|
|
|||
معرفة الله : سؤال : ما هي الأسباب الداعية إلى معرفة الله سبحانه وتعالى ؟ جواب : يعتمد علماء الكلام في إثبات وجوب معرفة الله تعالى، على إن العقل السليم يحكم على الإنسان بوجوب تجنب الأضرار المحتملة التي قد يتعرض لها، و بما أن عدداً كبيراً مـن رجالات الإصلاح والخير و الأنبياء و الصلحاء الذين لم يكونوا متهمين بالكذب والدجل والاختلاق ، دعوا المجتمعات البشرية على مرّ العصور إلى الاعتقاد بوجود خالق جبّار مقتدر لهذا الكون و لما فيه من موجودات ، و دعوا الناس إلى إطاعة هذا الخالق ـ ألا وهو الله ـ و امتثال أوامره و تجنب مخالفته ، ذلك لأن الحياة لا تنقطع بالموت ، و الموت لا يعني نهاية الإنسان ، و إنما الدنيا بمثابة جسر ينتقل الإنسان بواسطته إلى حياته الأبدية في عالم يسمى بالآخرة ، و هناك سوف يجازي الله المطيعيـن لـه جزاءً حسناً ، كما انه سيعاقب المتخلفين عن أوامره عقاباً شديداً ، أليس هذا ضرراً محتملاً ؟ وألا يستحق هذا الاحتمال اهتماما يشّد الإنسان نحو معرفة حقيقة الأمر، و التأكد من واقع هذه الأخبار المتواترة ، حتى و لو كان الاحتمال ضعيفاً. هذا وان العقل السليم يحكم بضرورة الفحص الدقيق والبحث والتحقيق ، ودراسة هذا الاحتمال وكل الاحتمالات الأخرى وأخذها بعين الاعتبار ، ومعرفة صحة هذا الادعـاء أو بطلانه، وهذا هو السبب في التزامنا بضرورة معرفة الله سبحانه وتعالى ، علما بان الإنسان عادة ما يأخذ بعين الاعتبار حتى إخبار الطفل الصغير إذا كان في مخالفته احتمال الخطر أو الضرر، إذا فعـدم الاكتراث بإخبار المصلحين والأنبياء والأخيار من الأمم المختلفة يعدّ بالتأكيد خلافا للعقل والمصلحة . ثـم إن الإنسان في حياته هـذه غارق فـي أنواع النعم التي تحيط بـه و التي لا يستطيع حتى إحصاءها، وهـذه النعم تغمر حياته منذ نعومة أظفاره و حتى آخر لحظة من حياته، و حجم هـذه النعم كبير للغاية ، بحيث لا يستطيع أي إنسان إنكارها أو غض الطرف عنها ، و العقـل السليم يحكم بلزوم شكر مصدر هذه النعم ، و ذلك لا يتحقق طبعاً إلا بعد معرفة ذلك المنعم، و هـذا دليـل آخـر على لزوم معرفة الله تبارك و تعالـى . ويمكن تلخيص الأمور الداعية إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كالتالي: 1- الاستجابة لهتاف العقل الداعي إلى معرفة البارئ والخالق للكون والحياة . 2- محاولة دفع الأضرار المحتملة التي نبّه عليها الأنبياء و الصلحاء . 3-
السعي ـ بحكم العقل والوجدان ـ لشكر
المنعم الذي أنعم علينا بكل ما نلمسه
ومالا نلمسه من نعمٍ وخيرات غير قابلة
للعدّ والإحصاء والتي تغمر حياتنا . سؤال: ما هي الطرق المؤدية إلى معرفة الله تعالى ؟. جواب: إن الطرق الموصلة إلى معرفة الله تبارك وتعالى كثيرة ومتعددة ، وليست محصورة في عدد معين ، ذلك إننا إذا أمعنا النظر في هذا الكون الواسع الفسيح ، لوجدنا إن كل شـيء فيه لهو دليلٌ واضح على وجود الله وطريق إلى معرفته سبحانه ، طبعا إذا تجاوزت نظرتنـا النظرة المادية الظاهرية للأشياء ، وأعقبتها نظرة ثاقبة و فاحصة تصل إلى بواطن الأشياء ، إذ أن هناك فرق بين النظرة المادية التي تنظر إلى الطبيعة بما هي هي ولا تتخذها وسيلة إلى معرفة الله تعالى ، وبين النظرة الإلهية الثاقبة التي تتجاوز المعرفة الظاهرية للطبيعة وتصل إلى المعرفة الباطنية ، أي معرفة المبدأ والخالق، وذلك عن طريق الإمعان في النظم والسنن الموجودة في هذا الكون ، والدالة على وجود خالق لها . إذن فان طُرق معرفة الله تكون بعدد الظواهر الطبيعية ، ابتداءً بالذرة وانتهاءً بالمجرة، لذا فإننا نجد رجال الوحي ودعـاة التوحيـد يركزون فـي معرفته سبحانـه علـى دعـوة الناس إلى النظر في الأشياء والإمعان في النُظُم والسنن الموجودة فيها . هذا وان طريقـة القران الكريم فـي الدعــوة إلى معرفـة الله تعالـى هـي هـكذا ، وفي ما يلي نذكر بعض النماذج على حسب المثال :
وهنـا نـشير إلى أهم الطرق الموصـلة إلى معرفـة الله سبحانـه وتعالى ، ونختار من الأدلة والبراهين الكثيرة ، أوضحها وأقربها إلى الحس والتجربة ، وهي : 1ـ برهان النظم : وهو البرهان الأول على وجود الله تعالى : إن من أهم الطرق الموصلة إلى معرفة الله تعالى ، هو التدقيق في حقيقة النظم السائد على أجزاء هذا الكون الفسيح من الذرة وحتى المجرة من دون استثناء وتتبع علته ، وهذا التدقيق والتتبّع كفيل بإثبات وجود خالق لهذا الكون ، كما يثبت بان هذا الخالق لا يمكن إلا أن يكون عاقلا عالما قادرا وهادفا، إذ أن حقيقة النظم تكمن في أمور ثلاثة وهي: 1ـ وجود ترابط تام بين أجزاء متنوعة ومختلفة من حيث الكمية والكيفية . 2ـ وجود ترتيب وتنسيق دقيق بينها ، يجعل التعاون والتفاعل فيما بينها ممكنا. 3ـ وجود الهدف والغاية من إيجاد هذا الجهاز المنظم. ثم إن العقل المدُقّق في حقيقة النظم والمتتبع لعلته ، سيحكم فورا بان مصدر ذلك هو خالق عاقل حكيم عالم وهادف ، قد أوجد الأجزاء المختلفة كمّا وكيفا ، ورتبها ونسقها بحيث يمكن أن تتفاعل في ما بينها ، وتتعاون لتحقيق الهدف المطلوب والغاية المقصودة من إيجادها . وهذا الحكم الذي يصدر عن العقل لا يستند إلى شيء سوى إلى ماهية النظام وطبيعته الرافضة للتحقق بلا فاعل عاقل ومدبر، ولا يستند إلى التشابه ، ولا إلى التجربة كما تخيل ذلك "هيوم" 8 وأمثاله . إن هذا البرهان مبتنٍ على قواعد لابد من أخذها بعين الاعتبار و هي : القاعـدة الأولى : إن هـذا الكـون و ما فيه مـن أشياء إنما هـي موجودات حقيقية، وان ما نتصوره فـي أذهاننا إنما هو انعكاس للواقع الخارجي وليست هذه الموجودات موجودات مثالية وخيالية بل هي حقائق موجودة ، ذلك لان كل إنسان ينظر بنظرة وجدانية وواقعية يعتقد ـ على حسب المثال ـ بان القمـر والشمس والأرض والبـحار إنما هـي أجسام وموجودات واقعيــة ، وليست خيالا أو مثالا ، كما زعم ذلك بعض الفلاسفة الخياليين . القاعدة الثانية : إن عالم الطبيعة خاضع لمجموعة من النُظم والسنن المحددة ولا يخرج شيء مما فـي هـذا الكون عن هذه القاعدة ، وان العلوم الطبيعية قـد تمكّنت من معرفة بعض هذه النظم والسنن، وهي لا تزال فـي حالة اكتشاف دائم لمزيد من هـذه الســنن والنُظـم كلما تقدمت خطـوة فـي معرفـة العلـوم الطبيعية . القاعدة الثالثة : إن الكـون بما فيـه مـن نُظـم وقوانين وسـنن وموجودات ، يخضع لقانــون العليّة ، أي إن وجـوده لابـد وان يكون نتيجة لعلة أوجدته وكوّنته، واحتمال وجوده بلا علة، أمر محال لا يعترف به العقل والفطرة . القاعدة الرابعة : إن الأثر دليل علـى وجـود المؤثر ، كدلالـة المعلول على علته، كما هـو المعروف حتى في الأمثال الشائعة، مثل مقولة الأعرابي:" البعرة تدل على البعير،وأثر القدم يدُّل على المسير " وهذه الدلالة مما لا يختلف فيها المادّي والإلهي . ثـم إن دلالة الأثر لا تقتصر على إثبات وجـود المؤثر ، بل لها دلالة أخرى ، وهي الدلالة على خصوصيات المؤثر ، من عقله وعلمه وشعوره، أو خلاف هذه الخصوصيات إذا كان الأثر أثراً فوضويا بعيدا عن الترتيب والنظام والفائدة . ومثال ذلك : إننا لو اطلعنا على موسوعة علمية كبيرة قد اُلّفت في علم الطب وتعرضت لتعريف الأمراض والأسقام وبيّنت طرق معالجتها وأشارت إلى الأدوية المناسبة لعلاجها بصورة دقيقـة ، نعـرف أن لهـذا الكتــاب مـؤلفـا ، كما ونتعـّرف مـن خـلال هـذا التـألـيف علـى خصوصيات هذا مؤلفه القدير ، ونعلـم بان مؤلفه عالم خبير بعلم الطب وله معرفة بأنواع الأمراض ، كما لـه معرفـة بأنواع الأدوية والأعشاب. وكذلك إذا كان الكتــاب الذي حصلنا عليه ديواناً شعرياً عرفنا بان المؤلف لا بـد وان يكون أديبا و شـاعراً ذو معرفـة باللغـة و النـحو والصرف وما إليها مـن العلـو م التـي يحتاج إليها الشـعراء والأدباء . وهـذا أمر واضـح لا يحتـاج إلى نقـاش ، كما أن العكـس صحيـح أيضا ، فلو حصلنا على كتـاب قـد اُلّف بصورة رديئة و مغلوطة و غير مترابطة ، علمنا بان مؤلف ذلك الكتـاب إنسان غيـر محظوظ فـي دراسته وغير موفق لما تناوله من البحوث العلمية و إن مستواه العلمي واطئ وبسيط . ثم إن هذه القاعدة يدركها العقل لا بفضل التجربة بل في ظل التفكر و التعقل ، و هذا هو روح برهان النظم الذي هو من أوضح براهين الإلهين في إثبات الصانع والخالق، و رفض إلالحاد و المادية . هذا وان العلـم لـم يـزل يتقـدم ويكشـف عـن الرمـوز والسـنن المـوجـودة فـي عالـم المـادة والطبيعية ، وهو في حالة اعتراف دائم بأن هذا العالم الذي نعيش فيه من ذرته والى مجرّته عالَم منسجم تسوده أدقّ الأنظمة والقوانين . هنا لنا أن نتساءل عن علة النظم السائد على هذا العالم ، ونقول : ما هي علة النظم السائد على هذا العالم ، وما هو دليـل الانسجام الموجـود فـي عالم المــادة والطبيعة ، وما هو مصدر كل هذه والقوانين والسنن التي نشاهدها في هذا الكون؟ أما الجواب فلا يكون إلا واحدا من اثنين : الأول: أن يكون هنـاك موجـودا عـالما قادرا جامعا للكمال والجمال، وخارجـا عـن إطار المادة ، قـام بإيجاد المـادة وتصويرها وتنظيمها بقوانيـن وسـنن دقيقـة ، وذلك بفضل علمـه وقدرتـه اللامتناهيتان ، وهكذا يكون قـد أوجد العـالـم وأجـرى فيـه القـوانين وأضفى عليـه السنـن الدقيقـة التي لـم يزل العلـم من حين ظهوره حتى الآن جاهدا في كشفها ومستغرقا في تدوينها ، وهذا المؤثر العالم القادر هو الله سبحانه وتعالى . الثانـي: أن تكون المادة الصماء العمياء القديمـة التـي لـم تـزل مـوجـودة ولـم تكن مسبوقـة بالعدم،هي التي قامت بنفسها بإجراء هذه القوانين الدقيقة ، وأضفت على نفسها السنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مرّ القرون والأجيال إلى هـذا النظام العظيم الذي أدهش العقول وبهر العيون . إذا راجعنا القاعـدة الرابعة الآنفة الذكر ، وعرضنا هاتين النظريتين عليها ، لاشك سوف نعرف إن الجواب الأول هو الصحيح ، والجواب الثاني باطل لا محالة ، ذلك لان الأثر ـ كما أشرنا فـي القاعـدة الرابعـة ـ يدلنا على خصوصيات المؤثر ، إضافة إلى دلالتـه على وجود ولزوم المؤثر نفسه ، فلو كان الأثر أثرا دقيقا ومنتظما قد رُوعي فيه أدق القوانيـن العلمية ، فاللازم أن يكون المؤثر قادرا عالما عاقلا وجامعا لصفات الكمال . إذن كيف يمكن أن نقول بان المـادة العميـاء الصماء البكماء الفاقـدة لأي شعـور هـي التـي أوجدت هـذه السنـن والنظـم الراقيـة الدقيقـة التي يعجز العقل البشري عـن استيعابها ومعرفة حقيقتها ، وهو حتى الآن لا يعرف عنها سوى القليل القليل ؟ و كيف يمكن أن تكون المادة العمياء الفاقدة للشعور والعلم قد تمكنت من إضفاء هذه السنن على نفسها من دون محاسبة ، وذلك استنادا إلى نظريـة خياليـة يقـولها الماركسيون ، والتـي ترى أن انفعالات كثيرة حدثت في صميم المادة انتهت بها إلى هذا النظام المبهر بصورة عفوية وعن طريق المصادفة . هذا وان العلـم يأبى قبـول هـذه النظريـة المبتنيـة على التخيلات المتنـاقضـة مـع الأصول العلميـة ، علما بان الاعتقـاد بوجـود خالـق عالـم قـادر ، يتوافق مع العلـم فـي جميع العصور والأزمان . يقول " كلودم هزاوي"ـ مصمم العقل الإلكتروني ـ :" طُلـب مني قبـل عـدة سنـوات القيـام بتصميم آلة حاسبة كهربائية،تستطيع أن تحل الفرضيات والمعادلات المعقدة ذات البعدين، واستفـدت لهـذا الغرض مـن مئات الأدوات واللوازم الإلكتروميكانيكية ، وكـان نتـاج عملـي وسعيي هذا هو "العقل الإلكتروني". وبعـد سنـوات متماديـة صرفتها لإنجاز هـذا العمـل ، و تحمل شتـى المصـاعب وأنا أسعى لصنـع جهـاز صغير ، يصعب عليّ أن أتقبل هـذه الفكـرة وهـي أن يوجـد مـن تلقــاء نفسـه دون حاجة إلى مصمم . إن عالمنا مليء بالأجهزة المستقلة لذاتها والمتعلقة بغيرها في الوقت ذاته ، وتعتبر كل واحدة منها اعقد بكثير من العقل الإلكتروني الذي صنعته ، وإذا استلزم أن يكـون للعقل الإلكتروني هذا مصمم ، فكيف يمكننا إذن أن ننفي هـذا القـول بالنسبـة إلى أجسامنا بما فيهـا من خواص حياتيّة و أعمال فيزيائية وتفاعلات كيميائية ، فلا بد من وجود مصمم حكيم خالق لهذا الكون والذي أنا جزء حقير منه " 9 . ويقول البروفيسور"ادوين كون كلين" ـ في حق هـذه النظريـة -:" إن هـذا الافتراض لا يختلـف عن قولنا – إن قاموساً لغويا ضخما أنتجته المطبعة اثر انفجار فيها" 10 . إن نظام الكون الدقيـق يجعل العلمـاء يتنبّؤن حركة السيـارات والأقمار الفلكية ، كما يُمكّنهم من التعبير عن الظواهر الطبيعية بمعادلات رياضية. إن وجـود هـذا النظام في الكون بدلا مـن الفوضى ، لدليـل واضح علـى أن هـذه الحـوادث تجري وفق قواعـد وأسس معينـة و أن هناك قـوة عاقلـة مهيمنة عليه ، ولا يستطيع كل من أُوتي حظـاً مـن العقـل أن يعتقـد بان هـذه المادة الجامـدة الفاقـدة للحس والشعور- و فـي اثـر الصدفـة العميـاء - قـد مَنحَت نفسها النظـام وبقيت ولا تزال محافظـة عليـه 11 . ومـن هنـا يتضح لنـا أهمية دعـوة القران الكريم الإنسانَ إلى التفكّر والتدبّر في سُنـن هـذا الكون وقوانينه الدقيقة ، ويدعو إلى التعمق في الأثر ، والتدبّر في خصوصياته حتى يهتدي إلى المؤثر وخصوصياته ، وكثيرا ما يشير إلى لفظة "الآية" أو "الآيات" ، و ها نحن نذكر في ما يلي نماذج منها على حسب المثال:
2- برهان الإمكان ، وهو البرهان الثاني على وجود الله تعالى : المراد من الإمكان هو أن الموجودات التي تقع في أفق الحس إما أن تكون موجودات بلا علة ، أو تكون ذات علة ، فلو كانت ذات علة فلا بد وان تكون علتها إما واجبة أو ممكنة ، ثم العلة الممكنة إما أن تكون متحققة بمعاليلها ـ أي الموجودات الإمكانية أو بممكن آخر . فلو قلنا أنها موجودات بلا علة كان قولنا هذا باطلا ، إذ يلزم منه نقض قانون العلية والمعلوليّة وأن كل ممكن يحتاج إلى مؤثر ، ومثل ذلك في البطلان أيضا ما إذا قلنا بان علتها نفسها ، هذا مضافا إلى لزوم" الدور" 17 وهو باطل . وأما إذا قلنا بأنها موجودات لها علة ممكنة، وهذه العلة الممكنة هي أيضا متحققة بهذه الموجودات الإمكانية ، لزم منه الدور أيضا لما عرفت . أما لو قلنا بأنها متحققة بممكن ثان ، والثاني بثالث وهكذا ، لزم من هذا القول "التسلسل" 18 وهو باطل أيضا. لكن لو قلنا بان علتها واجبة ارتفع الإشكال وثبت المطلوب . فلم يبق إلا القول بانتهاء الممكنات إلى الواجب بالذات القائم بنفسه ، المفيض للوجود على غيره . برهان الإمكان في القران الكريم : يعتمد القران الكريم في بيان وعرض معارفه وأصوله ، على أسلوب العرض المستدل بالأدلة والبراهين الواضحة ، ونحن إذ نذكر هنا نماذج من الآيات البينات التي ذكر القران الكريم فيها شقوق برهان الإمكان ، إنما نريد أن نأخذ بتلك البراهين التي استدل القران بها، ولا نريد بذكر هذه الآيات الاستدلال بنفس الآيات ، حتى يكون تقليدا في المسائل الإعتقادية، و ها نذكر نماذج من تلك الآيات : يشير القران الكريم إلى أن الممكن لا يملك لنفسه ولا لأي شيء آخر وجودا ، بل يفتقر إلى غيره ، ويقول : ويشير القران إلى أن الممكن ـ الذي منه الإنسان ـ لا يتحقق من دون علة ، كما لا يمكن أن تكون علته نفسه ، ويقول:
ويبين القران الكريم أن الممكن لا يصح أن يكون خالقا لممكن آخر بالأصالة والاستقلال ، ومن دون الاستناد إلى خالق واجب ، ويقول : { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } 22 . 1- برهان حدوث المادة : إن نفاد الطاقات وانتهاؤها دليل على أن وصف الوجود والتحقق بالنسبة إلى المادة ليس أمرا ذاتيا لها بل هو أمر عرضي ، ذلك لأنه لو كان الوجود بالنسبة إليها ذاتيا ، لزم أن لا يفارقها في أي وقت لا أزلاً ولا أبداً ، فنفادها وزوال هذا الوصف عنها ، خير دليل على أن الوجود أمر عرضي بالنسبة للمادة وغير نابع من صميم ذاتها ، ويلزم من ذلك أن يكون لوجودها بداية ، إذ عدم وجود البداية لها شأن "الذاتي" ، ولو كان الوجود ذاتيا لها لوجب أن لا تكون لها نهاية كما يجب أن لا تكون لها بداية. ولقد اثبت العلم حدوث المادة وعدم ذاتية وجودها ، وذلك عندما اثبت أن هناك انتقالا حراريا مستمرا من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة ، و لا يمكن أن يَحْدُث العكس بقوة ذاتية ، بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة ، ومعنى ما أثبته العلم هو أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة والبرودة وينضُبُ فيها معين الطاقة ، وعندها سوف لن تكون هناك عمليات كيميائية أو طبيعية ، ولن يكون هناك اثرٌ للحياة نفسها في هذا الكون . ولما كانت الحياة لا تزال قائمة و لا تزال العمليات الكيميائية والطبيعية تسير في طريقها ، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا ، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود ، وهكذا نجد أن العلوم قد توصلت ـ من دون قصد ـ إلى أن لهذا الكون بداية . هذا وأننا لو أخذنا هذا البرهان ، أي برهان حدوث المادة والبراهين السابقة ، أي برهان الإمكان وبرهان النظم بعين الاعتبار ، لتوصلنا إلى نتيجة قطعية ألا وهي إن موجد هذا الكون لابد وان يكون خالقا مدبرا حكيما عالما وقادرا ، قد أوجد الكون وخلق الأشياء بقدرته ، وهو واجب الوجود الذي لا يحتاج في وجوده إلى موجد كسائر الأشياء. وهناك
براهين أخرى ذكرها علماء الكلام بصورة
مفصلة ، يجدها الباحث مدوّنة في الكتب
الكلامية ، فمن شاء فليراجعها 23
تغمر حياتنا . سؤال: كيف يمكن إثبات علةٍ خالقةٍ للكون على غِرار المصنوعات البشرية ، والحال أنهما صنفان مختلفان ؟ جواب : هذا السؤال هـو في الحقيقـة ، إشكال طرحه الفيلسوف الإنكليزي "ديفيد هيـوم" 24 علـى برهان النظم إذ قال : إن مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكـون موجـود طبيعـي ، فهما صنفان لا تسـانخ بينهمـا ، فكيـف يمكـن أن نستكشـف مـن أحدهما حكـم الآخر، هـذا وإننـا قـد جـربـنـا المصنوعات البشرية فوجدناها لا تُوجد إلا بصانع عاقل ، في حين إننا لم نجرب ذلك بالنسبة إلى الكون ، وذلك لان وجود الكون لم يتكرر حتى يقف الإنسان على كيفيـة خلقـه وإيجاده ، فلا يمكن إثبات علةٍ خالقةٍ له على غرار مصنوعات البشر ؟ ، لكن ما ذكره مـن الإشكال على برهـان النظـم، إنما ينُمّ عـن فهـم سـاذج وسطحي وتوهّـم لبرهان النظم ، ويعرُب عن عدم فهـم واستيـعاب له بصورة صحيحة ، إذ أن هذا البرهان لا يرتبط أبدا بالتشابه والتمثيل والتجربة، وليس قائما على هذا الأساس حتى يرد عليه هذا الإشكال ،و إنما هو برهان عقلي تـام قـائـم علـى ملاحظـة العقــل للنظـم والتنـاسـق والانضباط الموجود بين أجزاء الوجود ،فيحكم العقل من دون تأثير لأية تجربة ومشابهة بأن مُوجِد النظم لا محالة يكون مُوجِداً ذا شعور وعقل ، وخالق قدير. وبعبارة
أخرى : إن برهان النظم مركب مـن مقدمتين ،
إحداهما حسيـة والأخرى عقليـة ، ودور الحس
ينحصر في إثبات الموضوع ، أي وجود النظام
في الكون والسنن السائدة عليـه ـ وهذا مما
لا يحتاج إلى إثبات ، ذلك لان جميع العلـوم
الطبيعية متكفّلة ببيان النُظُم
البديهيـة السـائـدة علـى العـالـم ــ
وأما دور العقل فهو يرجـع إلى أن هـذا
النظام بهـذه الكيفيـة والكمّيـة
المحدّدة لا يمكن أن يكون نتيجة للصدفة ،
أو لأي عامل آخر فاقد للشعور ، بل يجب أن
يكون صادرا عن فاعل عاقل وحكيم وخالق
مدبّر و قدير . سؤال : إن واجب الوجود في فرض الإلهيين شيء متحقق بلا علة ، وهذا يستلزم تخصيص القاعدة العقلية القائلة بان الشيء لا يتحقق بلا علة ، إذن كيف يمكن الجمع بين ذلك الفرض وهذه القاعدة العقلية ؟ جواب : الجواب على هذا السؤال يكون بأمور ثلاثة : 1- إن الإشكال الموجّه إلى الإلهيين يتوجه أيضا إلى الماديين ، وذلك لان كلاهما يعترفان بموجود قديم فوق عالَم المادة والإمكان تنتهي إليه الممكنات ، أما الماديون فهم يرون أن ذلك الموجود المتحقق بلا علة هو المادة الأولى التي تتحول وتتشكل إلى صور وحالات ، وعلى هذا فيجب على الإلهيين والماديين الإجابة على هذا السؤال على حدّ سواء ، ولا يتوجه الإشكال إلى الإلهيين فحسب ،كما زعم ذلك ، الفيلسوف الإنكليزي " برتراند راسل " . 2- إن القاعدة العقلية تخُص الموجودات الممكنة والظواهر المادية المسبوقة بالعدم والتي تحتاج في وجودها إلى علة ، إذ لولا العلة للزم وجود الممكن بلا علة ، وهو محال . ثم إن واجب الوجود في فرض الإلهيين غني عن العلة والإيجاد ، وذلك لكونه أزليا قديما غير مسبوق بالعدم ، والحاجة إلى الإيجاد من خصائص الشيء المسبوق بالعدم ، إما لو كان موجودا في الأزل فلا يحتاج إلى الجعل والإيجاد . ولقد
اشتبه السائل حيث تصور أن الحاجة إلى
العلة هي من خصائص الموجود بما هو موجود ،
والحال إنها ـ أي العلة ـ إنما هي من خصائص
الموجود الممكن المسبوق بالعدم، وواجب
الوجود خارج عن هذه القاعدة ، إذ القاعدة
لا تشمل واجب الوجود . سؤال : ما هو المانع من رؤية الإنسان لله سبحانه وتعالى في الآخرة وحتى في الدنيا ؟ جواب : قبل الإجابة على السؤال لابد وأن نعرف بأن معنى الرؤية عند أهل اللغة هو النظر أو البصر بحاسة العين ، أما التفسير العلمي لعملية الأبصار والرؤية فهو : وصول ضوء الأجسام ـ إذا كانت مضيئة بنفسها كالشمس والقمر والمصابيح ـ أو الضوء المنعكس منها ـ إذا لم تكن مضيئة بنفسها كالمباني والأشجار ـ إلى العين باختراقه للقرنية وانكساره وعبوره من العنبية ووروده العدسة وانكساره ثانية ، ثم تمركزه على الطبقة الحساسة داخل العين المسماة بالشبكية وحصول صورة مقلوبة رأسا على عقب من الجسم المبصر ، تنتقل الصورة بعدها إلى الدماغ بواسطة أعصاب الرؤية ، وهكذا تحصل الرؤية ولا يزال العلماء المختصون يجهلون حقيقتها ، هذه هي الرؤية . لكن لكي تتحقق الرؤية فلابد من اجتماع شروط عديدة حتى تتم الرؤية ، ومن تلك الشروط : أن يكون الشيء المراد رؤيته ضوءً أو لونا أو شكلا ، وان يكون الجسم المراد رؤيته مضيئا أو مضاءً ، وأن تكون بين الرائي والمرئي مسافة كافية للرؤية من حيث القرب والبعد وأن يكون الجسم المرئي كثيفا ، وأن يكون حجمه قابلا للرؤية . إذا اتضح ما قدمناه فنقول : إن الرؤية بمعنى المعرفة بالله والعلم به جائزة ، أما الرؤية بالبصر فمستحيلة لمنافاتها لأصل التوحيد ، إذ المشروط في من تراد رؤيته أن يكون في جهة وحيّز ، وأن يكون غير مجرد ـ أي يكون جسما ـ لأن هذه الأمور تعد من أساسيات تحقق الرؤية ، ولما كان الله سبحانه وتعالى منزها عن الجهة والحيّز فيستحيل وقوع الرؤية عليه تعالى ، هذا من الجانب العقلي والعلمي ، أما من حيث الآيات والنصوص الشرعية فلنا من القرآن الكريم آيات محكمات تؤيد حكم العقل بامتناع الرؤية منها :
سؤال : ما هو معنى الإرادة والمشيئة بالنسبة إلى الله تعالى ؟ وما هو الفرق بينهما ؟ جواب : المقصود من قولنا " أن الله مُريد " هو أنه تعالى مختارٌ وليس بمجبورٍ ولا مضطرٍ . أما الإرادة ـ بمعناها المعروف في الإنسان والذي هو أمر تدريجي وحادث ـ لا مكان لها في الذات الإلهية المقدسة ، بل يجب تجريدها ـ أي الإرادة ـ من شوائب النقص وحملها على الله بالمعنى الذي يليق بساحته ، مجردة عن سمات الحدوث والطروء والتدرج والانقضاء بعد حصول المراد ، فان ذلك كله من خصائص إرادة الإنسان، ولإستلزام الإرادة بهذا المعنى طروء الحدوث على ذاته سبحانه وتعالى . من أجل هذا وُصفت الإرادة الإلهية في أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) بأنها نفس إيجاد الفعل وعينُ تَحقّقهِ ، منعاً من وقوع الأشخاص في الانحراف والخطأ في تفسير وتوضيح هذه الصفة الإلهية . روى صفوان بن يحيى ، قال قلت لأبي الحسن ـ أي الأمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام ) ـ أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق 25 ؟ قال : فقال ( عليه السلام ): " الإرادة من الخلق : الضمير وما يَبْدُو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فإرادته : إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يُرَوّي ولا يهم ولا يَتَفَكَّرُ ، وهذه الِصّفاتُ مَنْفّيةٌ عنه وهي صفاتُ الخَلْقِ ، فإرادةُ اللهِ الفِعْلَ ، لا غير ذلك يقولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بلا لَفظٍ ولا نُطقٍ بلسان ولا همّة ولا تفكّر و لا كَيفَ لِذلكَ ، كما أنه لا كَيف له " 26 . إذن فوصفُ الله سبحانه وتعالى في مقام الذات بأنه مريد يكون بمعنى أنه مختار ، ووصفه به في مقام الفعل يكون بمعنى أنه موجد ومحدث . ثم إن ما يمكن تصوره بالنسبة إلى الفعل الصادر عن الفاعل هو إحدى الصور الرابعة التالية :
أما بالنسبة إلى مشيئة الله تعالى فالظاهر أن الإرادة والمشيئة متحدان في المعنى رغم اختلاف التسمية ، والى هذا الرأي تشير بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام ) منها قول الأمام الرضا ( عليه السلام ) : " وأعلم : أن الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة " 28 . وهناك تفسير أخر للإرادة والمشيئة وهو أن الإرادة هي أمر الله تعالى ، وإليه تشير الآية الكريمة : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } 29 ، أما المشيئة فتعني أن الله تعالى قادر على منع العباد عن ما يريدون فعله وهم غير قاهرون لله تعالى ، بمعنى أن إرادتهم غير خارجة عن نطاق القدرة الإلهية بل محدودة ضمن المشيئة الإلهية ، والى هذا تشير بعض الروايات المروية عن أهل البيت ( عليهم السلام ) : عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : " إن لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتم وإرادة عزم ، ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء ، أو ما رأيت الله نهى آدم ( عليه السلام ) وزوجته أن يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك ، إذ لو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز وجل " 30 . سؤال : ما هو المقصود من " البَدَاء "، وما هو رأي الشيعة الإمامية فيه؟ جواب : " البَدَاء " في اللغة هو الظهور والإبانة بعد الخفاء . قال الراغب الاصفهاني في كتابه مفردات القرآن : " بدا الشيء بدوءاً وبداءاً : ظهر ظهورا بيّناً " 31 ، ومن الواضح أن الظهور إنما يكون بعد الخفاء . ولقد جاء ذكر البَدَاء بهذا المعنى في القرآن الكريم في مواضع منها :
وقد يطلق البَدَاء ويراد منه تغيير الإرادة وتبدّل العزم تبعا لتغيّر العلم ، كقوله تعالى:{ ثم بَدَا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } 36 . ولقد اتفقت الشيعة الإمامية بأن البَدَاء بمعنى الظهور بعد الخفاء ، وبمعنى تغيّر الإرادة والعزم يستحيل إطلاقه على الله سبحانه وتعالى ولم يقل به أحد من الشيعة بتاتا ، لأنه كما هو واضح مستلزم لحدوث علمه وتغيّره وتبدّل إرادته وعدم إحاطته بما كان وما هو كائن وما سيكون ، ولا يُظن بمسلم عارف بالكتاب والسنة أن يُطلق البَدَاء بهذا المعنى على الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . ولقد جاء في الحديث عن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام) هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : " لا ، من قال هذا فأخزاه الله ". قلت : أرأيت ما كان ، أرأيت ما هو كائن إلى يوم القيامة ، أليس في علم الله ؟ قال : " بلى قبل أن يخلق الله الخلق " 37 . ثم إن النصوص الشريفة من القرآن والحديث تؤكد بطلان هذا الإطلاق كلياً ، وفيما يلي نشير إلى بعض الآيات والأحاديث الدالة على استحالة إطلاق هذا المعنى على الله سبحانه وتعالى :
لذا فقد اتفقت الشيعة الإمامية تبعاً لنصوص القرآن والحديث والبراهين العقلية على أنه سبحانه وتعالى عالم بالأشياء والحوادث كلها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، كليها وجزئيها ، لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض . فالبَدَاء بمعنى تغيّر الإرادة وتبدّل العزم الناشئين عن تجدد علمه لم يقل به أحد من الشيعة بالنسبة إلى الله تعالى ، بل يرونه ضلالًا وفساداً في العقيدة ، وكل ما يُنسب إليهم إنما هو افتراء وبهتان أو نتيجة لسوء الفهم أو لعدم الاطلاع على رأي الشيعة بالنسبة إلى هذا الموضوع ، كما هو السبب في كثير من الأمور الأخرى . كلما هناك أن البداء قد يُطلق ويُراد منه تعليق أمر على آخر ، ولازم ذلك عدم حصول المشروط إذا لم يحصل الشرط . وقد ورد في جملة من المرويات عن الأئمة أن من وَصَل رَحِمَه مَدّ الله في حياته وضاعف له الرزق ، ومعنى ذلك أن الله جعل لصلة الرحم هذه الآثار ، فإذا أوجد الإنسان هذا الأمر ترتب عليه أثره وان لم يحصل الأثر المجعول لعدم حصول شرطه ، والأمثلة على ذلك كثيرة نشير إلى بعضها كالتالي :
ومجمل القول في البَدَاء إن الله تعالى عالم بكل شيء ما كان وما هو كائن وما سيكون وأن علمه غير حادث ولا يتجدد ، لكنه سبحانه وتعالى علّق أمورا على بعضها بحيث إذا أتى الإنسان بها تغيرت الأمور بالنسبة إليه وظهرت له ـ أي للإنسان ـ بصورة لم يكن يتوقعها ، وعلى هذا الأساس تؤول الأحاديث التي تشير إلى البداء . يقول آية الله الخوئي ( رحمه الله ) : " والبداء إنما يكون في القضاء الموقوف ، المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات ، والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله . فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالَم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه ، وأن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً . بل وفي القول بالبَدَاء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين ، فعلم المخلوقين ـ وإن كانوا أنبياء أو أوصياء ـ لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى ، فان بعضا منهم وإن كان عالما ـ بتعليم الله إيّاه ـ بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فانه لا يعلم بمشيئة الله تعالى ـ لوجود شيء ـ أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم 46 . والقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه إجابة دعائه منه ، وكفاية مهماته ، وتوفيقه للطاعة ، وابعاده عن المعصية . فان إنكار البَدَاء والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة ـ دون استثناء ـ يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه ، فان ما يطلبه العبد من ربّه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه فهو كائن لا محالة ، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل ، وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبداً ، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرّع ، وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه ، حيث لا فائدة في ذلك . وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين ( عليهم السلام ) أنها تزيد في العمر أو في الرزق ، أو غير ذلك مما يطلبه العبد . وهذا هو سر ما ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) من الاهتمام بشأن البداء . فقد روى الصدوق في كتاب " التوحيد " بأسناده عن زرارة ، عن أحدهما 47 ، قـال : " ما عُبد الله عزّ وجل بشيءٍ مثل البداء " 48 . وروى بأسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : " ما بعث الله عزّ وجل نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وأن الله يُقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء " 49 . والسر في هذا الاهتمام أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا " 50 .
|
|||
|
|
|
|
|
|