خصائص الإنسان الذاتية والفطرية

خصائص الإنسان الذاتية والفطرية

البحث الفطري عن الكمال:

يقول أهل اللغة والتفسير: إن "الفطرة" تعني الخلقة. وفي الصحاح: "الفِطرة" بالكسر "الخِلقة". ويمكن أن تكون الكلمة مأخوذة من "فطر" أي "شقّ" كأن الخلقة أشبه بشق حجب العدم والغيبة. وبهذا المعنى يكون إفطار الصائم، فكأنه يمزق الهيئة الاتصالية للامساك.

على كل حال، البحث اللغوي خارج عن نطاق بحثنا. وبالجملة هذا الحديث الشريف إشارة إلى الآية المباركة في سورة الروم: {فأقِم وجهكَ للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر النّاسَ عليها لا تبديل لخلقِ الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يَعلمون}.

اعلم أن المقصود من "فِطرة الله" التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس عليها، وهم متّصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم وقد "تخمّرت" طينتهم بها في أصل الخلق. والفطرات الإلهية ـ كما سيتبين فيما بعد ـ من الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات، إذ إن الموجودات الأخرى غير الإنسان إما أنها لا تملك أصلاً مثل هذه الفطرات المذكورة، أو أن لها حظاً ضئيلاً منها.

وهُنا لابُد من معرفة أن الفطرة، وإن فسرت في هذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث بالتوحيد، إلا أن هذا هو من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشرف أجزاء الشيء، كأكثر التفاسير الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، حيث إنها نوع من هذا القبيل، وفي كل مرة تفسر بمصداق بحسب مقتضى المناسبة، فيحسب الجاهل أن هناك تعارضاً. والدليل على أن المقام كذلك هو أن الآية الشريفة تعتبر "الدين" هو"فطرة الله" مع أن الدين يشمل التوحيد والمعارف الأخرى.

وفي صحيحة عبدالله بن سنان فسرت الفطرة بالإسلام. وفي حسنة زرارة فسرت بالمعرفة، وفي الحديث المعروف "كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة" جاءت في قبال "التهوّد" و "التمجّس". كما أن الإمام الباقر عليه السلام في حسنة زرارة المذكورة فسّرها بالمعرفة. وعليه، فالفطرة ليست مقصورة على التوحيد، بل إن جميع المعارف الحقة هي من الأمور التي فَطَر الله تعالى الإنسان عليها.

لابُدّ أن نعرف أن ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، لأنها من لوازم الوجود وهي هيئات تخمرت في أصل الطينة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والعالم والمتوحش والمتحضر المدني والبدوي، متفقون في ذلك. وليس ثمة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلل إليها والإخلال بها. إن اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات التي توجب وتسبّب الخلاف والاختلاف في كل شيء حتى في الأحكام العقلية، ليس لها تأثير أبداً في الأمور الفطرية. كما أن اختلاف الأفهام وقوة وضعف الإدراك لا تؤثر فيها. وإذا لم يكن الشيء بتلك الكيفية فليس من أحكام الفطرة، ويجب إخراجه من فصيلة الأمور الفطرية. ولذلك تقول الآية {فطر الناس عليها} أي أنها لا تختص بفئة خاصة ولا طائفة من الناس. ويقول تعالى أيضاً {لا تبديل لخلق الله} أي لا يغيّره شيء، كما هو شأن الأمور الأخرى التي تختلف بتأثير العادات وغيرها.

ولكن مما يثير الدهشة والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية، من أول العالم إلى آخره، فإن الناس نوعاً ما غافلون عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون، ما لم ينبههم أحد على ذلك، وعند ذلك يدركون أنهم كانوا موافقين في صورة المخالفة.

وهذا ما تشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة {ولكنَّ أكثر النّاس لا يعلمون} إن أحكام الفطرة أكثر بداهة من كل أمر بديهي؛ إذ لا يوجد في جميع الأحكام العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا. وعلى هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أن لوازمها أيضاً يجب أن تكون من أوضح الضروريات؛ فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف من أحكام الفطرة أو من لوازمها، وجب أن يكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات {ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.

اعلم أن المفسرين، من العامة والخاصة، فسّروا ـ كل على طريقته ـ كيفية كون الدين أو التوحيد من الفطرة. ولكننا في هذه الوريقات لا نجري مجراهم، وإنما نستفيد في هذا المقام من آراء الشيخ العارف الكامل (الملك الآبادي) الذي هو نسيج وحده في هذا الميدان، ولو أن بعضها قد ورد بصورة الإشارة والرمز في بعض كتب المحققين من أهل المعارف، وبعضها الآخر مما خطر في فكري القاصر.

إذاً لابدّ أن نعرف أن من أنواع الفطرة الإلهية ما يكون على "أصل وجود المبدأ" تعالى وتقدس، وأخرى الفطرة على "التوحيد"، وأخرى على "استجماع ذات الله المقدسة لجميع الكمالات" وأخرى على "المعاد ويوم القيامة" وأخرى على "النبوة" و "وجود الملائكة وعلماء الدين وإنزال الكتب وإعلان طريق الهداية". وهذه الأمور بعضها من أحكام الفطرة والإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة، وهو الدين القيّم المحكم والمستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية.

إن أحد الأمور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها، بحيث أنك لن تجد فرداً واحداً في كل المجموعة البشرية يخالفها، والعادات والأخلاق المذاهب والمسالك وغيرها لا يمكن أن تبدلها ولا أن تحدث فيها خللاً "فطرة عشق الكمال"؛ فإنك إن تجولت في جميع الأدوار التي مرّ بها الإنسان واستنطقت كل فرد من أفراد كل طائفة من الطوائف، وكل ملة من الملل، لوجدت هذا العشق والحب قد جبل في طينته، ووجدت قلبه متوجهاً نحو الكمال، بل إن ما يحرك الإنسان ويدفعه في سكناته وحركاته، وكل العناء والجهود المضنية التي يبذلها كل فرد في مجال عمله وتخصصه، إنما هو نابع من حب الكمال، وإن كان الناس مختلفين تمام الاختلاف في تشخيص الكمال وفي أي شيء هو، والمحبوب والمعشوق أين هو.

فكلٌ وجد وظن معشوقه في شيء، وتوهم كعبة آماله في أمر معين، فتوجه إليه وطلبه من قلبه وروحه. إن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون كل وجودهم من الجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها، فكل شخص مهما يكن نوع عمله، ومهما يكن موضع حبه وعشقه، فإنه لاعتقاده بأن ذلك هو الكمال يتوجه نحوه. وهكذا حال أهل العلوم والصنائع، كل بحسب سعة فهمه يرى الكمال في شيء، ويعتقد أنه معشوقه، بينما يرى أهل الآخرة والذكر غير ذلك

وبالجملة، فجميعهم يسعون نحو الكمال، ولأنهم شخصوه في شيء موجود أو موهوم تعلّقوا به وعشقوه، ولكن لابدّ أن نعرف أنه على الرغم من هذا الذي قيل، فإن حب هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه بأنه معشوقهم، وإن ما توهّموه وتخيّلوه ويبحثون عنه ليس هو كعبة آمالهم؛ إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يظهر العشق لشيء ما فإنه يتحول فوراً عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أكمل من الأول، ثم إذا عثر على أكمل من الثاني، ترك الثاني وانتقل بحبه إلى الأكمل منه، وعندما ما يصل إليه، فإنه يتوجه نحو الكمال منه، بل أن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً حتى لا يعود قلبه يلقي برحاله في أية درجة من الدرجات، ولا يرضي بأي حد من الحدود.

مثلاً، إذا كنت تحب الجمال ونضارة الوجوه، وعثرت على ذلك عند من تراه كذلك، توجه قلبك نحوه؛ فإذا لاح لك جمال أجمل، لاشك في أنك سوف تتوجه قهراً إلى الجميل الأجمل، أو أنك على الأقل تطلب الاثنين معاً، ومع ذلك لا تخمد نار الاشتياق عندك، ولسان حالك "لا أملك شيئاً، وإلا فإنني طالب لكل الست" ولسان فطرتك يقول: بل إنك تطلب كل جميل تراه أجمل، بل تزداد اشتياقاً بالاحتمال، فإذا احتملت أن هناك جميلاً أجمل مما تراه بعينك وعندك في مكان ما لحق قلبك طائراً إلى ذلك المكان، ولسان حالك يقول "أجلس بين الجمع، وقلبي في مكان آخر" بل تعشق ما تتمنى. فأنت إن سمعت بأوصاف الجنة وما فيها من الوجوه الساحرة ـ حتى وإن لم تكن تؤمن بالجنة لا سمح الله ـ قالت فطرتك: ليت هذه الجنة موجودة، وليتهن كُنّ من نصيبي!

وهكذا الذين يرون الكمال في السلطان والنفوذ واتساع الملك، يتجه حبهم واشتياقهم إلى ذلك؛ فهم إذا بسطوا سلطانهم على دولة واحدة، توجهت أنظارهم إلى دولة أخرى، فإذا دخلت تلك الدولة أيضاً تحت سيطرتهم، تطلعت أعينهم إلى أكثر من ذلك. وكلما استولوا على قطر، اتجه حبهم إلى الاستيلاء على أقطار أخرى، بل تزداد نار تطلعاتهم لهيباً، وإذا بسطوا سلطانهم على الأقطار كلها واحتملوا إمكان بسط سلطتهم على الكواكب الأخرى، لتمنّت قلوبهم أن لو كان بالإمكان أن يطيروا إلى تلك العوالم كي يخضعوها لسيطرتهم.

وعلى هذا القياس هو حال أصحاب الصناعات ورجال العلم. وبالجملة حال كل أفراد الجنس البشري، مهما تكن مهنتهم وحرفهم، فهم كلما وصلوا فيها مرحلة متقدمة، رغبوا في بلوغ مرحلة أكمل من سابقتها، ويشتدّ شوقهم وتطلعهم.

إذاً، فنور الفطرة قد هدانا إلى أن نعرف أن قلوب جميع أبناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات، إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم، وابتداءً بالطبيعيين والماديين، وانتهاءً بأهل الملل والنحل، تتوجه قلوبهم بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه، ويعشقون الكمال والجمال الذي لا عيب فيه، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شيء، والحياة التي لا موت فيها، أي أن "الكمال المطلق" هو معشوق الجميع. جميع الكائنات والعائلة البشرية، يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد: إننا نعشق الكمال المطلق، إننا نحب الجمال والجلال المطلق، إننا نطلب القدرة المطلقة، والعلم المطلق. هل هناك في جميع سلسلة الكائنات في عالم التصور والخيال، وفي كل التجويزات العقلية والاعتبارية، كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال، سوى الله تقدست أسماؤه، مبدأ العالم جلّت عظمته؟! وهل الجميل على الاطلاق الذي لا نقص فيه إلا ذلك المحبوب المطلق؟!

فيا أيها الهائمون في وادي الحيرة والضائعون في صحراء الضلالة، بل أيتها الفراشات الهائمة حول شمعة جمال الجميل المطلق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب والدائم الأزلي، عودوا قليلاً إلى كتاب ذاتكم لتروا أن الفطرة الإلهية قد كُتبت فيه بقلم القدرة {وجهتُ وجهي للذي فطر السماوات والارض} فهل {فطرة الله التي فطر الناس عليها} هي فطرة التوجه نحو المحبوب المطلق؟ أو إنها الفطرة الثانية {لا تبديل لخلق الله} هي فطرة المعرفة؟ فإلى متى توجه هذا العشق الإلهي الفطري وهذه الوديعة الإلهية نحو هذا وذاك بحسب الخيالات الباطلة؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص والكمالات المحدودة، فلماذا عندما تصل إليها يبقى اشتياقك ملتهباً لا يخمد، بل يزداد ويشتد؟!

تيقظ من نوم الغفلة واستبشر فرحاً بأن لك محبوباً لا يزول، ومعشوقاً لا نقص فيه، ومطلوباً من دون عيب، وأن لك مقصوداً يكون نور طلعته {الله نور السماوات والأرض} وأن لك محبوباً سعة إحاطته "لو دُليتم بحبلٍ إلى الأرضين السفلى لهبطتم على الله". إذن يستوجب عشقك الفعلي معشوقاً فعلياً، ولا يمكن أن يكون شيئاً متوهماً ومتخيلاً، إذ إن كل موهوم ناقص، والفطرة إنما تتوجه إلى الكمال، فالعاشق الفعلي والعشق الفعلي لا يكون من دون معشوق، ولا يكون غير الذات الكاملة معشوقاً تتجه إليه الفطرة. فلازم عشق الكامل المطلق وجود الكامل المطلق. وقد سبق أن عرفنا أن أحكام الفطرة ولوازمها أوضح من جميع البديهيات {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}.

 

إن توحيد الله ـ تعالى شأنه ـ واستجماع ذاته لكل الكمالات من الأمور الفطرية

اعلم أن من الأمور الفطرية التي {فطر الناس عليها} هو النفور من النقص، وكل ما ينفر الإنسان منه فهو ينفر منه لأنه وجد فيه نقصاً وعيباً. إذاً، فالفطرة تنفر من النقص والعيب، كما إنها تنجذب إلى الكمال. فالذي تتوجه إليه الفطرة لابد وأن يكون واحداً أحداً، لأن كل كثير ومركب ناقص، ولا تكون الكثرة دون محدودية. وكل ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة وليس بمرغوب فيه. إذاً، أمكن من هاتين الفطرتين: "فطرة حب الكمال" و "فطرة النفور من النقص" إثبات التوحيد. بل إن استجماع الله لجميع الكمالات، وخلو ذاته المقدسة من كل نقص، قد ثبت أيضاً. وفي سورة التوحيد المباركة التي تبين نسبة الحق المتعالي، وبحسب رأي شيخنا الجليل (روحي فداه) إن الهوية المطلقة، التي تتوجه إليها الفطرة، والتي أشير إليها في صدر سورة التوحيد المباركة بكلمة "هو" تعدّ برهاناً على الصفات الست المذكورة بعد ذلك، إذ لمّا كانت ذات الله المقدسة هوية مطلقة، والهوية المطلقة يجب أن تكون كاملة مطلقة، وإلا لكانت محدودة، فهو مستجمع لجميع الكمالات، وهو (الله). وفي الوقت الذي يكون مستجمعاً لجميع الكمالات يكون بسيطاً، وإلا فالهوية لا تكون مطلقة، إذاً فهو "أحد". ولازم الأحدية هو الواحدية ولما كانت الهوية المطلقة مستجمعة لجميع الكمالات فهي منزهة عن جميع النقائص والتي تعود بأجمعها إلى الماهية، إذاً فتلك الذات المقدسة هي "صمد" وليست جوفاء. ولما كانت الهوية مطلقة، فلن يتولد منها شيء، ولا ينفصل عنها شيء، ولا ينفصل هو عن شيء وإنما هو مبدأ كل شيء ومرجع جميع الموجودات، بدون الانفصال الذي يوجب النقصان. والهوية المطلقة ايضاً ليس لها كفو، إذ لا يمكن تصور التكرار في صرف الكمال. إذاً فالسورة المباركة من أحكام الفطرة ونسبة الحق المتعال.

 

وجود "المعاد" ويوم القيامة من الأمور الفطرية المجبولة عليها طينة البشر

اعلم أن من الفطريات الإلهية التي فُطرت عليها العائلة البشرية كافة هي فطرة عشق الراحة. فلو أنك راجعت كل أدوار التمدن والتوحش، والتدين والتحلل، وسألت الجاهل والعالم، والوضيع والشريف، والمدني والبدوي: "لِمَ كل هذا التعلق المتنوع والأهواء الشتى، وما الغاية من كل هذا التحمل للمشاقّ والمعاناة في الحياة؟" فإنهم جميعاً وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين: بأن كل ما يتوخونه إنما هو لراحتهم، والغاية النهائية والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من كل تعب ونصب. فلما كانت هذه الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه المعشوقة المفقودة يظنها كل إنسان في شيء، لذلك فهو يحب كل شيء يتصور محبوبه فيه، مع أن مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه؛ إذ ليس من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم. إن جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني، وما من لذّة إلا وهي محفوفة بآلام كبيرة. إن العذاب والتعب والألم والحزن والهم والغم تملأ أرجاء هذا العالم.

وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناءً على ذلك فإن معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم. إن العشق الفطري الفعلي الذي جبل عليه جميع أبناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلاً.

إذاً، لابُدّ من أن يكون هناك في دار التحقق وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاء، سرور دائم خالص لا يعتريه حزن ولا همّ. ذلك العالم هو "دار نعيم الله"، عالم كرم ذات الله المقدسة.

وهو عالم يمكن إثباته بفطرة الحرية ونفوذ الإرادة الموجودة في فطرة كل إنسان. ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الإنسان وإرادته، فلابدّ إذاً أن يكون في عالم الوجود عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على نفوذ إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم فعّالاً لما يشاء والحاكم بما يريد، كما تقتضيه الفطرة.

إذاً، يعتبر العشق للراحة والعشق للحرية جناحان مودعان لدى الإنسان، بموجب فطرة الله التي لا تتبدل، فيحلّق بهما في عالم الملكوت الأعلى والقرب الإلهي.

وفي المقام مواضيع أخرى لا تسعها هذه الأوراق، وهناك فطرات أخرى لإثبات المعارف الحقة، مثل إثبات النبوة، وبعثة الرسل، وإنزال الكتب السماوية، بل بكل واحدة من هذه الفطر المذكورة يمكن إثبات جميع المعارف. ولكننا نكتفي بهذا القدر لئلاّ نخرج عن الموضوع ولكيلا نشرح ما لا يتناسب مع الحديث الشريف.

إلى هنا عرفنا أن العلم بالمبدأ وكمالاته ووحدته والعلم بيوم المعاد وعالم الآخرة من الأمور الفطرية. والحمد لله.

 

الإنسان بين حالتين لا متناهيتين

الإنسان كائن عجيب بين جميع الكائنات ومخلوقات الباري تعالى، لا يوجد أي كائن مثل الإنسان، فهو أعجوبة لإمكانه أن يصبح كائناً إلهياً ملكوتياً، أو كائناً شيطانيّاً جهنمياً. وإن بقية الكائنات ليست كذلك. فهي ليست كذلك بأن يكون الفاصل بهذا المقدار بين الفرد الكامل والفرد الجهنمي الناقص. فهذا من مختصات الإنسان حيث أوجده الحق تعالى مع جميع أوصافه وصفاته المقدسة وكل شيء فيه؛ فيكون من هذا الإنسان النبي الأكرم وسائر الأنبياء، ويكون منه أبو جهل وأمثال أبو جهل والمتوسطون أيضاً ما بين هذين إلى ما لا يُعلم، وأن الأعمال التي تصدر منه فإن حسنها وقبحها وصلاحها وفسادها مرتبط بتلك الجهات المعنوية للإنسان.

 

ارتباط الروح والجسم

هناك وحدة بين الروح والجسم، فالجسم ظل الروح، والروح باطن الجسم، والجسم ظاهر الروح، وهما شيء واحد ولا ينفصلان. فكما إن روح الإنسان وجسمه لهما وحدة، فيجب أن يكون لطبيب الجسم وطبيب الروح وحدة، فيجب أن يكونا واحداً.

 

الإنسان عالَم صغير

عندما تلاحظون الإنسان، فإن نشوءه الأولي لا يختلف عن سائر النباتات. إذ إن النبات أو نواة التمر أو نواة شيء آخر يُلقى في التربة، فتقوم التربة بالتربية، فينمو في مكان خاص يحتاجه للنمو. والحيوان أيضاً تقع نطفته في الرحم وهي بذرة، وهذه البذرة مكانها هناك، أي إن مكان تربيتها هناك، ولو أمكن في يوم ما إيجاد مكان له نفس هذه الخاصية لتنمو النطفة فيه كما في الرحم، لأمكن القيام بالتربية، وقد يشمل ذلك الإنسان في يوم ما.

إنه في البداية كسائر النباتات، ولا يختلف عنها؛ فهي تنمو وهو ينمو أيضاً، لكنه في مكان خاص وضمن ظروف خاصة، وإن النباتات تنمو في محل خاص آخر وضمن ظروف أخرى، بيد أنهما يشتركان في هذا المعنى وهو أنهما يُزرعان ، ويبدأ هذا الزرع بالنمو بواسطة القوى التي أودعها الله تبارك وتعالى في الأرض، والقوى المودعة في الرحم. فهما يشتركان مع بعضهما. ثم يستقر تدريجياً هذا الذي زرع في الأرض، ويبقى نباتاً حتى النهاية إلى أن يصل إلى الثمرة، وإن ثمرته هي ثمرة للنبات.

أما التي لم تزرع في الأرض وهي الحيوانات جميعاً ومنها الإنسان فإنها تعلو تدريجاً فوق مرتبة النبات وتظهر عندها روح حيوانية في نفس المرتبة التي هي فيها؛ فتمتاز عن سائر النباتات لكنها حيوانات بأجمعها، أي تشترك بالروح الحيوانية. وعندما تولد في هذا العالم وتنفصل عن مكانها يعتبر هذا امتيازاً عن النباتات، لأن النبات سوف ينتهي لو فصلناه عن مكانه، إلا أنها تنفصل عندما يقتضي الأمر، وتكتمل تلك الصفة النباتية، وتظهر الصفة الحيوانية، وتنتهي الحاجة للرحم، وتلج هذا العالم.

تشترك الحيوانات جميعاً في الأكل والنوم والشهوات وأمثال ذلك، فلا امتياز بينها إلا من خلال الصفات الحيوانية. وإن هذه الحيوانات الموجودة تختلف في الإدراك أيضاً؛ فالقرد مثلاً يدرك ويفهم أكثر من حيوان آخر، ويصبح الإنسان ممتازاً بين هذه الحيوانات لأنه قادر على التطور، فهو يختلف عنها في الادراك وفي غاية الإدراك، إذ إن إدراك الحيوان محدود ضمن حدود معينة وينتهي. ولكن ينبغي القول بأن إدراك الإنسان وقابليته للتربية غير متناهية تقريباً؛ فالإنسان إذاً عنده العالم بأجمعه وزيادة، إنه يمتاز عن كل ما هو موجود في العالم من الكائنات، فهو يشترك مع الحيوانات والنباتات وما يعادلها، لكنه يفوقها بامتلاكه لقوة عاقلة وقوى أسمى غير موجودة عند بقية الكائنات.

 

الإنسان كائن طبيعي وما وراء الطبيعة

لو كان الإنسان لا يخرج عن حدود الطبيعة لما كانت هناك حاجة لأن يأتيه شيء من عالم الغيب لتربيته، فلا حاجة لتربية الجانب الآخر من الإنسان لعدم وجوده، ولكن بما أن الإنسان مجرد عن عالم الطبيعة حقيقة، وهذه الخصوصيات الموجودة في الإنسان بذاتها تدل على وجود ما وراء لهذه الطبيعة، ولأن الإنسان له ما وراء الطبيعة، وحسب البراهين الثابتة في الفلسفة فإنه يوجد ما وراء هذه الطبيعة في الإنسان، والإنسان له عقل مجرد بالإمكان وسيصبح مجرداً تاماً فيما بعد، فإنه يجب أن يقوم بتربية الجانب الآخر للإنسان ـ وهو الجانب المعنوي ـ مَن له علم بذلك الجانب، علماً حقيقياً به، وعلماً بالعلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة والجانب الآخر، وإن الذي يتمكن من درك هذه العلاقة ليس بشراً، لأن الإنسان لا يتمكن من ذلك، إنه قادر على هذا المقدار من إدراك الطبيعة، ومهما نظر إلى عالم ما وراء الطبيعة من خلال عدسة مكبرة فلن يشاهد شيئاً. إنه بحاجة إلى استخدام معاني أخرى. وبما أن هذه العلاقات خافية على البشر ويعلمها الله تبارك وتعالى الذي خلق كل شيء، لهذا ينزل الوحي الإلهي على أشخاص كاملين قد سلكوا طريق الكمال المعنوي وفهموا، فتحدث العلاقة بين الإنسان وعالم الوحي، ويوحى إليه، ويُبعث لتربية الإنسان في بعده الآخر، فيأتي هؤلاء إلى الناس ليقوموا بتربيتهم.

 

الإنسان أمام مفترق طريقين

{والعصر إن الإنسان لفي خسر} "العصر" هو الإنسان الكامل وهو صاحب الزمان سلام الله عليه أي عصارة جميع الكائنات. والقسم بعصارة جميع الكائنات أي القسم بالإنسان الكامل {إن الإنسان لفي خسر} وهذا الإنسان المذكور هنا هو نفس الإنسان الذي له رأس وأذنين، ونحن نسميه إنساناً، والخطاب موجّه لنا. فنحن أمام مفترق طريقين: أحدهما طريق الإنسانية، والذي هو الصراط المستقيم، ويتصل الصراط المستقيم في طرف منه بالطبيعة، وفي الطرف الآخر بالألوهية، فالطريق المستقيم يبدأ من العلق، وبعضه طبيعي، والمهم منه هو عندما يكون إرادياً، فالطبيعة أحد طرفيه ومقام الألوهية طرفه الآخر، ويبدأ الإنسان من الطبيعة حتى يصل إلى ذلك المكان الذي لا تصل إليه أفكاري وأفكارك. "سأصير ذلك الشيء الذي لا يخطر بوهمك" فأنتم مخيرون في هذا المفترق أما أن تنتخبوا صراط الإنسانية المستقيم، أو الانحراف إلى اليسار، أو إلى اليمين.

 

قابلية الإنسان ذات البعدين

عندما يولد الإنسان ابتداءً، فإن فيه كل شيء على شكل استعداد، أي غير متحقق، لكنه قابل للتحقق. فهذا الطفل الذي يخرج إلى هذه الدنيا يكون مستعداً ليحصل على ملكات صالحة، ومستعداً للحصول على ملكات رذيلة؛ إذ لو سعى باتجاه الملكات الرذيلة فانها ستتحقق تدريجاً ويصبح باطن الإنسان كائناً منحطاً.

يمارس الإنسان أحياناً بعض الأعمال التي تناسب شأن الحيوان، فيكون متوحشاً حتى ولو كان في القول، فنراه يعتدي على الناس، ويوجه لهم كلمات الفحش، وهذه وحشية، أو تكون لديه وحشيات من نوع آخر، هذه ملكة تظهر عند الإنسان وهي ملكة التوحش.

 

الإنسان في مسير الانحطاط

إن الإنسان كما أن له في هذه الدنيا صورة مُلكية دنيوية، خلقها الله تبارك وتعالى في كمال الحسن والجمال والتركيب البديع، والمتحيرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، والذي لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرف حاله بصورة صحيحة، وقد ميّزه الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة وجمال المنظر، كذلك فإن له ـ أي للإنسان ـ صورة وهيئة وشكلاً ملكوتياً غيبياً، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخُلق الباطن.

وفي عالم ما بعد الموت ـ سواء في البرزخ أو القيامة ـ إذا كان خُلق الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانية، تكون الصورة الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً؛ وأما إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانية، فصورته ـ في عالم ما بعد الموت ـ تكون غير إنسانية أيضاً، وهي تابعة لتلك السيرة والملكة. فمثلاً إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق؛ وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكم سبع، كانت صورته الغيبية الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم. وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما الملكة، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، تكون صورته الملكوتية صورة أحد الشياطين بما يتناسب وتلك.

ومن الممكن أحياناً أن تتركب الصورة الملكوتية من ملكتين أو عدة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أي من الحيوانات، بل تتشكل له صورة غريبة بحيث أن هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالم.

نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صورة تحسن عندها صور القردة، بل وقد تكون لشخص واحد عدة صور في ذلك العالم، لأن ذلك العالم ليس كهذا العالم، حيث لا يمكن لأي شيء أن يتقبل أكثر من صورة واحدة له، وهذا الأمر يطابق البرهان أيضاً وثابت في محله.

واعلم أن المعيار لهذه الصور المختلفة ـ والتي تعد صورة الإنسان واحدة منها، والباقي صور أشياء أخرى ـ هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآخرة، والذي أوله في البرزخ عند خروج الروح من الجسد، فبأية ملكة يخرج بها من الدنيا، تتشكل على ضوئها صورته الأخروية، وتراها العين الملكوتية البرزخية، وهو نفسه أيضاً عندما يفتح عينه البرزخية يرى نفسه بالصورة التي هو عليها إذا كان لديه بصر. وليس من المحتم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا. يقول سبحانه وتعالى نقلاً عن لسان البعض حين الحشر {قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيرا} فيأتيه الجواب من الله {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى}.

فيا أيها المسكين؛ قد كانت لديك عين ملكية ذات بصر ظاهري، ولكنك في باطنك وملكوتك كنت أعمى، وقد أدركت الآن هذا الأمر، وإلا فإنك كنت أعمى منذ البداية، ولم تكن لديك عين البصيرة الباطنية التي ترى بها آيات الله.

أيها المسكين! أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب الملكي. ومعيار الملكوت والباطن غير هذا. عليك أن تحرز الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة يوم القيامة. يجب أن تكون روحك روحاً إنسانية كي تكون صورتك في عالم البرزخ والقيامة صورة إنسانية أنت تظن أن عالم الغيب والباطن ـ وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات ـ مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يمكن أن يقع الخلط والاشتباه.. إنّ عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك، جميعاً، ستشهد عليك بما فعلت، بألسنة ملكوتية، بل بقول بعضٍ بصور ملكوتية.

أيها العزيز؛ افتح سمع قلبك، وشد حزام الهمة، وارحم حال مسكنتك، لعلك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالم بصورة آدمية، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة، وحذارِ من أن تتصور أن كل ما تقدم هو موعظة وخطابة. فهذا كله هو نتاج أدلة فلسفية للحكماء العظام، وكشف انكشف لأصحاب الرياضات، وإخبار عن الصادقين والمعصومين.

وليس المقصود من هذه الأوراق أن تكون محلاً لإقامة الدليل ونقل الأخبار والآثار بكثرة.

من فكر الإمام الخميني