الحالة لا مثيل لها في أيّ بلد آخر في العالم. وهذا أقوله عن علم ومعرفة؛ فحتى الدول الديمقراطية لا توجد فيها هذه الحالة التي تشاهدونها هنا والتي توجد لها نظائر كثيرة في بلادنا، حيث يجلس المسؤول مع أبناء الشعب ويتحدث معهم بإخلاص وبعيداً عن التكلف؛ فلاهم يشعرون بوحشة ونفور منه، ولا هو يشعر بينهم بالغربة والوحشة. وهذه الظاهرة إنّما ولدت بفضل الدين الإسلامي، وإلاّ فإنّ تلك الحكومات التي تدّعي لنفسها صفة الشعبية ـ وكانت حكومات لا دينية وملحدة ـ كانت تفصلها عن أبناء شعبها حجب أكثر سمكاً من الحجب التي تعزل الحكومات الأخرى عن شعوبها! ومعنى هذا أن الترابط الموجود بين الحكومة والشعب جاء بفضل الدين الإسلامي. وهذا شيء ثمين لا ينبغي التفريط به. وهذا الاتصال بين المسؤولين الحكوميين والشعب، وحماية الشعب لهم، وحبّهم وحرصهم على أبناء الشعب يعتبر شيئاً ثميناً جدّاً.

* ألا يؤدي حرمان المواطنين من حقهم الطبيعي في الترشيح [للانتخابات] بسبب وجود النظارة الاستصوابية، إلى سلب ثقة الشعب بأسس النظام؟

لا يؤدي إلى سلب ثقة الشعب بأسس النظام؛ وذلك لأن النظارة الاستصوابية قانون، ولا ينبغي لأحدٍ التذمر من تطبيق القانون؛ فنظارة مجلس صيانة الدستور مطابقة للقانون وتستند إلى الدستور، أي أن أسسها وجذورها نابعة من الدستور، وهي موجودة في القانون وتحظى بدعمه وتأييده. ثم إن هذه النظارة لا تخص المواطنين العاديين، وإنّما الغاية منها هي أن لا يدخل انسان سيّئ ومضر إلى هذا المجلس. وهذه النظارة الاستصوابية لا تختص بمجلس الشورى وحده، وإنّما تُطبّق أيضاً في ما يخص رئاسة الجمهورية. تصوروا إلى أين سيؤول مصير البلاد لو انبرى شخص دجّال وذرب اللسان ومدعوم من الخارج ولديه أموال كثيرة ومقدرة على التظاهر بشى المظاهر الجميلة ورشّح نفسه لرئاسة الجمهورية وفاز في الانتخابات؟! الغاية من النظارة الاستصوابية هي الحيلولة دون وصول الاشخاص الذين ترى قوانين البلاد عدم أهليتهم لتسنّم مناصب حساسة؛ كرئاسة الجمهورية، وعضوية مجلس الشورى، أو الأماكن الأخرى التي تطبّق عليها هذه النظارة، كمجلس الخبراء.. النظارة الاستصوابية شيء جيد وليس سيئاً. أمّا الذين يرفعون أصواتهم بالنقد والاعتراض، فيدّعون ان مجلس صيانة الدستور يتخذ التوجهات السياسية كمعيار في قبول أو رفض صلاحية المتقدّمين للترشيح، فهذا الادّعاء لا نصيب له من الصحّة، والسادة أعضاء مجلس صيانة الدستور أنفسهم قد ردّوا هذا الادّعاء على الدوام. وأنا الذي ألاحظ عملهم عن قرب لم استشعر منهم هذا التوجّه. قد يحصل في وقتٍ ما ان شخصاً ما يسيء فهم الأمور، فهذا بحث آخر، إلاّ أن طبيعة هذا العمل تقوم على أسس قانونية.

* منذ مدّة والبحث يدور حول الأصول والأذواق، وتحصل في هذا الخِضَمّ مغالطات. أرجو أن تبيّنوا لنا ما هو المعيار والملاك للحد الفاصل بين الأصول والأذواق؟ وكيف يمكن تشخيص الأصول؟

ـ ان الأصول لا تشتبه بالأذواق المختلفة في شتّى الميادين، فالأصول هي الأسس الفكرية التي يقوم عليها النظام، وهي قواعده الحكومية؛ فالإسلام أصل، والاستقلال أصل، والنظام الديني أصل، والالتزام بأحكام الإسلام أصل، والتوجّه العام للشعب نحو التديّن أصل، واستقطاب المجتمع نحو المجتمع الإسلامي الكامل أصل. أمّا الأذواق فغالباً ما تتجسد على شكل علاقات حسنة أو سيئة بين هذا وذاك، أو أن زيداً يحبّ عمرواً أو يبغضه. أمّا الشؤون الاقتصادية فهي أرفع من الأذواق لكنها ليست من الأصول؛ فقد يكون هناك من يؤيد سياسة “الإصلاح الاقتصادي” ويوجد شخص آخر يعارضها ويؤمن بسياسة اقتصادية من نوع آخر. فمثل هذه القضية أرفع من مستوى الأذواق، ولكن لا ينبغي التصور أنها من الأصول.

الشخص الذي يحمل ذوقاً أو أسلوباً سياسياً معيّناً حينما يصبح في منصب معيّن، يعمل على تطبيق ما يؤمن به من أسلوب أو ذوق سياسي، في حين قد يطبّق شخص غيره أسلوباً من نمط آخر، إلاّ أن الأصول تبقى على الدوام ثابتة ومحفوظة؛ فمنذ عهد رئاستي للجمهورية، حيث كانت رئاسة الجمهورية بيد شخص ثم أعقبه شخص آخر، على الرغم من اختلاف الأذواق والأساليب السياسية والاقتصادية، فقد بقيت تلك القاعدة الفكرية؛ أي الاعتقاد بالإمام، والاعتقاد بنهج الإمام وبالنظام الإسلامي، والاعتقاد بإسلاميّة النظام وجماهيريته، ثابتة ومحفوظة؛ على اعتبار أن هذه المعتقدات ليست بالشيء الذي يتبدّل تبعاً لتبدّل الحكومات. وهذا يعني أنه ليس مما يختلط على الأذهان.

* ألا تعتقدون أن الولاية تُعرّف ويدافع عنها أحياناً بأسلوب سيّئ.. وهل الذين يدّعون السير على نهج الولاية والدفاع عنها غير مخطئين في عملهم؟

ـ أجل، في كثير من الأحيان يجري الدفاع عنها بشكل سيّئ؛ فالبعض يدافع عنها بطريقة سيّئة، ولعل البعض يتصرفون بأسلوب سيّئ. فهذه الظاهرة موجودة ولا يمكن إنكارها، مثلما يتصرف الكثير من الموحدين، والذين يعتبرون من المتدينين في العالم، بأسلوب سيّئ. والكثير من أتباع الدين الإسلامي يمارسون سلوكاً مغلوطاً. وهذه السلوكية المغلوطة موجودة ـ وقد توجد ـ في كل مكان، إلاّ أن النقطة الأساسية هنا، هي أن الذي يسيء التصرف بصفته مناصراً للولاية وللدين الإسلامي وللنظام الإسلامي أو لشخصية معينة، يجب أن لا نُلقي بتبعة تصرفه السيّئ على الحقيقة التي يناصرها، وإنّما يجب أن نقول ان تلك الحقيقة تحتفظ بمكانتها، وإن هذا الشخص قد أساء التصرّف. يلاحظ أحياناً أن البعض ممّن لا يحملون دوافع سليمة يخلطون بين هذين الأمرين، ويوجهون الإهانات للدين أو لأية حقيقة أخرى يناصرها هذا الشخص المسيء أو يدافع عنها. وهذا غير صحيح طبعاً.

حينما نكون في موقع الإجابة عن سؤال ما، لا يمثل الجواب الذي نقدّمه إلاّ عشراً ممّا لم نجب عنه، مثلما عليه الوضع حالياً كما أرى؛ ثم ان الأسئلة لازالت تتوالى عليّ. والحقيقة هي انني أرغب في الإجابة عن هذه الاسئلة لاحقاً؛ إذ حصل في بعض الحالات اننا أخذنا الأسئلة وأجبنا عنها لاحقاً ووزعنا الإجابات. ومن المؤسف أن مجالي ضيّق جداً. ولو كان بإمكاني لعقدت مثل هذه اللقاءات الطلابية في كل شهر أو في كل شهرين مرّة، إلاّ أن الفرص محدودة وأعمالي ومسؤولياتي ثقيلة جداً، ولهذا من المؤسف انني قلّما أوفّق لعقد مثل هذه اللقاءات، وإلاّ فإنّ الرغبة تحدوني للإجابة عن كل هذه الأسئلة.

سأكلف إن شاء اللّه بعض الاخوان في المكتب بالنظر في هذه الأسئلة وفرز المكرر منها، والإجابة عن الاسئلة الأخرى وتقديم الإجابات إليّ للاطلاع عليها، ثم تعاد ليطلع عليها أحباؤنا الطلبة.

على كل حال، أشعر بالسرور لعقد هذا اللقاء. سأتلو بعض الأدعية، وأرجو منكم أن تأمّنوا عليها وتدعوا اللّه بها بقلوبكم الطاهرة، عسى اللّه تعالى أن يستجيب لنا ولكم.

اللّهم أقسم عليك بأسماء وصفات جلالك وجمالك أن تشملنا وشعبنا وبلدنا بهدايتك ورحمتك. اللّهم لا تفّرق بيننا وبين الإسلام والقرآن. اللّهم قرّب شعبنا إلى الإسلام وإلى النظام الإسلامي في كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه. اللّهم نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تأخذ بيد الشباب المؤمنين الصالحين المتحمّسين لأداء الواجبات الإلهية والمتأهبين للنهوض بأعباء المهامّ الثقيلة في سبيلك وتثبت أقدامهم وتصونهم من شرّ شياطين الجنّ والإنس. اللّهم اجعل جامعاتنا أكثر عطاءً وعمراناً وبركة. اللّهم أزل المشاكل التي يواجهها هذا الشعب. اللّهم اجعل القلب المقدّس لولي العصر (أرواحنا فداه) راضياً عناً ومسرور بنا، واجعلنا من جنده.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

من فكر القائد