الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المعارف الإسلامية

الامر بالمعروف و النهي عن المنكر

* الشيخ  مصطفى قصير  ( لبنان )

قال تعالى في محكم كتابه:

(والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض   يأمرون بالمعروفِ ويَنْهَوْنَ عن المنكرِ ويقيمونَ الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون اللّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللّه إن اللّه عزيز حكيم)([1]) .

وروي عن الامام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) أنه قال في حديث له :

« إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الارض ، وينتصف من الاعداء ، ويستقيم الامر ، فأنكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم ...»([2]) .

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في حديث عن فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر :

« ... إذا أدّيت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هيّنها وصعبها ، وذلك أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم ، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها »([3]) .

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات والتكاليف الشرعية التي نصّ عليها القرآن الكريم ، وأكّدتها السنة الشريفة ، وحثّ عليها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) . هذه الفريضة المهمة تعد ضمانة لحفظ الدين من الضياع ، وصيانة المجتمع الاسلامي من الفساد والانحراف .

وقد جعلها اللّه سبحانه وتعالى في عاتق كل فرد من أفراد المجتمع الاسلامي بما يتناسب مع موقعه وقدرته ، لتشكّل حالةً من التكافل الاجتماعي في المجال التربوي والاخلاقي ، على غرار التكافل الاجتماعي في المجال الاقتصادي والمعاشي ، الذي وضعت له الشريعة الاسلامية سلسلة من الاحكام والقوانين .

وفي العصر الحاضر ونتيجة للتطور الحضاري السريع الذي عمّ العالم أجمع  ، نجد أن وسائل التأثير الثقافي والتربوي قد تطورت أيضاً ، وتصاعدت بذلك قدرة زعماء الكفر وروّاد الفساد على بثّ سمومهم وأفكارهم المنحرفة ، وإيصالها إلى كل مكان ، مستخدمين أكثر الوسائل الشيطانية اغراءً وايحاءً .

أضف إلى ذلك السيطرة السياسية التي تمهّد الارضية الملائمة لنشر الفساد وزرع بذور التفكّك الخلقي ، بحيث يمكن أن يقال أن مهمّة الانبياء والشرائع السماوية تتعرّض اليوم لاعتى الحروب وأشرسها وبوسائل وأسلحة حديثة وفتّاكة .

من أجل هذا كان علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نفكر بتطوير أدواتنا ، وشحذ أسلحتنا ، وزيادة استعدادنا لخوض هذه الحرب بكامل القدرات والامكانيات ، وترك التواكل .

والشريعة الاسلامية الغرّاء التي تهدف إلى كمال الانسانية وتنظيم شؤون البشر ، لها عناية خاصة بإصلاح الفرد عن طريق الرقابة والمحاسبة النفسية ، فتعتمد على قدرة الانسان على التحكّم بقواه الشهوانية وغرائزه الحيوانية بما أوتي من عقل وقوة مدركة ، ومجموعة الاحكام والتعاليم التي تُعنى بهذا الجانب الاصلاحي اُطلق عليها اسم : جهاد النفس ، والجهاد الاكبر .

كما أن للشريعة الاسلامية عناية اُخرى تخصّ حالة الاصلاح من خارج النفس  ، عن طريق الغير ، اُطلق عليها اسم : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي وظيفة الانسان تجاه بني جنسه ومجتمعه ، ويمكن أن نقول أنها وظيفة تحمّل الفرد مسؤولية إصلاح المجتمع ومراقبته ، كما حمّلته مسؤولية إصلاح نفسه ومراقبتها في مرتبة سابقة .

والقرآن الكريم يحكي لنا وصايا لقمان لابنه وهو يعظه ، ومن جملتها :

(يابنيّ أقم الصلاةَ وامر بالمَعروفِ وانهَ عن المنكرِ واصبرْ على ما أصابكَ إنّ ذلكَ منْ عزمِ الامورِ)([4]) .

فجعل الامر بالمعروف بعد إقامة الصلاة ، لان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فهي من أبواب صلاح النفس ، والامر بالمعروف مسؤولية إصلاح المجتمع ، وهذا الترتيب طبيعي جداً ، النفس ثم الغير .

وعن علي(عليه السلام) أنه قال : « وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنما أُمرتم بالنهي بعد التناهي »([5]) .

وقال(عليه السلام) : « لا تكن ممّن ينهى ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي »([6]) .

وقال(عليه السلام) : « لعن اللّه الامرين بالمعروف التاركين له والناهين عن المنكر العاملين به »([7]) .  

الاسلوب العملي للامر بالمعروف :

وعلى ضوء ذلك تتبيّن أهمية الالتزام العملي بالمعروف ، حتى أنه في كثير من الاحيان يكون نفس الالتزام العملي كافياً في دعوة الاخرين إلى العمل بالمعروف وترك المنكر ، فكيف به إذا اقترن بالقول ؟ نعم يمكن أن نعمّم مفهوم «الامر» إلى ما هو أوسع دائرة من الامر القولي ، فإنه وإن كان ظاهر الامر اختصاصه بالقول ، لكن باعتبار أن الغرض من ذلك تحقيق الالتزام بالمعروف والاتيان به من قبل المأمور ، ترتفع خصوصية الامر القولي ، ويتعدّى ملاك الحكم إلى كل اُسلوب من أساليب الدعوة إلى المعروف والزجر عن المنكر . فربما تكون الممارسة العملية من أفضل وسائل نشر المعروف ، كما هو الحال بالنسبة لنشر المنكر والفساد .

فللمارسة العملية إذن دوران مهمّان ، دور باعتبارها إحدى وسائل وأساليب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودور باعتبارها أحد شروط تأثير الدعوة اللفظية للمعروف .

ومن الطبيعي جداً أن لا يجد الداعية أي نتائج عمليّة في نشاطه التبليغي والتربوي ، إذا كان شخصياً ممن يتسامح عملياً بالتزاماته ، ولا يدعم نظرياته بالتطبيق ، ولا يتقيّد بالتناهي عن المنكرات . ولعل أميرالمؤمنين(عليه السلام) أراد الاشارة إلى هذا الامر في خطبته التي يقول فيها :

« أيها الناس ، إني واللّه ما أحثّكم على طاعة إلاّ وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلاّ وأتناهى قبلكم عنها »([8]) .

وهذه نقطة جديرة بالاهتمام والوقوف عندها ، بالنسبة لمؤسساتنا المتصدّية للدعوة والتبليغ والامر بالمعروف والنهي عن المنكر . فمن الضروري جداً التأكيد على عناصر هذه الاجهزة بأن يتقيّدوا بدقّة بالاحكام الشرعية ، والقوانين الموضوعة من قبل الدولة الاسلاميّة ، ليكونوا مثالاً يُقتدى به من جهة ، ولتصدّق أعمالُهم أقوالَهم فيما لو طلبوا من الاخرين التقيّد بها .

وفي رواية عن أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام) يخاطب فيها شيعته فيقول :

« كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ; ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير ، فإن ذلك داعية »([9]) .

والمقصود من قوله : بغير ألسنتكم : أي بجوارحكم وأعمالكم . وقريب من هذا المعنى قوله(عليه السلام) :

« رحم اللّه قوماً كانوا سراجاً ومناراً ، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود
طاقتهم ...  »([10]) .  

ساحة الامر بالمعروف :

للامر بالمعروف والنهي عن المنكر ساحتان ، تتطلّب كلّ منهما من الادوات والاساليب والمخطّطات ما يغاير الاُخرى :  

الساحة الاُولى : داخلية ، ونعني بها ساحة المجتمع الاسلامي ، المجتمع الذي يغلب عليه الالتزام بالدين عقيدة وشريعة . والتركيز هنا يكون على حفظ المجتمع من الانحراف ، وتحصينه ضد المفاسد الخلقية والاجتماعية ، وتعميق ثقافته ووعيه بما يكفل استمرار المسيرة وتحقيق أهداف الشريعة .

وفي هذه الساحة تارة يكون ترك المعروف وارتكاب المنكر حالة فرديّة فيعمل على إصلاحها ، واُخرى يكون ذلك حالة جماعيّة منظّمة فتتطلّب مواجهة منظمة أيضاً ، وقدرات مجتمعة وقيادة . وإذا اُطلق على هذه المواجهة اسم الجهاد  ، فلا يمنع ذلك من كونه بعض أساليب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر  ، فإنّ الجهاد يتميز باعتماد القوة والسيف في معالجة الانحرافات الجماعيّة . وسيأتي أن بعض مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر : التغيير باليد المنطبق على الجهاد ، وغيره من الاساليب التي تعتمد القوة . نعم هذا النوع له شروط وأحكام خاصة تغاير النوع الاول ، وسيأتي الحديث عنه تفصيلاً إن شاء اللّه .  

الساحة الثانية : خارجية ، ونعني بها المجتمعات غير المسلمة ، التي لها على عاتق المسلمين الرساليين حق التبليغ والدعوة إلى الدين ، وتعريفها الاسلام ومعارفه ونظامه ، بما يتيح لها فرصة الاستنارة بنوره والاهتداء بهديه ، والدخول تحت ظلّه .  

الارشاد والتبليغ :

ربما خصّ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الساحة الثانية المذكورة باسم : التبليغ أو الدعوة أو الارشاد ، وهذا يبنى على اساس أن ذلك منحصر في تعريفهم بالدين ، باعتبار أن الامر بالمعروف يتوقف على أن يكون المأمور عارفاً بالمعروف والمنكر ، وهو هنا ونتيجة لجهله بأحكام الدين لا يعرف المعروف ولا المنكر . فلابدّ أولاً من إرشاده إليه ، فإذا عرفه ولم يتقيّد به صار مورداً للامر بالمعروف . وهذا صحيح ، بل ربما يفرّق بين الارشاد إلى المعروف والامر بالمعروف في المجتمع الاسلامي أيضاً ، إلاّ أن العمل في الساحة غير الاسلامية لا  ينحصر بتعريفهم بالدين ، فكثيراً ما يكون المعروف عند المسلمين معروفاً عند غيرهم ، والمنكر كذلك . كالسرقة التي يستقبحها العقل فضلاً عن الشرائع ، وكالكذب الذي يعتبره جميع البشر منكراً ، وغير ذلك من الزنى والقتل والظلم والجور والاخلال بالعهود والعقود ... إلخ . فالنهي عن مثل هذه المنكرات يدخل في إطار هذه الفريضة ، ويمكن بذلك تعديتها إلى المجتمعات غير الاسلامية ، مع قطع النظر عن دعوتهم إلى الاسلام وإرشادهم إلى تعاليمه القيّمة . وقد يستفاد من بعض الاخبار انطباق عنوان الامر بالمعروف على إرشاد الجاهل أيضاً ، فقد روي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال : « إنما يؤمر بالمعروف مؤمن فيتّعظ ، أو جاهل فيتعلّم ، فأما صاحب سوط وسيف فلا »([11]) .  

*      *      *  

شرائط هذه الفريضة :

ذكر الفقهاء شروط وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يلي :

1 ـ معرفة الامر والناهي بالمعروف والمنكر ، فلا يجب على الجاهل بهما . ولم يفرّقوا بين العلم الحاصل عن اجتهاد أو عن تقليد .

روي عن أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام) أنه قال : « إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال : عالمٌ بما يأمر عالم بما ينهى ، عادلٌ فيما يأمر عادلٌ فيما ينهى  ، رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى »([12]) .

وسئل الامام الصادق(عليه السلام) عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر : أواجبٌ هو على الامة جميعاً ؟ قال : لا ، فقيل : ولم ؟ قال : « إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلاً إلى أيّ من أيّ ، يقول : إلى الحق أم إلى الباطل »([13]) .

2 ـ احتمال التأثير ، فلو علم أو اطمأن أن أمره أو نهيه لن يترك أثراً ولو بضميمة المؤثّرات الاخرى لم يجب عليه ذلك . ولا ينحصر التأثير المطلوب بتحقّقه مباشرة ، وبسبب أمره أو نهيه مستقلاً ، بل يدخل فيه مالو كان مؤثّراً بانضمام أمر الاخرين ونهيهم ، أو بتكرار ذلك ، أو كان يؤثّر بعد زمن .

أما مع اليأس من التأثير فلا يجب الامر ولا النهي ، ويشير إليه ما تقدّم عن الصادق(عليه السلام) في قوله : « فأما صاحب سوط وسيف فلا » .

إذ إنه كثيراً ما ينعدم احتمال التأثير مع أمثال هؤلاء ، لان صاحب السلطة مغرور إلاّ من التزم الحقّ واتّبعه .

وقد سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الرسول(صلى الله عليه وآله) : « إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ، ما معناه ؟ قال : هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه
وإلاّ فلا  »([14]) .

3 ـ أن يكون العاصي مصرّاً على الاستمرار ، فلو علم منه الترك سقط الوجوب  ، باعتبار أن الغرض من النهي عن المنكر تحقّق الترك ، وقد حصل ، فيكون فعله تحصيلاً للحاصل ولغواً ، وربما أثّر سلباً فكان تركه أولى ، وكذلك في جانب فعل المعروف .

4 ـ أن لا يكون في الامر بالمعروف أو النهي عن المنكر مفسدة أهم من فوت المعروف أو مفسدة المنكر ، فبحسب قاعدة التزاحم تسقط فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمفسدة الاهم تارة تكون على الامر الناهي ، كما لو كان ذلك يؤدّي لتوجّه ضرر معتدّ به على نفسه أو عرضه أو ماله المعتد به ، وتارة تكون على غيره كما لو انعكس الامر بالضرر على قومه وأصحابه وأتباعه  ، أو على مذهبه ودينه ، فعند ذلك يسقط الوجوب بل ربما حرم .

وهذا إنما يتصوّر في الموارد التي يكون فيها المعروف والمنكر دون المفسدة أهمية كما وضّحنا . أما الموارد التي يعلم اهتمام الشريعة المقدّسة بها ، كحفظ النفوس المحترمة ونواميسهم ، وحفظ آثار الاسلام وشعائره الكبرى ، وأمثال ذلك مما يرخص في مقابله الغالي ويهون النفيس حتى لو كان مالاً أو نفساً ، فلابدّ من البذل والتضحية في سبيل ذلك .

ومن الموارد المهمة في نظر الشريعة المقدسة ظهور البدع المؤدية إلى هتك الاسلام وزعزعة عقائد المسلمين ، فلا يجوز في مثل هذه الموارد سكوت أهل العلم والزعامة المذهبية ، بل يتعين عليهم التصدّي لاظهار الحق وفضح البدع ، ولو علم عدم التأثير على أهل تلك البدع ، لان المقصود الحيلولة دون انخداع العوام وضعفة العقول بها ، إذا لم يمكن محوها وإزالتها .  

دائرة الامر والنهي بين الحاكم والامة :

روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنه قال : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليعمّكم اللّه بعذاب » ثم قال : « من رآى منكراً فلينكره بيده إن استطاع ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنه لذلك كاره »([15]) .

وعن علي(عليه السلام) قال : « أيها المؤمنون ، إنه من رآى عدواناً يعمل به ، ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق ونوّر في قلبه اليقين »([16]) .

وتبعاً لمثل هذه النصوص قسّم الفقهاء مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى ثلاثة ، ينتقل إلى المرتبة اللاحقة عند العجز عن المرتبة السابقة ، وكل مرتبة من المراتب الثلاثة لها مراتب من حيث الشدّة والضعف بما يتناسب مع الموضوع . وهذا الترتيب طبيعي جداً ، بعد أن فرضنا أنّ كل فرد في المجتمع مسؤول عن صلاح المجتمع الاسلامي وسلامته ، وبعد أن فرضنا أن التكاليف الشرعية منوطة بالقدرة وأنها تسقط بالعجز .

إلاّ أن بعض مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى تنظيم وإدارة وإشراف من قبل المتولّي لشؤون المسلمين ، لان إطلاقها وترك أمرها لعامّة المسلمين يؤدّي إلى الوقوع في مفاسد كبرى أشدّ خطراً على المجتمع من خطر المنكر وترك المعروف .

قال الشيخ المفيد : «إلانكار باليد بالقتل والجراح لا يكون إلاّ بإذن السلطان المنصوب لتدبير الانام ، فإن فقد الاذن بذلك لم يكن له إلاّ بما يقع بالقلب واللّسان وباليد ، ما لم يؤدّ إلى سفك الدماء ، وما تولّد من ذلك من إخافة المؤمنين على أنفسهم والفساد في الدين ... أما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الاسلام المنصوب »([17]) .

وقال الشيخ الطوسي : « وإنكار المنكر يكون بالانواع الثلاثة التي ذكرناها ، فأما باليد ، فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب ، إما الجراح أو الالم أو الضرب ، غير أن ذلك مشروط بالاذن من جهة السلطان ، حسب ما قدّمناه ، فمتى فقد الاذن من جهته اقتصر على الانكار باللسان والقلب »([18]) .

وقال الشيخ سلار الديلمي : « فأما القتل والجراح في الانكار فإلى السلطان أو من يأمره السلطان ، فإن تعذّر الامر لمانع فقد فوّضوا(عليهم السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود والاحكام بين الناس »([19]) .

وهكذا باقي الفقهاء حتى زماننا هذا . يقول الامام الخميني(رضوان اللّه عليه) : «لو لم يحصل المطلوب إلاّ بالضرب والايلام فالظاهر جوازهما مراعياً للايسر فالايسر ، والاسهل فالاسهل . وينبغي الاستيذان من الفقيه الجامع للشرائط ، بل ينبغي ذلك في الحبس والتحريج ونحوهما . ولو كان الانكار موجباً للجرّ إلى الجرح أو القتل فلا يجوز إلاّ بإذن الامام(عليه السلام) على الاقوى ، وقام في هذا الزمان الفقيه الجامع للشرائط مقامه مع حصول الشرائط »([20]) .

نعم لابدّ من استثناء المنكرات التي يعلم أن الشارع المقدّس لا يرضى بوجودها مطلقاً ، كقتل النفس المحترمة ، والاعتداء على الاعراض ، وماشابه ذلك . ففي هذه الموارد يمكن القول بعدم توقّف دفعها على إذن الامام ، ولو استوجب الجرح بل القتل ، فلو توقف دفع القاتل على قتله فإن الاقدام على ذلك لا يحتاج إلى إذن من الامام ومن يقوم مقامه .

وظاهر كلمات الفقهاء أعلى اللّه مقاماتهم أن التدرج في المراتب من الانكار بالقلب إلى اللسان ثم إلى اليد ، فينتقل إلى المرتبة العليا عند عدم تأثير المرتبة الدنيا . وظاهر بعض الاخبار أن الفريضة تبدأ بالمرتبة العليا ، ولا ينتقل إلى السفلى إلاّ عند عدم القدرة . كما في الرواية الواردة عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان »([21]) .

وما تقدم أيضاً عن علي(عليه السلام) في قصار حكم نهج البلاغة .

وعلى أي حال ، فإن الفقهاء نظروا إلى مراتب التأثير ، والروايات المشار إليها ناظرة إلى مراتب القدرة والاستطاعة ، وهما أمران متغايران . نعم ، ربما يقال بأن المرتبة السفلى إذا كانت فاقدة للتأثير ، والمرتبة العليا يعجز عنها المكلّف سقطت الفريضة وارتفع التكليف ، وأما إذا كانت المرتبة السفلى مؤثّرة في رفع المنكر ، فلا يحق للمكلّف اللجوء إلى المرتبة العليا ، وإن كان قادراً عليها. وهذا الاخير هو الفرض الذي التزم به الفقهاء ، وعليه فلا يبقى للروايات الاخيرة موردٌ يعمل به .

والذي تقتضيه مناسبات الحكم والموضوع أن الغرض المطلوب للشارع المقدّس هو تغيير المنكر ونشر المعروف بين الناس ، فلابدّ من ملاحظة الوسائل المحققة لذلك ، ولا شكّ بأن الكثير من الوسائل تتضمّن تعدّياً على حرية الاخرين ، فلابدّ من الاقتصار على الحدّ الادنى الذي يفي بالمطلوب ، إذ إن الزائد يكون تجاوزاً للحدود التي وضعها الشارع المقدّس دون مبرّر .

ومن هنا فإن التقسيم الذي ذكره الفقهاء قد لا يكون دقيقاً في بعض الحالات ، وإن كان بالجملة صحيحاً . لان إنكار المنكر يعتمد على الاسلوب الانسب . وبعض الاساليب التي تدخل تحت الانكار بالقلب بحسب تقسيمهم تكون أشد إيذاءً من الاساليب التي تدخل تحت الانكار باللسان . فإن المقاطعة والمقابلة بالوجوه المكفهرّة عند بعض شرائح المجتمع أشدّ تأثيراً وقسوة من النصيحة الكلامية . وعلى هذا فلابدّ لنا من دراسة فنّ التأثير ومعرفة العوامل النفسية والتربوية المؤثّرة في كل شريحة من شرائح المجتمع . ولا يمكن أن نسوق الناس جميعاً بعصى واحدة ، ونطبّق عليهم نظاماً واحداً في هذا المورد . ولعلّ الشريعة الاسلامية الغرّاء قد راعت هذه النقطة في قانون العقوبات ، فضلاً عن فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التي لم يحدّد لها اُسلوب خاص . فنحن نجد أن التعزيرات تركت إلى نظر القضاة ، ليختار القاضي مايراه مناسباً في ردع المتجاوزين للحدود الشرعية كل بحسبه . فإن الغرض منها التأديب ، وقد يحصل بسوط واحد ، وقد لا يتحقق إلاّ بخمسين ، وربما اكتفى البعض بالكلمة فلا داعي للسوط .

فأساليب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بطبيعتها لا ترتكز على ثوابت، وإنما على قواعد كلية عبّرت عنها الروايات باليد واللسان والقلب . وسيأتي مزيد بيان لهذه الاُمور .

والخلاصة : أنه لابدّ من التأكيد على أن كل مسلم في المجتمع الاسلامي يمتلك دوراً مهماً في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بحسب الموقع الذي يشغله ، والادوات التي يمتلكها . ولا يمكن لاحد أن يدّعي خروجه عن تلك الدائرة ، وأنه لا يتمكّن من أداء دور ما . طبعاً لا نريد هنا أن نوكل إلى عوام الناس ومستضعفيهم مهمات تتجاوز حدود إمكاناتهم ، وإنما نريد أن نقول أن كل فرد وإن كان من عوام الناس يمتلك قدرة ويمتلك مؤهّلات محدودة تمكّنه من المشاركة في هذه المسؤولية ، وتقديم خدمة ما تشكّل رقماً معيناً إذا ضمّ إلى غيره من الارقام ، ويمتلك يداً إذا ضمّت إلى غيرها من الايدي تكوّنت قوة هائلة يمكنها صيانة المجتمع ومقاومة الفساد والانحراف .

ليس لاحد أن يدّعي أن ذلك مسؤولية أجهزة الدولة فحسب . وإن كان لتلك الاجهزة الحظ الاوفى ، إلاّ أن عامة الناس يشكّلون سدّاً منيعاً أمام المعاصي والانحرافات ، ويشكّلون دعامة قوية للمسؤولين والقضاة إذا وعوا دورهم ومسؤوليتهم .  

أجهزة الدولة الرئيسية المؤثرة في هذه الفريضة :

1 ـ جهاز التربية والتعليم الذي يمارس أقدس مهمّة ، وهي تربية الاجيال الصاعدة وزرع الصلاح والخير في نفوسهم ، وتنشئتهم على التمسّك بالاسلام نظرياً وعملياً بشكل واع .

2 ـ جهاز القضاء الذي يؤدّي وظيفة حفظ الحقوق العامة والخاصّة ، وفضّ النزاعات ، والحيلولة دون التجاوزات ، وإصدار الاحكام ضدّ المجرمين والمفسدين والمعتدين .

3 ـ جهاز الامن الداخلي بجميع شعبه وأقسامه ، الذي يؤدّي دور الحراسة وتنفيذ مهمات وأحكام جهاز القضاء ، ولوجوده أكبر الاثر في منع التجاوزات وحفظ النظام .

4 ـ جهاز التشريع وسنّ القوانين والانظمة التي تتكفّل بالحدّ من الفرص المتاحة أمام المجرمين والمفسدين لممارسة نشاطاتهم .

5 ـ أجهزة الاعلام المختلفة التي يمكنها أن تقوم بدور حسّاس في هذا المجال عن طريق بثّ الوعي وزرع الفضيلة في وجدان عامة الناس ، مستخدمة الاساليب الفنية والاعلامية المتطوّرة والمؤثّرة .

6 ـ أضف إلى كل ذلك ما يمكن للدولة أن تستحدثه من أجهزة ومؤسسات مؤثّرة في هذا المجال ، وربما كان من الضروري تشكيل مؤسسة تتبنّى دراسة الوسائل ووضع الخطط المناسبة لتنفيذ هذه الوظيفة بشكل فعّال ومؤثّر .

هذا كله في الدولة التي تعتمد النظام الاسلامي وتقيم أجهزتها على أساسه، بحيث يمكن لهذه الاجهزة والمؤسسات أن تؤدي دورها المطلوب في هذا المجال ، أما الدولة العلمانية فهي خارجة عن اطار ماذكر في هذا المقطع ، ولابدّ من استقلالية مؤسسات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تعمل تحت ظلّها .  

ومن مهمّات هذه المؤسّسة :

أولاً : رسم المنهجية ، وتحديد الدائرة التي يمكن لافراد المجتمع أن يؤدّوا ضمنها دورهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باعتبار أنهم معنيّون بهذا التكليف . والعديد من النصوص الشرعية تخاطب الامة مباشرة ، وهذا يعني أنهم مكلفون بالقيام بهذه المهمة ما لم يرد دليل آخر يخصص الحاكم ببعض الموارد أو يشترط إذنه . وفي هذه الموارد أيضاً هم معنيّون بالرقابة من جهة ، والدعم والتأييد من جهة أخرى . فالمجتمع بجميع أفراده يشكّل ناظراً يراقب تنفيذ الحكم الاسلامي بدقة ، وناصراً عندما يحتاج الحاكم لدعمه وتأييده وتقوية مواقفه ، وبالتالي تمكينه من بسط يده وإعمال سلطته . إذ إن سلطان الحاكم وأدواته الفاعلة وقواه الضاربة هم عامة الناس . نعم الناس يحتاجون إلى توجيه وتثقيف وتوعية وتحديد الادوار بدقّة ، وهي مهمّة العلماء الاعلام وولاة الامر .

ثانيا : تطوير أجهزه خاصة وشبكة واسعة من الامرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، ينتشرون في الاماكن العامة والمؤسسات والدوائر الحكومية والمساجد والحسينيات ، ويقومون بدور مباشر وفعّال في هذا المجال ، وهذا الامر يترك أثراً إيجابياً على نفسية عامة الناس ، ويشجّعهم لاداء دورهم بشكل أفضل . ويمكن الاستفادة في هذا المجال من كبار السن والمتقاعدين المتطوعين وغير المتطوعين ، بعد إخضاعهم لدورات معينة قصيرة الامد ، تزوّدهم بالاساليب الفنية الناجحة في إصلاح المجتمع ومنع المنكرات .

ثالثاً : هذه المؤسسة يمكنها الافادة من المتخصّصين والخبراء وتزويد وسائل الاعلام بالبرامج الخاصة المعدّة من قبلها ، أو إلاشراف على البرامج التي تعدّها تلك الوسائل .

رابعاً : من الضروري التركيز على الوسائل العملية التي تزرع في عوام الناس وفي الجيل الناشئ حبّ الخير والصلاح ، والنفورَ من المفاسد الاجتماعية والاخلاقية .  

اليد واللسان والقلب :

المراد من الانكار أو التغيير باليد هو إعمال القدرة والفعل في منع المنكر ، أو الحيلولة دون حصوله . وهذا يقع في دائرة واسعة تمتد حتى القتل ، ولا تنحصر بالضرب والجرح والقتل ، وإنما هذه بعض أمثلتها . وفي العصر الحاضر تضاعفت الادوات والوسائل التي يمكن توظيفها في إنكار المنكر ، والتي يمكن أن يقع الكثير منها تحت عنوان الانكار باليد ، ولا شكّ أن حصرها بحدود ضيقة يحدّ من فعالية هذه الفريضة المهمة .

وكذلك مرتبة اللسان التي تشمل الوعظ والارشاد ، وهو بلا شكّ فنّ قائم بنفسه ، فليس كل وعظ يؤثّر ، فربما فعلت الكلمة الصادرة من شخص معين مالا تفعله المحاضرات المطوّلة والخطب الرنّانة . وبناءً عليه ، فإن القدرة والاستطاعة التي يحدّد على أساسها الانتقال من مرتبة إلى مرتبة تدخل فيها خصوصيات نفس الامر بالمعروف والناهي عن المنكر ، فضلاً عن خصوصيات المأمور .

والخلاصة ، إن هذه الفريضة أشبه بمهمة الطبيب ، فهذا يعالج فساد الابدان، وذاك يعالج فساد الاخلاق والانفس والمجتمع . وعلى كل منهما أن يعرف الداء والدواء .

يروى عن الصادق(عليه السلام) أنه قال : « كان المسيح يقول : ... وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعاً لدوائه وإلاّ أمسك »([22]).

وأما الانكار بالقلب ، فالذي يبدو لاول وهلة أنه عبارة عن عدم الرضا ، إلاّ أن الظاهر من الروايات أنه يحتاج إلى إظهار ، وإظهاره يتمّ بعدّة أساليب ، وربما كان له أيضاً مراتب ، فإظهار الانكار مرتبةٌ عليا بالنسبة للانكار بالقلب من دون إظهار  ، فلعلّ بعض المواقف توجب عجز المكلّف عن إظهار الانكار بأي صورة كانت ، كبعض حالات التقية والخوف على النفس ، فعندئذ لا شكّ بأنّ الحدّ الادنى يكون بالاقتصار على إضمار الانكار وعدم الرضا.

وهناك بعض النصوص تعرّضت إلى بعض أنحاء الانكار القلبي :

فمنها : ماورد عن علي(عليه السلام) أنه قال: « أدنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »([23]) .

ومنها ماورد عن أبي عبداللّه(عليه السلام) أنه قال : « لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يعصى اللّه فيه ولا يقدر على تغييره »([24]) .

وفي حديث عن أبي عبداللّه الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى : (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون) قال : « أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ، ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وأنسوا بهم »([25]) .  

الحرية والنهي عن المنكر :

في عصرنا الحاضر ونتيجة لتطور وسائل الاتصال بين مختلف شعوب العالم ، تألق نجم الديمقراطية كنظام للحكم ، ونودي بالحريات الفردية على مستوىً واسع ، وكان رائد ذلك دول الغرب التي غرقت في حضارتها المادية ، حتى نسيت القيم المعنوية والاخلاقية ، وكان نتيجة ذلك استفحال المفاسد الاجتماعية ، حتى بات يستعصي حلها على مهندسي السياسة هناك وعلماء الاجتماع .

ومن المؤسف أن ينخدع السطحيون من شبابنا ومفكرينا بالبريق الكاذب للعديد من المفاهيم التي سادت مجتمعات الغرب ، ومنها الحرية والديمقراطية . وأحدث هذا عندهم حالة من الاضطراب والتخبط في قراءتهم للاسلام ، فعمد فريق منهم إلى دبلجة الاسلام ليصبح ديمقراطياً تارة واشتراكياً اُخرى . وعمد فريق آخر إلى التخلّي عن تفاصيل الشريعة ، وتنكّر للنصوص والمصادر المعتمدة في استنباط الاحكام ، ورضي من الاسلام بما لا يتعارض مع تلك الثوابت التي سلّم بها مدعياً أنه يتمسك بروح الاسلام .

هؤلاء المساكين المتأثرون بهذه النزعات ، يستنكرون الكثير من أساليب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ إنهم يتخيلون أن الحريات الفردية تقتضي أن يمارس كل فرد الاعمال التي تعجبه ما دامت لا تنال من الاخرين ولا تصل إليهم بسوء ، فهم يرون أن التعرض للمرأة التي يعجبها الخروج من دون حجاب شرعي ومنعها من ذلك تجاوز على  حريتها ، فأي ضرر على الاخرين في ذلك .

وكذلك بالنسبة للمنكرات الاُخرى .

ونحن هنا لا نريد الخوض في الاساس الواهي الذي بنوا عليه نظرتهم للامور ، وإنما نريد القاء الضوء على الحريات المزعومة ، ومدى تعارضها مع فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .

مايتوهم في المجتمعات الغربيّة أنه من الحريات الفردية وأنه لا يرتبط بالاخرين ، نحن لا ننظر إليه بالمنظار الضيق الذي يفهمون الامور من خلاله ، وإنما ندرسه من خلال انعكاسه على المجتمع الذي يعيش فيه الفرد ، ففي المجتمع الذي نعيش ، هناك أجواء عامة تميز هذا المجتمع وتجعل منه مجتمعاً إسلامياً ، هذه المميزات يشترك في بنائها وصناعتها كل فرد من أفراد المجتمع ، فهو أشبه بالبناء المشيد من أحجار ، كل فرد يشكل حجراً من هذه الاحجار ، وبمقدار انسجامها واتساقها وتماسكها يستقيم البناء ويتحقق له الشكل النهائي .

وفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر شرّعت لتحقيق هذا النظام الاجتماعي ، والبناء المنسجم المتماسك للمجتمع الاسلامي . وليس هناك حالة من الفساد ونوع من الانحراف لا ينعكس سلباً على المجتمع ككل ، خاصة إذا كان الانحراف والفساد علناً وجهاراً .

ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنه قال: « ان المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضر إلاّ عاملها ، فإذا عمل بها علانية ولم يغيّر عليه أضرت بالعامة » .

قال الصادق(عليه السلام) : « وذلك أنه يذلّ بعمله دين اللّه ويقتدي به أهل عداوة اللّه »([26]).

وقد أطلق(صلى الله عليه وآله) المعصية ، فهي تشمل كل معصية صغيرة كانت أو كبيرة . ويعني ذلك أن المعصية مهما كانت فهي تنعكس على المجتمع الاسلامي إذا ارتكبت علناً ، وهذا يعطي لكل فرد من أفراد المجتمع الحق بالتصدّي لمنعها ، لكونها تجاوزاً عليه ، إذ إن التجاوز على المجتمع تجاوز على كل أفراده . ومن الطبيعي أن الحريات الفردية ـ حتى في المجتمعات الغربية غير المتديّنة ـ لا تقرّ الحريات التي توجب التجاوز على حقوق الغير .

هذا فضلاً عن كون المنع من ارتكاب المعاصي يعود نفعه على نفس الشخص الممنوع ، لان المسلم يدرك تبعات هذه المعصية وآثارها الدنيوية والاُخروية ، وبالتالي تكون الحيلولة بينه وبين ارتكاب المعصية والمنكر إنقاذاً له من الانزلاق في هاوية سحيقة ، ومن الابتلاء بما يعود عليه بالضرر الذي لا يدرك بعده ولا مداه .

ومن العجيب أن يعدّ الطبيب الذي يقهر المريض ويكرهه على قبول العلاج ، ويمنعه من تناول ما يضرّ ببدنه ، يعدّ مخلصاً حريصاً على مصالح الاخرين ، ولا يعتبر متجاوزاً لحدوده ، بينما يعدّ الناصح الامين الذي يكره الناس على الالتزام بالمعروف والامتناع عن المنكر متجاوزاً ، مع أن هذا أحرص من ذاك وأشدّ رحمة به من نفسه .

وإذا كان الاسلام ينفي الاكراه في الدين ، فذلك في أصل العقيدة وفي التكاليف التي لا تتأتّى إلاّ مع القصد والنيّة ، وأما التكاليف التي يخلّ تركها بالنظام الاجتماعي الاسلامي فإنه لا يترك الحرية للفرد الذي يعيش في مجتمع المسلمين بتركها .

ومن هنا نجد أن الاسلام يفرض على أهل الكتاب الذين يعيشون في ظلّ المجتمع الاسلامي أن يمتنعوا عن ممارسة العديد من الاعمال التي لا يرتضيها الاسلام ، وإن كانت مباحة بحسب اعتقادهم ، كالتظاهر بشرب الخمر وبيعه ، وممارسة الزنى خاصة بالمسلمة ، حتى أنه يقتل لو ثبت عليه ذلك ، بل يقتل بمجرّد التعرّض لاعراض المسلمين ، وكذلك فيما يتعلّق بفتنة المسلمين عن دينهم ، فلا يترك لهم حرّية الدعاية الدينية ، إلى ما هنالك من أحكام تخصّهم .

وليس تشريع الحدود والتعزيرات الاسلامية إلاّ لاجل صيانة المجتمع الاسلامي من المفاسد والانحرافات الخطيرة ، فالحدّ رادعٌ إكراهي لمن يحلو له تجاوز الاحكام والانظمة الشرعية ، وهو يؤدي هدفين : الاول على صعيد المجرم نفسه ، والاخر على صعيد الاخرين الذين يكفي لردعهم خوفهم من الوقوع تحت وطأة الحدّ .

ولا شكّ أن ارتكاب المعصية علناً يترك أثراً أكبر في تحريك أفراد المجتمع نحو الانحراف من ارتكابها سرّاً ، وقد فرّقت النصوص الشرعية بين الحالتين ، كما تقدم في الرواية عن النبي(صلى الله عليه وآله) .

يتّضح من هذه الجولة أن الحرية الفردية تنتهي عندما يكون هناك تجاوز على حقوق الاخرين ، وعلى حقوق المجتمع ككل ، وأن الكثير من المعاصي والممارسات المحرّمة في الشريعة الاسلامية إذا ارتكبت علناً أضرّت بالنظام وبالمجتمع ، فتشكّل مورداً من موارد التجاوز على حقوق الاخرين ، وعليه فهي خارجة عن دائرة الحرّيات الفردية .

والعجيب أن المجتمعات الغربية التي تعتبر نفسها الرائدة في الديمقراطية والحفاظ على حقوق البشر والحرّيات الفردية ، ترى من حقوق الفرد أن يقيم دعوى على من يلبس السواد مثلاً محتجّاً بأن ابنه الصغير يخاف من منظره ، ويطالب بمنعه من ذلك ، أو على امرأة تلبس الحجاب ، باعتبار أن شكلها يثير اشمئزازه ، فتحرم من الدخول إلى قاعات الدرس ، بينما يعتبرون الانسان حرّاً في كتابة أقذر عبارات الفحش والسباب والشتائم التي تثير مشاعر مئات الملايين من المسلمين ، ويدافعون أشدّ الدفاع عنه ، تحت عنوان حرية الرأي والقلم ، كما حصل بالنسبة للمرتد سلمان رشدي .

إنهم تجيش عواطفهم ويذرفون دموع التماسيح على مجرمين عاثوا في الارض فساداً إذا اُقيم عليهم حدّ ، أو اُودعوا السجن ليرتاح الناس من شرّهم ، ويجرّمون من ضرب كلباً أو وصفه بعبارة مهينة تأذّت منها سيدة ذلك الكلب فطالبت بالثأر به .

هذه نماذج مختصرة ، وهناك مالا يحصى من الامثلة التي تمتلئ بها صفحات المجلاّت والجرائد كل يوم عن الحرية الكاذبة والحقوق الممسوخة للبشر في المجتمعات الغربية .  

*      *      *  


([1]) التوبة : 71.  

([2]) الكافي : 5:55 ـ 56 .  

([3]) تحف العقول : 237.  

([4]) لقمان : 17 .  

([5]) نهج البلاغة/الخطبة 105.  

([6]) نهج البلاغة / الحكمة 150.  

([7]) نهج البلاغة/ الخطبة 129.  

([8]) نهج البلاغة/ الخطبة 175.  

([9]) الكافي 2 : 78.  

([10]) تحف العقول: 38.  

([11]) تحف العقول : 358.  

([12]) تحف العقول :358.  

([13]) بحار الانوار: 100:93.  

([14]) البحار 100:75، و93.  

([15]) البحار 100 : 85 .  

([16]) نهح البلاغة / الحكمة 373.  

([17])المقنعة / باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (مختصراً).  

([18]) النهاية / باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.  

([19])المراسم العلوية / باب ذكرالامر بالمعروف والنهي عن المنكر.  

([20]) تحرير الوسيلة / كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.  

([21]) كنز العمال 3 : 66 / ح 5524.  

([22]) وسائل الشيعة / أبواب الامروالنهي ب2 ح4.  

([23]) تهذيب الاحكام 6 : 176.  

([24]) وسائل الشيعة / أبواب الامروالنهي ب38 ح4.  

([25]) وسائل الشيعة / أبواب الامروالنهي ب39 ح7.  

([26]) وسائل الشيعة/ أبواب الامروالنهي ب4 ح1.

أعلام الجهاد