دور العلماء في بناء الحضارة الإسلامية

دور العلماء في بناء الحضارة الإسلامية

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد الخامنئي «دام ظلّه»

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا سيد الأنبياء والمرسلين، حبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد،

 

 وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين، سيما بقية الله في الأرضين.

إنها لفرصة طيبة ومثيرة أن أكون في خدمتكم في هذا الاجتماع العظيم أيها العلماء المحترمون، والسادة الأعزاء، والشباب الفضلاء، وطلبة حوزة قم العلمية المثابرين والخدومين، وخصوصاً في هذه المدرسة التي تعد محوراً ومركزاً لذكريات عظيمة وأحداث جسام تحتل صفحات متميزة من تاريخ النصف الأخير من هذا القرن في بلادنا. وإنني لأتقدم بالشكر والامتنان للسادة العلماء المحترمين والأساتذة العظام في الحوزة العلمية ولكافة الأعزاء الحضور والمشاركين في هذا الاجتماع ـ المجتمعين في مدرسة دار الشفاء من أخوات وإخوة شباب فضلاء ـ وأدعو الله تعالى أن يشمل مجلسنا ولقاءنا هذا بلطفه وعنايته.

 

العلماء بمثابة الدم الذي يجري في هيكل المجتمع

إن هذا الاجتماع من الحميمية بمكان، لأنه اجتماع طلابي، حيث إن المتحدث والمستمع هم جميعاً من طلبة وأبناء هذه الحوزة وهذه المدرسة. وإن الموضوع الذي اخترته للحديث في هذا الاجتماع المبجّل يدور حول الحوزة، ولكن قضايا الحوزة تعد من شؤون المجتمع بأكمله، ومن شؤون البلاد، بل إنها لا تنفك عن قضايا التاريخ بصفة عامة. إن الحوزة والبيئة العلمائية ليست جزيرة منعزلة عما حولها من العالم. وطبقاً لطبيعة نسيجنا الاجتماعي وعلاقتنا الإنسانية فإن الحوزة والعلماء بمثابة الدم الذي لا يتوقف عن الجريان في هيكل المجتمع حيث يتحرك في كل مكان ويرتبط بجميع الأجزاء، مما يجعل لقضايا الحوزة والعلماء ارتباطاً وثيقاً بقضايا البلاد والنظام الإسلامي وقضايا عالم اليوم وحتى بقضايا الماضي والتاريخ. وإليكم فيما يلي قائمة بهذه المندرجات:

فالموضوع الأول يتعلق بالنظام الإسلامي، وما هو المنهج الذي يسترشد به في حركته، والمسير الذي خصصه وافترضه لحركته. والموضوع الثاني هو: ترى من هم أصحاب الدور الرئيس في هذا المسير الذي يبدو أنه لا يخلو من الصعود والهبوط والتحديات والكبوات والنهوض، وأين تقع الحوزة العلمية من كل ذلك، وما هو دورها، وبالأحرى دورها الرئيس في توجيه هذا المسير؟ وأما الموضوع الثالث فهو أن النظام الإسلامي في الوقت الراهن، وطبقاً لطبيعته الخاصة، يعاني من بعض التحديات، فما هي؟ ثم ما هي الحواجز والمضايقات التي قد تعترض أحياناً سبيل هذا النظام؟ مما ينبغي أن يهتم بشأنه الحوزويون ويتعاملون معه بعمق وموضوعية. وأما الموضوع الرابع فهو: ما هي واجبات علماء الدين اليوم انطلاقاً من هذه المقدمات؟ إن لدينا واجبات ومستحبات ـ ولا شأن لنا بالمحرمات ـ فما هي واجبات الحوزة العلمية والعلماء اليوم؟ لقد أنجز العديد من الأعمال المهمة خلال السنوات القليلة الماضية كما قال مدير حوزة قم العلمية المحترم في تقريره. ولسوف تتضح نتائج هذه الجهود في المستقبل المنظور أو البعيد. ومع أن هذه كانت فراغات ملئت، إلا أنه مازال هناك فراغات أخرى لابد من اكتشافها وملئها. وأما الموضوع الخامس والأخير فهو عبارة عن بعض التوصيات والنصائح لكم أيها الأعزاء من الأخوة والأبناء.

 

أولاً: المنهج العام للنظام الإسلامي

إن الموضوع الأول هو: ما هو المنهج العام للنظام الإسلامي؟ وإذا أردنا الإجابة عن هذا السؤال في جملة واحدة، فإننا نقول: إنه بلوغ الحضارة الإسلامية. وهو جواب مجمل يحتاج إلى توضيح وتفصيل. ولكن هل يمكن أن تقوم حضارة أخرى مقابل الحضارة الإنسانية الراهنة ـ أي الحضارة المادية الغربية ـ أو لا؟ ثم ما هي العناصر التي تتطلبها هذه الحضارة من أجل البقاء والثبات، وما هي العوامل المساعدة؟ ففي هذا حديث يطول.

 

زيف الحضارة الغربية

إنكم لو سألتم رموز الحضارة الغربية المعاصرة فإنهم سيقولون لكم بأن الحضارة الغربية المادية هي حقيقة أبدية لا تقبل التراجع؛ ففي إبان ازدهار هذه الحضارة ـ أي منذ القرن التاسع عشر الميلادي ـ ثار الجدل حول أن كل ما تقدمه هذه الحضارة للبشرية هي أمور حديثة وجديدة وجذابة ومطلوبة ولا مندوحة عنها، وكل ما هو خلاف ذلك فهو تقليدي ومنسوخ وقديم وزائل. وهذا الجدل بعينه هو ما تجدونه دائراً اليوم في بعض محافل مثقفينا أحياناً، إلاّ أنه ليس بالأمر الجديد، ولكنها إثارات القرن التاسع عشر في العالم الغربي والتي تجد الآن امتدادات لها بهدف أن تسحق الحضارة الغربية كل ما يعترض سبيلها من شتى الثقافات والحضارات وكافة المبادئ والأسس المدنية وجميع العلاقات الإنسانية والاجتماعية وسواها مما ترفضه هذه الحضارة، فترسخ حاكميتها المطلقة أبد الدهر معززةً بضمانة القوة المادية والرأسمالية من ناحية، والسلطة العسكرية والسياسية من ناحية أخري، والسيطرة الاعلامية من جهة ثالثة.

لقد شاهدتم لدى سقوط النظام الماركسي في الاتحاد السوفيتي السابق وأوربا الشرقية ـ مع أنه لم يكن قادماً بحضارة جديدة ـ بل كان فكراً ذيلياً للحضارة الغربية بما لها من قواعد وأسس مادية، سوى ما كانت تلاقيه من معارضة من قبل الجهاز الرأسمالي الغربي والقائمين على أمر الحضارة الغربية ـ فإنهم تقدموا مباشرة بمشروع النظام العالمي الجديد وسلطة القطب الواحد، أي أن الحضارة الغربية اليوم فقدت تآلفها وانسجامها ووحدتها وفاعليتها حتى بين ذويها ومدّعيها، وباتت فارغة من مصداقيتها اللازمة. وأما تلك المنطقة التي أحرزت تقدماً مادياً أكثر من غيرها، فإنها تطمح في السيطرة المتزايدة، والاستيلاء التام والشامل على من سواها وتجاهل ما عداها، طبقاً لما تقتضيه طبيعة الحضارة المادية.

إن كل ما يدور من حديث في الغرب ـ كما تلاحظون في هذه الأيام ـ ينصبّ برمّته حول المشروع الغربي في الألفية الثانية! فهل كانت الحضارة الغربية سائدة طوال الألفية الأولى حتى تلحقوا بها الألفية الثانية؟! وهل يشعر العالم بالرضا إزاء هذين القرنين أو الثلاثة الماضية من سيطرة الحضارة المادية الغربية؟! وهل تمكنت الحضارة المادية الغربية من تضميد الجراح التي عانت منها البشرية في الماضي؟! وهل زال الفقر من العالم؟ وهل انتهت المجاعات في المعمورة؟ وهل تم التغلب على الظلم والتفرقة؟ وهل تشعر البشرية براحة البال؟ وهل ساد الرفق والصفاء بين بني الإنسان؟ أو أنه العكس تماماً! فالحضارة المادية الغربية في عصر الاستعمار ومن بعده في مرحلة الاستثمار ـ عندما لم تكن سيطرة الحكومات الغربية سيطرة مباشرة كما في مرحلة الاستعمار، بل انهمكت في استغلال طاقات البلدان المتخلّفة والفقيرة وثرواتها واستخدمت سيطرتها الخفية في الاستيلاء على كافة قواها ومواردها حتى تُشبع نزواتها الذاتية وتتخم جيوب أصحاب رؤوس الأموال وأرباب الشركات ـ، ثم في مرحلة وسائل الإعلام وعصر الاتصالات ـ أي في هذا العصر ـ حيث نزلت إلى الساحة في هذه المراحل الثلاث بكل ما تتمتع به من تجبر وغطرسة واستكبار في قمع وحشي ومتواصل للأطراف الأخري، وذلك في الوقت الذي مازالت التفرقة سائدة في أرفع مراكزها ومؤسساتها، فضلاً عن التمييز العنصري، بالإضافة إلى الفاشية! ومع كل هذا التاريخ الأسود، وكافة هذه المعضلات، وجميع هذه المشاكل فإن الحضارة المادية الغربية تزعم لنفسها الخلود! وهو ادعاء واهٍ ومزيف وفاشل.

 

تجلّي الحضارة الإسلامية بصورتها الكاملة في عصر الظهور

نعم، إن الحضارة الإسلامية، وبلا شك، بإمكانها النزول إلى الميدان بنفس تلك الوسائل التي استخدمتها الحضارات التاريخية الكبرى والسيطرة على منطقة ـ كبيرة كانت أم صغيرة ـ وإنزال بركاتها أو صدماتها على هؤلاء، وباستطاعتها أن تخوض هذه التجربة المعقدة والطويلة والشاقة وبلوغ تلك الذروة. ولا مراء في أن الحضارة الإسلامية سوف تتجلى بصورتها الكاملة في عصر ظهور بقية الله (أرواحنا فداه)، ذلك العصر الذي سوف تتحقق فيه الحضارة الإسلامية الأصيلة ويظهر فيه العالم الإسلامي الحقيقي. إن البعض يتصورون أن عصر ظهور بقية الله سيكون في آخر الزمان ونهاية العالم! ولكنني أقول بأن عصر ظهور بقية الله هو بداية العالم والخطوة الأولى في حركة الإنسان على الصراط الإلهي المستقيم، سواء أكان ذلك مع القليل من العقبات أو بدونها، وبسرعة قصوي، وبتوفير كافة الامكانيات من أجل هذه الحركة. ولو افترضنا أن الصراط الإلهي المستقيم يشبه طريقاً واسعاً ومستقيماً وممهداً، حيث جاء كافة الأنبياء خلال القرون الطويلة الماضية لينقذوا البشرية من سبل الضلال ويرشدونها إلى هذا الطريق القويم، فلابد وأن حركة الإنسان ستبلغ ذروتها لدى بلوغ هذا الطريق، ولسوف تغدو حركة عامة وشاملة يحالفها التوفيق بلا أدنى خسائر أو مع الضئيل منها. إن عصر الظهور هو ذلك العصر الذي تستطيع البشرية أن تتنفس فيه الصعداء، وتتنكب الطريق الإلهي، وتتمتع بكافة الطاقات الكامنة في عالم الطبيعة وفي وجود الإنسان على نطاق واسع. إن الإمكانات البشرية لا تُستخدم بالصورة الصحيحة الآن، فتضيع الطاقات وتذهب سدي، وكذلك هي الطاقات الطبيعية؛ إن كافة هذه الظواهر التي تشاهدونها في التلوث البيئي مردّها جميعاً إلى سوء استخدام الإمكانات الطبيعية. وإن البشرية تغذّ السير في هذا الطريق بينما هو خاطئ وغير فريد. إن الإنسانية غافلة عن طريق العلم وسواه من الطرق القويمة التي تستطيع السير عليها في ظل النظام الإلهي؛ ولا أود الآن الخوض في هذا الموضوع، حيث يتطلب ذلك المجال الأوسع. وعلى أية حال فإن بلوغ الحضارة الإسلامية هو النهج الذي يتمسك به النظام الإسلامي.

 

حتمية زوال الحضارة الغربية

إن الانحرافات هي السبب في اضمحلال الحضارات؛ فعندما تبلغ الحضارات ذروتها فإنها تؤول للانحطاط جراء نقاط الضعف والفراغات والانحرافات؛ وهو ما نشاهده اليوم في الحضارة الغربية التي تقوم على علم بلا أخلاق، وماديات بلا معنويات ولا دين، وسلطة بلا عدالة. ففي فلسطين المحتلة، وحيث يحولون دون الفلسطينيين من العيش في بلادهم أو الحياة بيسر وكرامة في وطنهم، وعندما يضطر أحد المواطنين الفلسطينيين للقيام بحركة أو إلحاق ضرر بأحد الصهاينة الأجانب الغرباء الغاصبين، فإنهم يعبّئون كل وسائلهم الإعلامية في الغرب من أجل إبراز هذا الحدث..! ولو حدث أن قُتل أحد الصهاينة فإنهم ينشرون صورة أبيه وأمه وابنه وأخته، ويعبرون عن بكائهم وحزنهم في المجلات الأمريكية وسواها من الصحف العالمية! ولكن عندما يُقتل صبي أو شاب فلسطيني وهو في أحضان والده وعلى مرأى منه في فلسطين، وعندما يطلقون الرصاص على النساء والرجال والأطفال والمسلمين والمصلين في المسجد الأقصي، فإن الأمر لا يقابل إلا بالصمت أو التعتيم! ففي اليوم الأول من هذه الحادثة اتصلت أجهزة الاتصالات في الجمهورية الإسلامية بأوربا حتى تقف على ما هنالك من أخبار، وإذا بالجواب يأتي بأنه لا وجود لأي خبر هنا! أي أن حدثاً مفجعاً من هذا النوع يظل طيّ الكتمان في أوربا وفي مناطق سيطرة الحضارة الغربية في اليومين الأول والثاني دون أن تتطرق إليه وسائل الإعلام هناك! ويظل الأمر كذلك حتى تتصاعد التظاهرات تدريجياً، وينهض الناس في كل مكان، وترتفع أصوات الاحتجاجات، وعندئذ ـ فقط ـ تضطر تلك الأجهزة التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وتتشدق بالمعلوماتية إلى تناقل الخبر، وبصورة مقتضبة مشوهة، وبأسلوب منحاز وغير حيادي، وبالشكل الذي يصب في صالح الغاصبين المحتلين وليس في صالح الشعب الفلسطيني المظلوم! هذه كلها من علامات تدهور وانحطاط الحضارة الغربية.

وبالتأكيد فإن ظهور الحضارات أو أفولها لا يأتي طفرة، بل إنه أمر تدريجي وتاريخي، ولكن هذه هي إمارات الاضمحلال. لقد توصل العديد من المفكرين الغربيين إلى هذه الحقيقة اليوم، وها هم يشيرون ويحذرون من العواقب. ولهذا فإنه لا داعي إلى الدهشة والتعجب فيما إذا ومض ضوء في مكان ما من العالم، كما ظهرت كافة الحضارات التاريخية، أو فيما إذا ظهر فكر جديد أو مشروع جديد للبشرية يقوم على أساسه نظام سياسي في إحدى جهات المعمورة فيجتمع عليه شعب من الشعوب، ويقوم بدعمه وترسيخه، ويعمل في إطار الشروط الضرورية التي سوف أوضحها، ويستعيد خواص وصفوة ونخبة المجتمع فرصتهم وأدوارهم ويعملون طبقاً لها؛ وحينئذ لا يكون من المستبعد أن تزدهر هذه الحضارة كبقية الحضارات وتسطع كالشمس المتألقة في كبد السماء وتمنح أشعتها ونورها لكافة أرجاء العالم، بل إنه لأمر حتمي.

 

مستقبل حتمي للنظام الإسلامي

وعلى هذا الأساس فإن النظام الإسلامي هو نظام قد رسم لنفسه نهجاً معقولاً ومنطقياً للتحرك. إن هذه مسيرة لا يمكن لها التوقف أو النكوص، وإنها حركة تكاملية بما تتمتع به من مراحل مختلفة تضمن لها الاستمرار والخلود. لقد تولدت هذه الحركة مع بداية الثورة الإسلامية، وسطع هذا الوميض في هذه النقطة من العالم، فأدهش الألباب، ثم نجح في تشكيل وتحقيق النظام الإسلامي الذي أخذ بزمام الحركة وسار بها قدماً إلى الأمام رغم ما يعترض طريقه من تحديات وعقبات وقلة الإمكانيات. إن هذا النهج لو تواصل بجد وعزم ومساندة ومعرفة بالثوابت الضرورية وعمل بكل ما هو تكليف فإن النتيجة الحتمية ستكون ازدهار الحضارة الإسلامية من جديد واستعادة رقعتها الواسعة في العالم. ولا يعني هذا بالضرورة أن يتوسع النظام السياسي الإسلامي في بلدان العالم الأخرى قبل عصر الظهور، كلا، بل إنه يعني ظهور حضارة تقوم على أساس فكر جديد، ومنطق جديد، وتنظر نظرة جديدة إلى قضايا البشر وحياة الإنسان، وتجد علاجاً لآلام البشرية، وتتحدث بلغة جديدة تفهمها الأجيال الحديثة وطبقات العالم المحرومة، وتحمل رسالة للقلوب والأفئدة، مما يمهد لها الانتشار تدريجياً في أوساط المجتمع الإنساني، وهذا شيء يمكن حدوثه. وطبقاً لما أراه اليوم في بلدنا، وما ألمسه من عمق للفكر الإسلامي لدينا، وانطلاقاً من هذه الحركة الواسعة والعظيمة التي أخذت في تعميق هذا الفكر منذ بداية الثورة والتي حققت الكثير من الانجازات حتى اليوم، فإنه يبدو لي أن هذا المستقبل هو مستقبل حتمي وأكيد بالنسبة للنظام الإسلامي.

 

ثانياً: موقع علماء الدين في هذه الحركة

وأما الموضوع الثاني فهو: من هم أصحاب الدور الرئيس في هذه الساحة؟ إننا نود أن نعرف ما هو موقع علماء الدين في هذه الحركة، ونريد أن نعرف لماذا وفيمَ ادّخرتم شبابكم أنتم أيها الطلاب الشباب الذين تدرسون في هذه الحوزة، وأين تريدون استثماره؟ ومن هم أصحاب الدور الرئيسي في هذا المضمار؟

تحقيق الحضارة الإسلامية حركة تدريجية

أولاً لابد لنا وأن نعلم بأن هذه الحركة العظيمة للنظام الإسلامي والمنطلقة نحو هذا المستقبل المنشود ـ أي تحقيق الحضارة الإسلامية؛ تلك الحضارة التي يتواكب فيها العلم مع الأخلاق، وتتحقق فيها المنافع المادية جنباً إلى جنب مع المصالح المعنوية والدينية، وتسود فيها السلطة السياسية إلى جانب العدالة ـ هي حركة تدريجية.

إنه لأمر مثير طبعاً، ولكن على كل منا أن يعرف ما هو بصدده. إن كل خطوة يخطوها تمثل له حدثاً مثيراً، بيد أنه لا ينبغي الخلط بين هذا العمل التاريخي العظيم الذي يتعلق بأجيال وقرون متواصلة وبين الأعمال الجزئية والشعارية والتي تأتي طفرة. إن هذا عمل يحتاج إنجازه إلى أن يكون خطوة خطوة، على أن تكون كل خطوة أشد رسوخاً من سابقتها، مع فهم دقيق لكل خطوة نخطوها، ونظرة ثاقبة تقدمية فيما يخص المسيرة التي نتحرك في إطارها.

 

عنصران أساسيان لتحقيق الحضارة الإسلامية

إنه لابد من توفر عنصرين أساسيين لتحقيق حضارة إسلامية ـ كما هو الأمر بالنسبة لسائر الحضارات ـ وهما: إبداع الفكر، وتربية الإنسان. فالفكر الإسلامي هو بمثابة بحر عميق ومحيط زاخر، وكل من وقف على شاطئ المحيط لا يستطيع الادعاء بأنه قد خبر هذا المحيط. كما أنه ليس بوسع كل من سبح لعدة أمتار بالقرب من الشاطئ أن يزعم بأنه قد بات عارفاً بهذا المحيط؛ فالغوص في هذا المحيط المتلاطم وبلوغ أعماقه وسبر أغواره ـ كما يستفاد من الكتاب والسنة ـ هو عمل ينبغي على الجميع القيام به، وهو أمر لابد من الاتيان به على طول الزمان. إن الانتاج الفكري في كل زمان بما يتناسب مع متطلبات ذلك الزمان هو أمر ممكن بالاغتراف من هذا المحيط المعرفي الهائل. إن كلام المرحوم الشهيد المطهري كان يبدو غريباً بالنسبة للبعض في يوم ما؛ لقد كان كلامه كلام الدين، وكلام القرآن، وكان كلاماً إسلامياً، ومع ذلك فإن الكثيرين من المعنيين بالدين والقرآن والإسلام كانوا يعتبرونه كلاماً غريباً! إن هذا ممكن في كل زمان بالنسبة للمفكرين الواعين، والعارفين بالقرآن والحديث وأساليب الاستنباط من القرآن والحديث والواقفين على المعارف الإسلامية وفكر القرآن والحديث والسنة الإسلامية، بحيث إنهم لو كانوا مدركين لمتطلبات العصر لكان بوسعهم تلبية هذه المتطلبات ومعرفة ما تريده البشرية واستخراج لغة العصر من المعارف الإسلامية. إن هناك الجديد دائماً مما يقال، وإن الابداع والانتاج الفكري يعتبر نبراساً هادياً على طريق البشرية.

 

العلماء هم أصحاب الدور الخلاّق في هذه الحركة

والعنصر الثاني هو تربية الإنسان؛ فانظروا من هم أصحاب الدور الخلاّق، حيث يجب إبداع الفكر وصناعة الإنسان. إن أصحاب الدور الخلاّق هم أولئك الذين ينبغي عليهم أن يعرفوا كيفية ترشيد الأفكار، وهذا هو أحد أبعاد القضية. ولأنه لا يمكن السير على هذا السبيل إلا بالإيمان وطاقة الإيمان والمحبة، فلابد من وجود أولئك الذين يستطيعون تربية الروح الإيمانية في الإنسان. ولاريب أن مدراء المجتمع هم من أصحاب الدور، وكذلك هم السياسيون والمفكرون والمثقفون، وأيضاً فإن أبناء الشعب يستطيع كل منهم على نحو ما أن يجعل لنفسه دوراً، إلاّ أن دور علماء الدين ودور أولئك الذين يستخدمون الأسلوب الديني في سبيل تنمية إيمان الجماهير هو دور فريد وبلا نظير. إن مدراء المجتمع في حاجة أيضاً لعلماء الدين من أجل أن يكون دورهم دوراً سليماً، وكذلك هم السياسيون والعاملون بالحقل السياسي، علاوة على البيئات العلمية والثقافية المختلفة. فمن الممكن ان يومض ضوء كلمات عالم دين زاهد وعارف بزمانه فيكون سبباً في انجلاء الظلمات عن الأفئدة، وكثيراً ما حدث ذلك. وإن دوراً من هذا النوع لهو دور فريد. إننا لا نحصر الدور بعلماء الدين، ولكننا نراه لدى علماء الدين أبرز منه لدى الفئات الأخري. ولهذا فمن الواضح أن الفكر والإيمان الديني والابداع الفكري كلها من الأمور الضرورية واللازمة للإنسان لاجتياز هذا الطريق، وهو ما لا يتحقق إلا بوجود علماء الدين في الساحة. ومن الطبيعي فلابد أن تتوفر في عالم الدين الشروط اللازمة للقيام بهذا الدور، وهي شروط سوف أوضحها في نهاية هذا الحديث. وبالتأكيد فإن من بين أفراد الشعب من يقوم بدور ديني، وذلك عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستعداد لأن يكون في موقع يمكّنه من أداء دوره.

 

الشروط اللازمة للقيام بهذا الدور

إن الأوساط الحوزوية وعلماء الدين بوسعهم أن يكونوا أصحاب دور فريد فيما لو شبّوا وترعرعوا في بيئة تربوية سليمة وارتقوا المدارج اللازمة، وهو ما جعل من إمامنا العظيم الراحل نموذجاً لعلماء الدين؛ فلولا وجود الإمام بحماسه المتوقد ومنطقه السديد وثباته وصموده على هذا الطريق، ولو لم يستطع أن يجمع حوله كل هذا الحشد الغفير من علماء الدين، لما قام الشعب الإيراني بهذا التحرك العظيم بالتأكيد. إنه لم يكن بمقدور أي حزب سياسي او أحد رجالات السياسة أو الجامعات أو أية شخصية اجتماعية مرموقة ومحبوبة بثّ الروح الحيوية في جماهير الشعب الإيراني العظيم ودفعها للخروج إلى الشوارع، إلاّ علماء الدين بقيادة الإمام العظيم بكل ما له من خصوصيات متفردة والتي لولاها لما كان هذا الانجاز أمراً يسيراً. فهذا هـو دور عالم الدين الذي يتمتع بالشروط اللازمة والذي يظهر في الوقت المناسب، فيغدو صاحب دور عظيم يحفظه له التاريخ.

إن على طالب الحوزة العلمية الذي يدرس العلوم الدينية ويطبق برامج الحوزة أن يصبو للقيام بدور خلاق في هذه الحركة الشعبية العظيمة، ولا يجب بالضرورة أن يكون هذا الدور على غرار دور الإمام، بل إن هناك العديد من الأدوار التوعوية والارشادية ممّا يقوم به الأنبياء، إذ إن صناعة الإنسان القويم والمؤمن تعتبر من الأهمية بمكان بحيث لو أنفق عالم الدين كل عمره وسعيه في سبيل تحقيقها لكان قد قام بإنجاز عظيم.

إن على طلاب وفضلاء الحوزات العلمية أن يقوموا بدور بنّاء في هذه الحركة الجماهيرية الواسعة وذلك الخط المستقيم الذي ينتهجه النظام الإلهي والإسلامي بعظمة وتألق، وأن يضفوا على هذا التحرك ما ينبغي له من حتمية ويسر في انطلاقته الرائدة. إن ثمة تحديات جسام تواجه النظام الإسلامي، فلو لم نكتشف هذه التحديات ـ الموجود منها والمتوقع ـ فلن يمكن القيام بالدور على ما ينبغي، ولن يمكن فهم الواقع ومواجهته. إذاً فالقضية التالية هي معرفة معضلات وتحديات النظام الراهنة.

إن الشرط الأول الذي يجب توفره فيمن يريد السير على هذا الطريق هو معرفة الكمائن والموانع التي ينبغي مواجهتها والاستعداد لاجتيازها، حيث إن «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». والعالم بالزمان ليس هو الشخص الذي تربطه علاقات حميمة بعدد من الناس فحسب، ولا الذي تطرق سمعه أخبار من هنا وهناك، بل هو الذي يعرف أين يعيش من هذا العالم، وما هي صفوف المعارضة القائمة أمامه، وما هي أسباب هذه المعارضة وأهدافها، وما هي خطة المناوئين لبلوغ هذه الأهداف؛ فهذا هو العالم بالزمان. وبالتأكيد فإن هذا العداء وهذه المناوأة ليست أمراً شخصياً، فليعرف أين هي، وما هي الحواجز التي تعترض نظامه وتعوق طريقه وتحول بينه وبين الوصول إلى أهدافه.

إنني أقول لكم بأن العقبات والمشاكل والكمائن الماثلة على طريق أي مجتمع أو نظام أو مجموعة لا تمثل طريقاً مسدوداً رغم ما فيها من أذى ومضايقات. ويمكن القول ـ من زاوية ـ بأن المشاكل تعدّ من النعم لأنها سبيل التطور. إن الشعوب لا يمكنها بلوغ طموحاتها دون معالجة ما يعنّ على طريقها من حواجز وعقبات؛ فلو لم يخض الشعب الإيراني غمار حرب امتدت على طوال ثماني سنوات، برغم ما تكبده من خسائر وأضرار فادحة، لما حقق لنفسه هذه الثقة بالنفس وهذا الازدهار العلمي والعسكري والصناعي وهذه العزة الماثلة أمام أنظار العالم، ولما جفّت آمال التسلط على هذا الشعب في قلوب الأعداء الألدّاء وأصابهم اليأس، ولاسيما العقلاء منهم؛ حيث إن غير العقلاء مازالوا يعيشون هذا الأمل! ولهذا فإن المشاكل هي هكذا دائماً، وعلى كل شعب أو مجتمع إنساني أن يتخطى هذه الموانع إذا أراد الانطلاق على سبيل الصلاح والفلاح وطريق بلوغ الأهداف المنشودة.

إن لكل مجموعة أو بلد أو مجتمع مشاكله الخاصة في كل زمان، وثمة علاقة بين أهداف كل شعب وما يعترض طريقه من عقبات ومعضلات لابد له من التغلّب عليها؛ فكلما كانت الأهداف رفيعة وسامية كانت المشاكل بالقدر المتناسب مع هذه الأهداف، وكلما كانت هناك أصولية في الأهداف اعترضتها الأزمات وواجهتها المعارضات بصورة طبيعية، ولهذا فثمة صلة مباشرة.

 

ثالثاً: التحديات التي تواجهها النظام الإسلامي

والآن، ما هي العقبات التي تعترض طريق النظام الإسلامي، وما هي هذه التحديات؟

إنه لا يمكن لنا أن نقارن عصرنا هذا بعصر صدر الإسلام ونبي الإسلام الأكرم (ص)؛ فمع أن هناك بعض وجوه الشبه، إلا أن ثمة أيضاً بعض وجوه الاختلاف؛ ففي صدر الإسلام كانت المواجهة الأساس خلال عشر سنوات من حياة الرسول (ص) مع جبهات ثلاث هي: جبهة المنافقين في الداخل، وجبهة أهل الكتاب واليهود ـ الذين كان لهم وضع خاص في المدينة وفي ظل حكومة النبي ـ، وجبهة الكفار والمشركين. فهذه هي الجبهات الثلاث الرئيسية التي تعرفون ما مارسته من تحديات كما ورد في آيات القرآن الكريم ولاسيما في سورة البقرة المباركة؛ فالمواجهة مع اليهود لم تكن كالمواجهة والعداء مع كفار قريش، حيث إن اليهود كان لهم ماضٍ، وتاريخ، ومفاخر، وكتاب، ممّا خوّل لهم سلطة على الأميين والجاهلين بالمعارف الإلهية من نوع تلك السلطة التي تفرضها مجموعة مثقفة على مجتمع أمّي. ولذا فقد كان النبي الأكرم (ص) يضع أصابعه على المواضع الحساسة في مواجهته مع هؤلاء طبقاً لتعاليم الوحي الإلهي. وقد وردت أبعاد هذا التحدي الذي كان بين النبي الأكرم وبين اليهود ـ وكذلك المنافقين ـ بشكل تفصيلي في سورة البقرة.

إنه لا يمكن لنا اليوم أن نقول بأننا نواجه مجموعات من هذا القبيل فقط، ولكن أمامنا مجالات للمواجهة والمجابهة بما يتناسب مع وضعنا نحن ووضع نظامنا، وليس المقصود هنا هو المعارضة السياسية بالتأكيد، ولا نريد القول بأن الذين سوف نعددهم الآن هم معارضون سياسيون للنظام أو أنهم يكافحون النظام، كلا، بل إنها مجالات للمكافحة، وإنها تحديات يواجهها النظام الإسلامي بصورة طبيعية.

إن ثمة من يعارضون الدين في الأساس، ولهذا فإنهم يرفضون نظاماً قائماً على أساس السياسة الدينية، لأنهم يرفضون أصل الدين في قرارة أنفسهم. وثمة من يعارضون السياسة الدينية، وهم يعتبرون الدين مجرد طقوس خاصة يمارسها الإنسان في باطنه وفي خلواته، ولا يعتبرون الدين مناسباً للحكومة، وللسياسة، ولإدارة شؤون الناس، لأنهم يرفضون أصل الدين. فأيّ دين هذا؟! إنني لا أدري؟!

لقد أطلق النبي الأكرم (ص) شعارات منذ بداية حركته وفي عصر البعثة كانت تستعصي على الفهم والادراك إلاّ بهجرته إلى المدينة وإقامة النظام الإسلامي. إن ذلك التوحيد الذي يدعو له رسول الإسلام، والذي يشجب التفرقة الاجتماعية، ويثير الغلمان والعبيد المظلومين ضد ساداتهم، والذي يجعل الشباب الواعي والمستنير يثور ضد ممارسات الآباء السيئة والخاطئة والمنحرفة، ليس توحيداً فردياً وقلبياً وباطنياً وانعزالياً، بل إنه التوحيد الذي لابد من رفع لوائه، والذي يعيش المجتمع بفضل أسسه ومبادئه، أي عصر المدينة والهجرة. ولقد أقام الرسول (ص) الحكومة الإسلامية منذ بداية الهجرة. ولا أدري أن ذلك الذي يؤمن بدين محمد بن عبد الله (ص) ولكنه لا يؤمن بهجرته وحكومته وولايته وسلطته، كيف يستطيع إقناع نفسه بذلك؟! وعلى أية حال فإن ثمة مجموعة لا تستطيع أن تقبل بالسياسة الدينية، ولا بالدين السياسي.

وهناك مجموعة أخرى مصابة بالنفاق الديني؛ أي أنها تعتقد بضرورة الدين اسماً وعنواناً، ولكنها ترفض حقيقته وكنهه! وهؤلاء لا يستطيعون التنازل والقبول بسهولة عندما يبرز الدين في المجتمع بواقعيته وحضوره واقتداره ويقيم نظاماً ويرسي أساساً للحكومة. ولقد رأينا أولئك الذين يتحدثون باسم الدين والقرآن ونهج البلاغة، ولكنهم يرفضون المفاهيم الحقيقية للقرآن ونهج البلاغة!

وهناك أيضاً مجموعة ممن يحملون لواء التبعية للثقافة الغربية والمبهورين بالغرب، والذين ينظرون لشعبهم وحضارتهم وتراثهم العلمي وماضيهم نظرة ضعة واحتقار؛ لقد سحقوا تاريخهم حتى يستطيعوا معرفة الثقافة الغربية المستوردة وتلك الاصطلاحات والمفاهيم والمناهج التي تطرحها تلك الثقافة وتلك الحضارة، والتقرب منها! ولقد كان هناك من قالوا بأنه لابد لنا وأن نكون غربيين من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين! وهم أولئك الذين سببوا التخلف لهذا البلد مقدار مائة عام، والذين كلما أمعنّا النظر اليوم في ممارساتهم وأخطائهم وتقصيراتهم هم وحكامهم والموالين لهم في الحقبة الماضية اتّضحت أمامنا أكثر من ذي قبل. إنهم أولئك الذين كانوا يعتقدون بأنه لا خير في إيران والإيرانيين إلاّ أن يغيروا تماماً من ماهيتهم وأخلاقياتهم وسلوكهم وتصرفاتهم وملابسهم ولغتهم وكتابتهم وكل ما لديهم ويصبحوا كالشعوب الغربية! وهذه مقارنة في غاية السذاجة والحماقة! فلأن ذلك الشعب يعدّ متقدماً من الناحية التقنية، إذاً فمن الممكن الأخذ بكل ما عنده، وإذا كنّا نطمح في بلوغ هذه المكانة العلمية فلابد لنا أن نقلد ذلك الشعب ونعيش مثله في أخلاقه وسلوكه وعقائده وعاداته وتقاليده! وفي الحقيقة فإن المرء ليعجب كيف يمكن لإنسان يدّعي الثقافة والتنور أن يفكر هكذا بسذاجة وضيق أفق! فهذه مجموعة أخرى أيضاً كانت ولازالت.

وهناك مجموعة من عشاق السلطة والمتعطشين للقوة، ولا شأن لهم بالدين أو الأخلاق أو العقيدة أو الله ومثل هذه الأمور؛ فالذي يهمهم بالدرجة الأولى هو الأخذ بزمام السلطة وهم المتعطشون لها، وهؤلاء يمثلون أيضاً تحدياً أمام النظام الإسلامي.

وهناك مجموعة ممّن لا يستطيعون استيعاب المفاهيم الإسلامية على النحو الصحيح.

هذه هي مجالات التحدي أمام النظام الإسلامي.

ومن الطبيعي فليس كل من ذكرناهم يعتبرون بالضرورة معارضين للنظام الإسلامي، كلا، فمن الممكن ألاّ يكونوا من المعارضين، غير أن النظام الإسلامي ليس بوسعه أن يغض الطرف عنهم، ولا يمكنه أن يتجاهل وجودهم وفكرهم ومحاولاتهم وأهدافهم ونواياهم ومطامحهم وكل ما يدور بينهم وما يبدر منهم. فمن الحكمة والتدبير للنظام الإسلامي أن يفتح عيونه على هؤلاء وأن يعرفهم وأن يسعى لمعالجتهم؛ ولا نعني بالمعالجة استخدام القوة والقمع. فلا ينبغي التصور أن المقصود هو استخدام القوة كلّما يقال بأنه يجب معالجة هذا الفكر أو ذلك الشيء، لأن القوة هي سلاح من لا منطق له. وإن كل من يتمتع بالمنطق بإمكانه التوسّل بحرية الاستدلال والمنطق بالصورة التي تعجز عنها كل حرية أخرى وكل قوة مادية؛ ولهذا فإنه لا حاجة إلى القوة.

 

آفات في طريق النظام الإسلامي

فما هي المجالات الموجودة داخل النظام الإسلامي، وبين مسؤولي الحكومة، وشخصيات وقادة النظام، والمؤثرين في الوسط الحكومي والشعب من أجل شقّ هذه الصفوف المختلفة، وكل من يريد أن يشق صفوف النظام؟

لقد دوّنت بعض النماذج: فمن ذلك التحجر؛ إن عدم النظر إلى الأمور نظرة جديدة، وتجاهل حركة التاريخ وتطور الفكر الإنساني، والتنكّر للسموّ والارتقاء الفكري والسبل الحياتية، يعتبر تحجراً. إن كل علم تشاهدونه بما فيه من رفعة وتقدم هو صيحة ضد التحجر؛ فلو كان من المقرر أن نتوقف مؤكدين على كل ما اعتدناه ومتصورين أن ذلك شيء جيد، لما تطورت أصولنا، ولما قطع فقهنا منذ ألف عام وحتى الآن كل هذا الشوط من التطور والتقدم، وهكذا هي الحياة بكافة أبعادها؛ فالتحجر آفة من أخطر الآفات.

وإلى جانب التحجر، هناك التساهل الفكري والعملي؛ فالتساهل والتسيب، سواء في الفكر ـ أي أن ينجذب الإنسان نحو كل ما يطرح في الساحة من فكر وينبهر به دون روية وتقويم ونقد وفهم دقيق مع ما في الأمر من حساسية ـ أو في العمل؛ أي الجانب المقابل للتقوي، والتقوى هي نقيض التساهل؛ والتقوى تعني الدقة والمراقبة والمواظبة خشية أن يبدر من الإنسان عمل يتجاهل الموازين، سواء كان ذلك في القول أو الفعل، وسواء كان ذلك العمل من الجوارح أو الجوانح؛ فهذه هي التقوي. وأما التساهل والتسيب فهو نقيض ذلك. فيا لها من مصيبة أن يكون ذلك التساهل في مجال الفكر، أو العلم، أو في أي مجال آخر ! فحيثما كان التساهل والتسيب ـ والذي يستتبعه التساهل في القبول والفعل والفهم ـ فإن العواقب سوف تكون وخيمة.

إن التقليد الأعمي، وخصوصاً للغرب، هو أيضاً إحدى الآفات. ولأن الحضارة الغربية على قدر من التقدم التقني المبهر، فإنهم يقلدونها في كل ما تصدره من فلسفة وأخلاق ونظريات مختلفة.

كما أن التعيّش هو الآخر إحدى الآفات الخطيرة؛ فالتطلع نحو المنصب والمسؤولية والمنزلة الاجتماعية، وحتى نحو العلم بصفته وسيلة للتكسّب والتعيش، هو أيضاً إحدى الآفات. كما أن الانتهازية وحب الراحة والطباع السيئة والشريرة هي كلها من الآفات. فهذه المجالات من نفسية وأخلاقية وسلوكية تمثل مظاهر المعارضة ومجالات التحدي أمام النظام الإسلامي؛ وهي نابعة من داخلنا نحن.

 

وجود العدو الخارجي

وأما من ناحية ثالثة فهناك العدو الخارجي؛ إن خطة العدو الخارجي هي استخدام كل هذه الإمكانات وتكريسها لمواجهة النظام في الداخل. إنني كلما حذرت في حديثي من مؤامرات الأعداء، فإن البعض يستاؤون ويقولون لماذا تتحدث عن العدو الخارجي دون الاشارة لقضايانا ومشاكلنا الداخلية؟! فلابد إذاً من التوضيح. إن العدو الخارجي إذا لم يضع نصب عينيه مشاكلنا ومعضلاتنا ونقاط ضعفنا في الداخل لما كان بوسعه السيطرة والنفوذ، وهذا شيء واضح وبديهي قد أشرنا إليه مراراً. إن نجاح العدو الخارجي، يأتي في الأساس عند وجود نقاط ضعف وفراغ في الصفوف الداخلية للنظام؛ أي داخل البلد وفي أوساط المجتمع، وهو ما لاشك فيه، غير أنه لا يمكن تجاهل هذا العدو الخارجي لأنه يستغل كافة نقاط الضعف هذه بقدر ما يستطيع. إن أحداً لن يطري مجتمعاً وإنساناً والأكبر منهما مسؤولاً فيما لو تجاهل العدو الخارجي وتعامى عن خططه ومساعيه، وتناسى استغلال هذا العدو لنقاط الضعف من أجل النفوذ والتغلغل في الداخل. نعم، إن العدو الخارجي هو حقيقة لا مراء فيها، غير أنه يستغل نقاط الضعف لدينا. وإن العدو الخارجي ستخيب آماله إذا ما استطعنا واستطاع النظام الإسلامي التغلب على نقاط الضعف في الداخل، ولكن عندما يشنّ العدو الخارجي هجوماً فلابد من المواجهة العاجلة والسريعة. ولنفرض أن العدو هاجم حدودنا ـ كما هو شأن الحرب العسكرية ـ فإن واجبنا الأول هو أن نهبّ لمواجهته وصد هذا الهجوم. ولا مجال هنا لأن نجلس ونقول: ترى لماذا قام هذا العدو بمهاجمة حدودنا، ولربما قمنا بما أغضبه وأثاره علينا، أو لعلنا انتهكنا بعض المجالات مما أثار حنقه علينا؟! لأن الوقت ليس وقت مناقشة هذه الأمور. فكيفما كان السبب، وأيّاً كانت نقطة الضعف، فلابد لنا أولاً أن نصد الهجوم، ثم نأتي بعد ذلك لمناقشة الوضع وبحث هذه القضايا.

والواقع أن النظام الإسلامي يتعرض اليوم لحقد وضغينة وعداء مراكز السيطرة العالمية في الساحة الدولية. ولاشك أن النظام الإسلامي نظام قوي وراسخ ممّا جعلهم عاجزين عن توجيه ضربة مؤثرة له، ولو لم يكن الأمر كذلك لما توانوا عن ضربه لحظة واحدة. إن هذا النظام يتميز بخصوصيات لو توفرت في أي نظام آخر لجعلته راسخاً وقوياً؛ فهذا النظام نظام شعبي، ونظام إيماني، ونظام نابع من إرادة وإيمان الجماهير. وإن مسؤولي هذا النظام ليسوا من أولئك الطامعين في ملء جيوبهم وتحقيق الربح المادي؛ إن المسؤولين رفيعي المستوى في هذا النظام نزلوا إلى هذه الساحة بنوايا طيبة وإنهم يبذلون الكثير من الجهد والمساعي، وهو ما ليس بالقليل؛ وما مردّ اللطف والعناية الإلهية إلاّ لهذه الصفات؛ فعندما يصمد أحد الشعوب، ويتحمل المصاعب في سبيل الله، ويخلص مسؤولوه النية لله تعالي، فإن الله ينزل نصره، وهذه أمور لا يمكن مواجهتها ومكافحتها، وإلاّ فإن مطامع الأعداء كثيرة، وهو ما لا يمكن تجاهله.

والآن فإن الحوزات العلمية، وفي مقدمتها حوزة قم، ومن ثم حوزات المحافظات ـ كبيرها وصغيرها ـ تقف وجهاً لوجه أمام مثل هذه التحديات.

إنكم أنتم ـ أي الحوزات الدينية والعلمية ـ الذين تريدون النهوض بصرح الحضارة الإسلامية الشامخ وإضاءة مشعل الهداية الإسلامية في منارة النظام الإسلامي السامقة، والقيام بما قام به كافة الأنبياء والمرسلين، وإرشاد البشرية إلى الصراط الإلهي المستقيم والسبيل الرباني الأصيل، والاقتراب بهم من هذا السبيل الأعظم والصراط الأقوم؛ فالحوزة تواجه هذه التحديات، وتتحرك بهذا الهدف. فانظروا كيف يجب أن تكون الحوزة العلمية، وماذا يجب عليها عمله، وما هي واجباتها.

وحتى إذا لم أقل شيئاً حول ما أتصوره ضرورياً للحوزات العلمية، فإن هذا الوضع الحساس الذي أشرنا إليه، وهذا الهدف الرفيع المتوخّي، وهذه العقبات والتحديات التي أوضحناها والتي تعترض سبيل النظام الإسلامي، تقتضي جميعاً أموراً لابد من معرفتها بدقة، ولسوف أتحدث عن ذلك باختصار.

 

رابعاً: واجبات الحوزات العلمية

القسم الرابع من حديثنا يختص بواجبات الحوزات العلمية. إن حوزة قم العلمية تعتبر اليوم حوزة بارزة في الحقيقة، ولقد قلت هنا في صالة الاجتماعات بالمدرسة الفيضية قبل بضعة أعوام بأنه لا يوجد مجمع علمي عريق وعظيم كالحوزة العلمية في قم منذ بداية تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا بالتأكيد؛ فلقد كانت هناك بالطبع حوزات علمية ضمت في أكنافها علماء كباراً في بغداد والحلة والنجف وكربلاء وبلدان أخري، إلاّ أنها لم تكن بهذا الكم الوافر، وهذا التنوع، وكل هؤلاء الأساتذة والطلبة، وكل هذه الحلقات العلمية. كما أن الحوزة العلمية اليوم تختلف أيضاً عن الحوزة العلمية في زمان المرحوم آية الله العظمى البروجردي (رضوان الله تعالى عليه)؛ ففي ذلك الزمان كنّا طلبة في هذه الحوزة وفي المدرسة الفيضية والمدرسة الحجتية، وكانت هناك نقاط بارزة ومشرقة متعددة، إلاّ أنه لا يمكن المقارنة بين ما يوجد في الحوزة الآن من حركة وجهد ووعي وشعور بالمسؤولية علاوة على هذا العدد الضخم من الأساتذة والطلبة وبين ما كان يوجد في الحوزة العلمية حينذاك. ولاشك أن أساتذة كباراً وبارزين كانوا موجودين في هذه الحوزة يومذاك، ولكنّ أشياء توجد في الحوزة الآن لم تكن موجودة في ذلك العهد، ومنها درجة الوعي والمعرفة والتسلّح بوسائل التبليغ المعاصرة. وطبقاً لذلك فإننا نرى أن ثمة واجبات للحوزة. وبالطبع فإنني لن أذكر كافة الواجبات، فلم أستطع استقصاءها، أي لم أرد استقصاءها، فلن أتحدث إلا حول المهم منها كما قدّرت.

 

اعتبار النظام جزءاً من الحوزة العلمية

أول هذه الواجبات هو أن على الحوزة العلمية أن تعتبر هذا النظام ـ أي نظام الجمهورية الإسلامية ـ جزءاً منها، وأن تبذل أقصى جهودها للرقيّ به إلى مدارج الكمال وسد فراغاته. لقد نبع هذا النظام من نفس تلك الحركة والنهضة العظيمة التي تأسست في هذه المدرسة الفيضية والمسجد الأعظم. وإن النظام الديني هو نظام وضعت لبناته على أساس المعارف والأحكام والقيم الدينية؛ فلا يمكن للحوزة ان تقف موقف اللامبالاة من هكذا نظام. ولا توجد أية منفعة أو هدف شخصي أو فئوي أو سياسي يستطيع أن يحول دون مساندة الحوزة للنظام ولا يحق له ذلك. وإن الأنكى من عدم الدعم والمساندة والعمل على التكامل والسعي الحثيث لإصلاح نقاط الضعف لدى النظام هو مدّ يد العون لأعداء النظام! فمّما يؤسف له أن أقذر وأرذل وأحقر أعداء النظام يستمدون الدعم والتأييد من قبل البعض أحياناً! فلماذا؟! وبأيّ سبب ولأيّ دليل؟! ألأنه يوجد نقص ما في النظام؟ وهل ينبغي تأييد أعداء النظام إذا كان يعاني نقصاً ما، أو أنه يجب التغلب على هذا النقص؟! إن ثمة نقاط ضعف بالتأكيد في مسؤولي النظام من أعلاهم إلى أدناهم، وأنا في مقدمتهم، ولاشك أن هناك الكثير من العيوب ونقاط الضعف التي لا تحصي. فلابد إذاً من التغلب على نقاط الضعف هذه وإصلاحها والتعاون على إزالة العيوب. إنه لا يمكن القول بأنه لابد من حكومة إسلامية مائة بالمائة وإلاّ فلا؛ أي أن نكون مثل حكومة الرسول الأكرم وأمير المؤمنين، وإلاّ فمن الأفضل أن تقوم حكومة من الكفار والفسقة والفجار وما إلى ذلك! فهذا ما لا يمكن التفوّه به، وليس من المنطق في شيء. وهذه هي القضية الأولي. إن الحوزة العلمية لا يجدر بها، أن تتعاون مع أعداء النظام مهما كانت الأسباب والذرائع والأهداف، ولاشك أن الحوزات العلمية تقف اليوم خلف النظام كطود عظيم. إن مراجع التقليد العظام والفضلاء الكبار والشخصيات الرفيعة والطلبة والفضلاء الشباب قد ساندوا النظام في وقت الحاجة بكل ما لديهم من قوة وشجاعة في كافة المجالات العلمية والسياسية.

 

إيجاد الصلاحيات اللازمة لمواجهة الأزمات الفكرية

وأما الأمر الثاني الذي اعتبره من واجبات الحوزة العلمية فهو أنه لابد من التعجيل قبل فوات الأوان بإيجاد الصلاحيات اللازمة في أوساط الحوزات من أجل مواجهة الأزمات الفكرية؛ ولعل البعض لا يدرون بما يدور في أذهان جمع من الشباب والمجتمع لأنهم لا يهتمون بذلك. إن هناك اليوم من المراكز ـ في الداخل والخارج ـ من تصب كافة جهودها على محاولة تغييب الشباب عن مباني الإسلام والمفاهيم الإلهية، وذلك عن طريق خلق المشاكل وإثارة الشكوك والريب بكلام لا مضمون له، وإن كان براقاً في مظهره. لا يمكن للحوزة تجاهل هذه النشاطات التي بمقدورها إلقاء الشباب في خضمّ الأزمات الفكرية.

فيوماً ما ـ ومنذ حوالي أربعين عاماً ـ كان الفكر الإلحادي الماركسي يمثل إحدى الأزمات في هذا البلد، سواء في الجامعات أو المحافل والبيئات المختلفة، حتى في إحدى زوايا بعض الحوزات العلمية، كنّا نلمح آثار هذا الفكر! ولم يكن يدري بأصل القضية سوى عدد معدود من الناس؛ فكانوا يكافحون ذلك الفكر، ولم يتحرك الكبار إلاّ بعد أن اتضحت ملامح الخطر! فهل يجب أن نتصرف هكذا؟! وهل نقف مكتوفي الأيدي حتى تظهر الأزمة الفكرية فتفسد عدداً من القلوب والعقول والضمائر المؤمنة ثم نفكر في إيجاد الحلول؟!

إن على الحوزات العلمية أن تكون قادرة على استشراف المستقبل والتنبّؤ بالأزمات الفكرية. وإن الأزمات الفكرية ليست كالأزمات السياسية، حيث إنها تتسلل بهدوء، وتترك بصماتها بالتدريج، ثم تبرز فجأة عندما لا يكون العلاج أمراً يسيراً.

إنني أعلن هنا أن الحوزة العلمية في قم قد حققت تطوراً ملحوظاً والحمد لله على نطاق الفقاهة ـ والتي قلنا مراراً بأنها تمثل الفرع الأساس في حوزاتنا العلمية ـ فلا ينبغي التخلّي أبداً عن رفع لواء الفلسفة الإسلامية، لأنني أشعر بالخطر! إن الفلسفة الإسلامية فلسفة متعالية تماماً؛ وإنما هي التي يمكنها الكشف عن زيف الكثير من الأفكار الفلسفية وشبه الفلسفية. إن الفلسفة الإسلامية هي مفخرة الحوزات العلمية؛ ولقد كانت الحوزات العلمية هي الرافعة دائماً للواء الفلسفة الإسلامية، ولاسيما الحوزة العلمية في قم في الحقبة الأخيرة، فلا تتخلوا أبداً عن هذا اللواء. لقد طرق سمعي بعض التحذيرات من عدة قنوات ممّا جعلني أحس بالقلق شيئاً ما.

فلابد من تدريس الفلسفة الإسلامية على كافة المستويات وبأسلوب جيد وعن طريق الكتب القيمة والاستعانة بالمتون الراقية.

 

منح المناعة للطلبة من الناحيتين الفكرية والسياسية

ثالثاً: يجب على مدراء الحوزة المحترمين وعلى الكبار والأعلام أن يمنحوا المناعة للطلبة من الناحيتين الفكرية والسياسية؛ فلابد من منح هؤلاء الطلبة المناعة على نطاق الفكر الإسلامي والأساليب الدقيقة في التعامل مع التيارات الفكرية المختلفة. وينبغي عمل شيء من أجل أن يشعر أي طالب بمقدرته على مواجهة أي فكر يبدر أمامه، حتى ولو لم يكن يعرفه مسبقاً. كما يجب أن يمنح الطلبة القدرة على التحليل السياسي في المجالات السياسية. إن هذا الحشد الكبير من الشباب في هذه الحوزة هو جمع بمقدوره ـ ويجب أن يكون بمقدوره ـ تحليل الأحداث السياسية وفهم كل تحرك تقوم به التجمعات والأجنحة المختلفة في الداخل والخارج، حتى يكون بوسع هذا الجمع أن يضع ذلك الخط المستقيم والصراط الإلهي نصب العين في خضمّ الأحداث، دون أن يقع فريسة للخداع.

وبالطبع فإن الفهم السياسي يختلف عن التسلية السياسية؛ وإنني لا أشعر بأمل كبير في هذه التسالي السياسية وبعض هذه التكتلات السياسية المصطنعة؛ فأنا لا أقصد هذا، بل ولا أنصح به، بل إنني أقصد الفهم السياسي والقدرة على التحليل السياسي الذي لا يخلو عن الأساليب والطرق الممكنة. فباستطاعة كبار الحوزة، وعليهم أن يقوموا بتنفيذ ذلك وهو ما ليس بالأمر العسير، ولا حل لهم سواه. إنكم إذا لم تعلّموا هذا الشاب الحوزوي التحليل السياسي، فإن أولئك الذين يدفعون التيارات السياسية ويثيرونها بهدف الاستغلال والتكسب ـ كما أشرنا ـ لن يقولوا بأنه لا داعي لملاحقة شباب الحوزات لأنه غير مستعد لذلك، بل إنهم سيأتون ويستغلون هذا العجز في الفهم والتحليل السياسي إلى أقصى درجة ممكنة، وهذه خسارة، فلا حل لكم سوى تدارك هذا الأمر. إذاً فلابد من منح الطلبة التوعية السياسية والقدرة على الفهم والتحليل السياسي. وينبغي للطلبة أن يعرفوا حقيقة هذه التحركات التي يقوم بها العدو إزاء هذه الشوكة التي اكتسبها الإسلام في الحقبة الراهنة، كما يجدر بهم أن يقفوا على كنه وكيفية تحركات العدو في مقابل نفس الحوزات العلمية.

 

اختصار المنهج الدراسي في الحوزة

وأمّا النصيحة التالية التي أراها ضرورية في هذا المجال، فهي أنه لابد من اختصار المنهج الدراسي في الحوزة على أن يكون مفيداً ومثمراً وذا آثار عملية واضحة. لقد تحدثت سابقاً حول موضوع مناهج الحوزة، وقلت إنني لست مع تهميش ولا تسطيح ولا تفريغ المناهج الحوزوية الذي يجرّ الجهل على الدارسين إطلاقاً، فلا تتبادر الأفكار الخاطئة إلى الأذهان. وإنني أقول بأنه يمكن دمج هذه المرحلة الدراسية التي نقطعها عن طريق استخدام الأساليب الدراسية الحديثة؛ ففيما يخص الأدب مثلاً، ولا أعرف ما هي المدة التي تستغرقها دراسة الأدب في الوقت الحاضر، فإن الأدب الذي ندرسه الآن في كتاب المغني أو مختصر المغني أو المطول أو مختصر المطول هو أدب استدلالي، أي إنه طريق للاجتهاد في الأدب، وهذا ما لا يحتاج إليه طلبتنا؛ فالفقيه لا يحتاج لأن يكون مجتهداً في الآداب، وإن ما يقال بأن الاجتهاد ضروري في كافة مقدمات الاجتهاد ليس بالكلام المتقن. إن الاجتهاد ضروري في بعضها بالتأكيد، ولكنه لا يلزم الاجتهاد في مثل هذه الأشياء، بل ينبغي معرفة ما هي المعاني التي تستخدم فيها هذه الكلمة أو تلك، وهذا هو القدر المتفق عليه في الأدب. وأمّا «لماذا تستخدم هذه الجملة أو هذه الكلمة بهذا المعني، وإن هذا النحويّ قال كذا وهذا هو استدلاله، بينما قال الآخر كذا وهذا هو استدلاله» فما وجه الحاجة إلى هذا الكلام؟! فلابد من أن تكون الدراسة قوية وبلغة حديثة ومدتها قصيرة، بحيث تكفي سنة أو سنتان لاجتياز مرحلة الأدب منذ البداية وحتى النهاية. إن الطلبة الذين يلتحقون بالحوزات في أيامنا هذه بوجه خاص لديهم غالباً بعض المعلومات وعندهم مطالعات وقراءات بشكل ما، ولا حاجة لهم بهذه الكتب الفارسية والعربية والمختلطة. وثمة أيضاً وجهات نظر حول الفقه والأصول، وإن كانت القضية هنا تعتبر أكثر تعقيداً وصعوبة، حيث إن مرحلة السطوح هي مرحلة في غاية الأهمية، وهي الأساس لكل ما بعدها. وعلى أية حال فلابد من الاهتمام دائماً بالمناهج والنظُم الدراسية. إن النظم والكتب الدراسية هي من الأمور التي تتغير وتتطور باستمرار في برامج المراكز التعليمية الكبري، فهم دائماً يتلافون ما فيها من نقائص وعيوب، وذلك بما يتناسب من خصائص للتربية والتعليم.

 

معرفة الكفاءات الموجودة في الحوزة

والنقطة الأخرى هي ضرورة معرفة الكفاءات الموجودة في الحوزة، وهو ما أشرت به منذ بضعة أشهر على مدراء الحوزة المحترمين. إن الحوزة تعتبر تجمعاً للكفاءات المختلفة، فلابد من اكتشافها، لأن اكتشافها سيكون عاملاً مساعداً في استخدامها في المجالات المختلفة من معارف وعلوم ونشاطات علمية وتحقيقية من أجل ترشيد هذه الكفاءات.

 

الهجرة بهدف التعليم والتزكية

وأما الأمر الآخر الذي يعد من واجبات الحوزة فهو موضوع الهجرة؛ أي الهجرة بهدف التعليم والتزكية والحضور بين الجماهير. ولقد قلنا هذا أيضاً في السابق، حيث قدم الأصدقاء وبعض فضلاء الحوزة مشروعاً تمهيدياً حول الهجرة؛ فكل من يصل إلى حد من المعرفة والوعي والعلم في الحوزة، عليه الذهاب إلى المناطق التي تحتاج إلى ذلك، وما أشد الحاجة إلى الفضلاء الشباب والنشطين في شتى أرجاء هذا البلد؛ ليس فقط في القري، بل وفي المدن، وحتى في بعض المدن الكبري! ففي الماضي كان يوجد في كل منطقة من المحافظات غالباً أحد المجتهدين المسلّم باجتهادهم؛ فلو طبقنا ذلك الآن أيضاً بما أصبح لدى الفضلاء والمجتهدين من معارف حديثة فلسوف تعم النعمة كافة هذه المناطق. إن الهجرة إلى المحافظات والمراكز تجعل ارتباط وصلة العلماء بالجماهير أمـراً ممكـناً، وإن الاخـتـلاط بـالـنـاس لـمـن الأمـور الـفـائـقـة الأهـمـية.

 

إكمال المناهج الدراسية الحوزوية

وأما الموضوع الآخر في قائمة واجبات الحوزات العلمية، فهو إكمال المناهج الدراسية الحوزوية، ومن أبلغها ضرورة في نظري علم التاريخ. إنه لا ضرورة إطلاقاً في تدريس التاريخ، ولكن من الممكن أن يكون التاريخ مادة إضافية في المنهج الدراسي، إلاّ أن الطلبة يؤدون فيها امتحاناً وأن تكون ذات علاقة بتقدمهم الدراسي. إن على طلاب الحوزة العلمية أن يكونوا على معرفة بالتاريخ، ولاسيما تاريخ صدر الإسلام، فهذا أمر لمن أهم المواضيع التي تستنير بها عقول الدارسين. وكذلك هو تاريخ المشروطة، منذ عهد المشروطة وحتى الآن، فهذا أيضاً من الأهمية بمكان. كما توجد مراحل تاريخية أخرى على درجة من الأهمية وإن كنت لا أود الخوض في الجزئيات.

ونفس الشيء بالنسبة لعلم الحديث، حيث لابد من وجوده في البرنامج العملي للطلبة. إن على الطلاب أن يكونوا على علم بالحديث، وأن يعرفوا «الكافي»، وأن يعرفوا بعض كتب الحديث الخاصة. إن قراءة كلمات الأئمة أمر ضروري بالنسبة لنا، لأن مطالعة كلام أئمة الهدي (ع) تثير في الأذهان الكثير من الأفكار السامية، وكذلك الحال بالنسبة لنهج البلاغة.

 

ترشيد أمر التحقيق

وثمة موضوع آخر أجده ضرورياً بالنسبة للحوزة؛ إن الكثير من فروع الأبحاث والتحقيقات توجد اليوم ولحسن الحظ في حوزة قم العلمية؛ يتعلق بعضها بالحوزة، وبعضها الآخر بخارج الحوزة، وبعض يتعلق بالأقسام الخاصة. إن الطلبة والفضلاء الشباب يقومون بنشاطات تحقيقية، فيجب أن يكون ذلك مع التدبير، وأن تعمل إدارة الحوزة على أن يكون احدها مكملاً للآخر، بحيث تنبثق عن مجموع هذه التحقيقات منظومة كاملة لرصد الغزو والهجوم الفكري والإعلامي الذي يشنّه العدو، وإمكانية مواجهة هذا الهجوم. وبذلك تتخذ غالبية هذه الأبحاث في الأقسام والتخصصات المختلفة بعداً عملياً. ولابد من اختيار أسلوب مناسب، بحيث يقوم كل من يريد أن ينشئ مجموعة للتحقيق بالتشاور مع إدارة الحوزة حتى تكون على علم بالأمر، وأن يعمل بإرشاداتها بصورة ملزمة، وأن تلقي نظرة شاملة على برامج التحقيق في الحوزة بحيث تتخلص التحقيقات والأبحاث من الاعمال التكرارية والعديمة الجدوى والفائدة، حتى لا يذهب وقت الحوزة سدي؛ وهذا أمر ضروري جداً.

 

الاهتمام بقضية إدارة الحوزة العلمية

لقد كانت هذه بعض المحاور التي وددت الحديث عنها فيما يخص واجبات الحوزة والتي يتعلق أغلبها بالإدارة. وإنني أريد الاستفادة من هذه الفرصة فأقول: أيّها الأعزاء.. انظروا بجدّ واهتمام إلى قضية إدارة الحوزة، حيث إن البعض لا يعيرون أهمية لهذا الموضوع الجاد؛ فلو كان باستطاعة أحد المراجع العظام أن يأخذ على عاتقه مسؤولية إدارة الحوزة بصورة تنفيذية فله الأولوية، لأن موضوع إدارة الحوزة على قدر كبير من الأهمية؛ فإذا تمكن أحد مراجع التقليد من التخلي عن كافة النشاطات المتعلقة بالمرجعية ـ من إفتاء وإنجاز لمطالب المقلدين وتدريس وغير ذلك ـ وصبّ كل اهتمامه على إدارة الحوزة فحسب لكان قد نهض بالعبء الجسيم، فإدارة الحوزة أمر بالغ الأهمية. وعلى كل حال، فإن بعض الأعزاء يتحملون هذه المسؤولية الآن والحمد لله، فيجب على الجميع التعاون معهم حتى تنجز الإدارة أعمالها على ما ينبغي في طريقها نحو الأمام. وعلينا جميعاً أن نعرف قدر من تحملوا المسؤولية التنفيذية للحوزة العلمية وأن نجلّهم.

 

خامساً: نصائح وإرشادات

وأمّا القسم الخامس والأخير من حديثي فيختص ببعض النصائح والارشادات لكم أيّها الأعزاء:

 

الجد في الدراسة

أولاً: عليكم أن تكونوا جادّين في الدراسة، فلا تتركوا منهجاً من المناهج جانباً لما فيه من بعض العيوب، بل عليكم بمواصلة هذا المنهج بجد ومثابرة ما لم يتغير. ونصيحتي لكم قبل الفراغ من مرحلة السطوح هي ألاّ يُشغل الطلبة أنفسهم بأمر آخر قبل الانتهاء من السطح؛ فالدراسة قضية مهمة جداً، والعلم والمعرفة هما القاعدة الأساسية التي لا يمكن القيام بأيّ دور بدونها، أو بالأحرى عدم القيام بأيّ دور على الوجه الصحيح. إن القيام بدور بصورة خاطئة أشد ضرراً بكثير من عدم القيام بأيّ دور على الإطلاق.

 

الحفاظ على الزي الديني

وثانياً: الحفاظ على الزي الديني. فما هو هذا الزي؟ إن باستطاعتي تعريفه في جملتين: الزهد مع الكرامة، والنظم في الدراسة والحياة؛ فطالب العلم عليه أن يحيا حياة الزهد. ولاشك أنني مندهش ومتألم جداً من الأوضاع المادية في الحوزة العلمية؛ فبعض ما يصلني أحياناً من أخبار حول المشاكل التي يعاني منها الكثير من الطلبة والفضلاء ـ أي المشكلات المادية ـ هو أمر مؤلم ومحزن للغاية، وهذا موضوع آخر لابد من العثور على حل له في الحقيقة. إن طلاب العلوم الدينية اليوم يعانون من شظف العيش أكثر من كل طبقات المجتمع ـ بضمنها الموظفون والعمال وسواهم ـ وهذه حقيقة لا شك فيها، في حين أنهم يقومون بواحد من أعظم الاعمال وأشرفها. إنه لا يمكن الحكم على الظواهر كثيراً؛ فما كان يتمتع به طلاب العلوم الدينية من مناعة وعزة نفس وترفّع منذ الماضي لا يدع مجالاً لمعرفة بواطن الأمور أمام السطحيين والذين يحكمون على الأشياء بظواهرها. إنني لا أريد الخلط بين هاتين المقولتين، إلاّ أن ما أقوله الآن هو أن الطلبة ـ سواء منهم المستغني أو المحتاج ـ عليهم أن يحافظوا على زيّهم الديني، أي حالة الزهد والقناعة التي لا تنفك عن عزة النفس، فهذا هو الأمر الأول. وأما الثاني فهو النظم في الدراسة وبالتالي في الحياة، حيث إن النظم من مميزات طلبة العلوم الدينية.

 

التحلّي بالأخلاق الإسلامية

وأما نصيحتي التالية لكم أيّها الأعزاء فهي ضرورة معرفة الأخلاق الإسلامية ـ كبيراً وصغيراً وخصوصاً الشباب ـ وكذلك التحلي بالأخلاق. إن دروس الأخلاق تُلقى الآن في الحوزة ولحسن الحظ، ولكن اعلموا يا أعزائي أن دروس الأخلاق لا تفي بكل مسؤولياتنا في التخلق بالأخلاق الحسنة؛ فعلى كل منّا أن ينازع ما بداخله من رذائل ومثالب بقلبه وعمله وأن يهتم بتهذيب نفسه بشكل متواصل. فاقرأوا دعاء (مكارم الأخلاق) الشريف ـ وهو الدعاء العشرون من أدعية الصحيفة السجادية ـ باستمرار، حتى تعرفوا ما هي الأمور التي سألها الإمام السجاد (ع) من الله تعالى في هذا الدعاء. إننا نجهل الكثير من هذه الأدعية كفصل مهم من باب الأخلاق الحميدة. إن المفاهيم والمضامين الواردة في الدعاء الخامس من الصحيفة السجادية «يا من لا تنقضي عجائب عظمته» والذي تقول بدايته «اللهم أغننا عن هبة الوهابين بهبتك، واكفنا وحشة القاطعين بصلتك» تعتبر كلها دروساً لنا. فلنتعرف كلمات الأئمة وأدعية الصحيفة السجادية وهذه الأدوية الناجعة التي تشفي أدواءنا الأخلاقية وتضمد جراحنا وآلامنا. اعرفوا قدر الدعاء والتوسل والتضرع والتوجه إلى الله وما يضفي به من نور على نفوسنا، وهذا كل شيء.

لقد كان إمامنا العظيم ـ كما سمعت من كبارنا ـ يتعبّد منذ شبابه في حرم السيدة المعصومة. وقد نقل لنا المرحوم الميرزا جواد الطهراني في مشهد قبل الثورة بعدة سنوات فقال: ذهبت إلى قم للدراسة في الحوزة، وكنت في كل يوم أذهب فيه إلى الحرم أرى وجهاً نورانياً، ورجلاً وقوراً، وشاباً نورانياً، وسيداً نورانياً، وقد غرق في العبادة، فانجذبت إلى نورانيته وتعبّده، وسألت عنه، فقالوا إنه الحاج السيد روح الله الخميني.

وكان هذا في ذلك الزمان عندما لم يكن إمامنا العظيم ـ هذه الشخصية البارزة ـ قد بلغ الثلاثين من عمره. نعم، فهذه هي نتائج تلك العبادات والتوجهات والارتباط والاتصال بمعدن نور الغيب الإلهي والأولياء الإلهيين. فاغتنموا هذه الاشراقات في قلوبكم الشابة وقدروها حق قدرها.

 

الثقة بالنفس علمياً وسياسياً

وأما نصيحتي الأخرى لكم أيّها الأعزاء، فهي أنه يجب عليكم أن تتمتعوا بالثقة الكاملة في النفس من الناحيتين العلمية والسياسية. إن علمكم شيء ثمين جداً، لأنه علم كفيل بحل الكثير من معضلات البشرية. إن وعيكم السياسي وموقفكم السياسي وكذلك وعيكم الفكري وموقفكم الفكري والعقائدي لابد وأن يكون بالشكل المؤثر في مختلف البيئات، بحيث لا يشعر الطالب الشاب بالتزعزع في مواجهة العواصف الفكرية المضادة، ولا يحس بالضعف أو الخشية. وإن عليكم باكتساب العزة والثقة بالنفس والاعتماد على النفس، ولذلك مراحل لابد من المرور بها.

 

الغيرة الدينية إلى جانب ضبط النفس

كما وأنصحكم بأمرين ـ يشتبه بينهما أحياناً ـ فيما يخص القضايا السياسية، وهما:

أولاً: وكما نصح وينصح الكبار دائماً، ضرورة الغيرة الدينية؛ فلا تدعوا الغيرة الدينية تتلاشى من محيط الحوزة العلمية وأبنائها. وثانياً، ضبط النفس في القضايا السياسية. فلا ينبغي الخلط بين هذين الشيئين. إن البعض يشتاقون لأن يروا الحوزة العلمية بمن فيها في حالة من العصبية والاضطراب والتصرفات السياسية الهوجاء، فلا تدعوهم يحققوا هذه الرغبة. إن الحضور السياسي، والخطابة السياسية، والمواقف السياسية، أمور جيدة وضرورية وتقتضيها الغيرة الدينية أحياناً، ولكن المرفوض هو التحرك الأهوج والمنفعل، الذي لا يمكن الدفاع عن مردوداته في موضع النقاش، فلا. ففرّقوا بين هذين الأمرين، واجعلوا دائماً حداً فاصلاً بينهما.

 

إفشال مؤامرة فصل الحوزة عن الجامعة

والنقطة التالية هي أنني أنصح الإخوة الأعزاء في الحوزة العلمية بإفشال مؤامرة التفرقة والنزاع بين الحوزة والجامعة؛ فاعتبروا الجامعة نظيراً علمياً لكم، لأن الجامعة نظير الحوزة، إلاّ أنكم تدرسون في فرع، ويدرس الآخرون في فرع آخر؛ فهاهنا مجمع علمي، وهناك مجمع علمي آخر هو الجامعة. لقد كانت مساعي العدو منصبّة دائماً على خلق الكراهية والعداوة والبغضاء بين الحوزة والجامعة، فلا تدعوا ذلك يتحقق. فإذا ما قام أربعة أفراد بحركة مرفوضة في أحد أركان الجامعة، فإن هذا يشبه ما يمكن أن يقوم به اثنان في ركن من أركان الحوزة من تصرف مرفوض أو خاطئ؛ فلا يمكن تعميم هذا ولا ذاك. وإنني أعني بالصلة بين الحوزة والجامعة تلك الصلة العاطفية الصرفة؛ وطبعاً فإن الصلة العلمية والعملية يمكن تحقيقها بينهما بفضل المدراء، ولكنني أقتصر هنا على الصلة العاطفية.

 

المرونة والتواضع في الصلة بالجماهير

وأمّا نصيحتي الأخيرة، فتتعلق بالصلة بين طلابنا الأعزاء والشباب والفضلاء المحترمين وبين الجماهير؛ فلا ينبغي تناسي المرونة والتواضع والمداراة، وفي نفس الوقت التأثير والتبليغ والهداية مطلقاً، كأصل مهم في هذه الصلة. إن ميزة طلاب وفضلاء الحوزة العلمية هي قدرتهم على استمالة الناس وجعلهم يتأثرون بكلامهم قاصدين الهداية والارشاد؛ فإذا ما انعكس الأمر، جاءت النتيجة معكوسة. إن الكلام إذا لم يكن صحيحاً ولم تكن الفكرة صائبة، وكان التصرف متعالياً ومترفعاً وخشناً، فإن القلوب لن تميل إليكم ولن تُسلم العقول لكم قيادها. إن اليوم هو ذلك اليوم الذي تحتاج فيه الحوزة العلمية إلى استمالة الأفكار الأخرى إلى فكرها السامي والفكر الإسلامـي الرفيـع، كمـا تحتـاج إلى استحصال رفقة الآخرين وتعاونهم ولفت أنظارهم إليها واستمالة قلوبهم.

اللهم إنّا نسألك بمحمد وآل محمد أن يكون كل ما قلناه وما سمعناه خالصاً لوجهك وفي سبيلك وأن تتقبّله منّا. اللهم واجعل نظامنا الإسلامي قوياً ومتماسكاً، وامنحه قدرة مواصلة طريقه الطبيعي والمنطقي والرشيد على خطى الأنبياء العظام. اللهم وبلّغ نظامنا الإسلامي هدفه العظيم في رفع قواعد الحضارة الإسلامية. اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وادحر أعداءهم أجمعين. اللهم وتفضّل على حوزاتنا العلمية بما ينبغي لها من تطور علمي وعملي وسياسي واجتماعي. اللهم واحشر روح إمامنا العظيم الذي كان فاتح هذه السلسلة الكريمة والمباركة مع الأرواح الطاهرة للأنبياء والأولياء والشهداء، واحشر شهداءنا الأعزاء مع الرسول (ص). اللهم ووفّق طلابنا الشباب وفضلاءنا الشباب للقيام بالدور الرفيع والخلاّق في كافة الساحات والمجالات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من فكر القائد