قد وردت مئات من الأحاديث التِّي
تؤكِّد على أنَّ انتظار الفَرَج هو أفضل
العبادة . وذلك لأنَّ ذكر الله في أعلى
مستواه وأرفع درجاته هو ذكر تلك الدولة
المباركة التِّي تتصف بجميع مواصفات جنَّة
آدم عليه السلام ، تلك الدولة التِّي سوف
يعيش فيها الإنسان في جوار ربِّه وتحت ظل
بارئه ، وفي ظلِّها تتجسَّد رحمة الربّ
التي أشار إليها سبحانه في قوله
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ
[هود/119]
فهي الغاية العمليَّة لأصل
الخلق كما مرَّ وبدونها لا يتصف الخلق
بالحكمة أصلاً
ومن هنا صار من اللازم أن
نتحدَّث عن هذه العبادة ، أعني الانتظار،
بتفصيل أكبر وذلك لأهميَّتها من بين سائر
العبادات وسوف نبيِّنها ضمن عناوين مختلفة
فنقول
معنى الانتظار في اللغة و
الاصطلاح
قال صاحب المفردات في مادة
نظر
: النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء
ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد
يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص...والنظر
الانتظار يقال نظرته وانتظرته و أنظرته .
وهناك كلمتان في اللغة معناهما
متقاربان مع هذه الكلمة ، وقد استعملتا في
القرآن الكريم أيضاً ، وهما :
ألف:
رصد:
و هو الاستعداد للترقب ، يقال رصد له وترصد
وأرصدته له . قال عز وجلَّ :
وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
[التوبة/107
قال في النهاية: يقال رصدته إذا
قعدت له على طريقه تترقبه وأرصدت له
العقوبة إذا أعددتها وحقيقته جعلتها على
طريقه كالمترقبة له .
وفي الأمالي بإسناده:
قال أمير المؤمنين عليه السلام
لأصحابه يوماً و هو يعظهم:
ترصَّدوا
مواعيد الآجال و باشروها بمحاسن الأعمال.
(1)
وقال عليٌّ عليه السلام :
اعلموا عباد الله إن عليكم
رصَداً من أنفسكم و عيوناً من جوارحكم و
حفاظَ صدق يحفظون أعمالكم و عددَ أنفاسكم ،
لا تَستركم منهم ظلمةُ ليلٍ داجٍ
(2)
ب:
رقب:
و الرقيب الحافظ وذلك إما لمراعاته رقبةَ
المحفوظ وإما لرفعه رقبته قال تعالى :
وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ
رَقِيبٌ
[هود/93
وقد وردت أحاديث استعملت فيها
هذه الكلمة بمعنى الانتظار ، منها: ما ورد
في نهج البلاغة عن عليٍّ عليه السلام قال:
ومن
ارتقب الموت سارع في الخيرات(3)
، منها: في
كتابه عليه السلام لمحمَّد بن أبي بكر: إرتَقبْ
وقت الصلاة فصلِّها لوقتها و لا تعجلْ بها
قبلَه لفراغٍ و لا تُؤخِّرها عنه لشغل ..
(4)
ثمَّ إنَّ الراغب الأصفهاني عند
بيان مادة "
صبر"
قال: ويعبر
عن الانتظار بالصبر لما كان حق الانتظار أن
لا ينفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر،
قال:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
[الإنسان/24]أي
انتظر حكمه لك على الكافرين
أقول:
"
إنَّ
هذا الاستعمال هو استعمال مجازي من باب
استعمال اللازم وإرادة الملزوم وهو شائع في
كلام العرب
هذا و للانتظار معنىً في
الاصطلاح ويعنى به خصوص انتظار "فرج الله"
الذي هو فرج حجة الله الإمام الثـاني عشـر
المهدي المنتظر روحي و أرواح العالمين له
الفداء الذي به يكشف الله الغم و ينفِّس
الهم ، ومن هذا المنطلق تُبِعت الكلمة
بكلمة الفَرَج الذي هو الانكشاف ، وهذا
المعنى للكلمة هو المقصود منه في أحاديثنا
الشريفة ، وتشير إليه بعض الآيات القرآنية
أيضاً على ما سيأتي ".
أهميَّة انتظار الفرج
عندما نتمعَّن في الأحاديث
المختلفة الصادرة عن المعصومين عليهم
السلام نستنتج أنَّ الأعمال كلَّها مع ما
فيها من الأهميَّة والاعتبار فعي قليلة
الشأن والاعتبار في قبال الانتظار فهو:
أفضل الأعمال
(5
فجميع الأعمال العبادية مع ما
لها من القدسيَّة والروحانيَّة دون مستوى
الانتظار فهو:
أفضل عبادة الأمَّة
(6
والجدير بالذكر أنَّ هذه
العبادة أعني الانتظار قد دخلت في ساحة
أهمّ العبادات وهو الجهاد في سبيل الله
وصار "أفضل جهاد الأمة" كما في الحديث
التالي الصادر عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلَّم حيث قال
أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج
(7
ومن زاوية عرفانيَّة فللانتظار
أيضاً مستوى رفيع من العرفان والروحانيَّة
حيث صار "أحبَ الأعمال إلى الله" حتَّى
وصل المنتظر إلى مستوى الشهيد في سبيل
الله
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
انتظروا
الفرج ولا تيأسوا من روح الله ، فإن أحبَّ
الأعمال إلى الله عزَّ وجل انتظار الفرج ...
و المنتظرُ لأمرنا كالمتشحِّطِ بدمه في
سبيل الله (8
بل هناك أحاديث تؤكِّد على أنَّ
"انتظار الفرج من الفرج" بل "انتظار
الفرج من أعظم الفرج" .
عن محمد بن الفضيل عن الرضا عليه
السلام قال سألته عن شئٍ من الفرج فقال أليس
انتظار الفرج من الفرج ؟ إنَّ الله عزَّ و
جلَّ يقول فانتظروا إنِّي معكم من
المنتظرين
(9
وهذا المعنى من الانتظار قد
اكتسب قسطاً من القدسية والاعتبار بحيث صار
من علائم الإخلاص الحقيقي والتشيُّع
الصادق ومن مميزات الدعاة إلى دين الله
سراً وجهراً و قد ورد في الحديث :
أولئك المخلصون حقا و شيعتنا
صدقا و الدعاة إلى دين الله سرا و جهرا ..
(10
السرُّ في أهميَّة الانتظار
لمعرفة السرّ في ذلك ، ينبغي لنا
أن نتحدَّث بالتفصيل حول واقع الانتظار
بذكر مقدَّمة مختصرة فنقول
إن التقييم في القاموس الإلهي
يختلف تماماً عن التقييم في القاموس
المادِّي ومن الخطأ جداً محاولة تقييم
القضايا المعنوية الراقية والمفاهيم
الروحانية السامية بالمعايير الماديَّة ،
حيث أن هناك بونً بعيداً بينهما بل هما في
طرفي النقيض ، وقد وصل التضادّ بينهما إلى
مستوى بحيث لا يمكن أن ينقطع الإنسان إلى
المعنويات إلا بالابتعاد الكامل عن
المادِّيات ، ولا أعنى من الإبتعاد عن
المادة هو تركها من رأس بل أعني الزهد فيها
وعدم انشغال الذهن بها .
هذا: ومفهوم الانتظار ، أعني
انتظار فرجِ الله ، هو في الواقع يندرج تحت
اسم من أسماء الله تعالى أعنى الكاشف كما في
الدعاء :
يا صريخ المكروبين و يا مجيب
المضطرين و يا كاشف الكرب العظيم
(11) يا
كاشف الغم
(12) يا
كاشف الكرب العظام
(13
وعلى ضوئه صار مفهوم الانتظار
مفهوما معنويا إلهياً ، حيثُ أنَّه لا يمكن
لشيءٍ أن يكتسب جانباً معنوياً ويشتمل على
بعدٍ مُقدَّس إلاّ بارتباطه بالله سبحانه
وقدسيةُ الشيء تتزايد و تنقص حسب ظهور اسم
الله فيه ، فلنترك إذاً المجال المادي
ولنبحث عن الأفضلية في الساحة الإلهية
المعنوية
فنقول:
- ميزان الأفضلية هو القرب إلى الله
ثم لا يخفى على كلِّ من آمن بالله
سبحانه أنه ليس في القاموس الإلهي إلاّ
ميزان واحد يقاس به الأفضلية وهو الميزان
الحقيقي ألا و هو الحق وغيرُ الحق لا تعدُّ
موازين بل يُترائى أنها موازين فلا حقيقة
لها ولا ثِقل فيها ، قال تعالي
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ *
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا
يَظْلِمُونَ
[الأعراف/8،9]
{فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ
الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ
الضَّلاَلُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ
[يونس/32
وهذا الميزان هو: "
التقرب
إلى الله سبحانه وتعالى"
، فيجب أن نبحثَ عن مستوى التقرُّب إليه
تعالى في "الانتظار" وعلى ضوءه نقيِّم
مستوى قدسيِّة الانتظار ، حتَّى نعرف
السرَّ في أفضليَّته على سائر الأعمال بل
حتَّى العبادات بحيث صار المنتظر
كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله
إنَّ من أهم نتائج انتظار الفرج
تنميةَ روحيةِ الرجاء بالله في الإنسان
المؤمن، حيث يُشاهد أمامَه مجالاً وسيعاً
من الفضل والكرم والخير الإلهي الذي سوف
تظهر مصداقيَّتُها في تلك الدولة العظيمة
المباركة ، وهي دولة المهدي المنتظر صلوات
الله وسلامه عليه ، تلك الدولة الكريمة
التِّي يعزُّ الله بها الإسلام وأهلَه
ويذلُّ بها النفاق وأهلَه ، ومن الطبيعي أن
من يحوز على تلك الرؤية النورانيَّة أن
يترفَّع عن الدنيا و زخرفها و مغرياتها
وتسويلاتها الشيطانية ، وهذا الأمر (أعني
تحقير المظاهر الدنيويَّة ) هو أوَّل خطوة
يخطوها السالك إلى الله وهي
التخلية
التِّي تستتبعها التحلية،
ومثل هذا الإنسان المؤمن قد وصل بالفعل إلى
مُستوى من العرفان والعبودية بحيث يكون
لسان مقالِه و حالِه وعملِه هو
صلِّ
على محمدٍ و آل محمد و أثبتْ رجائك في قلبي
واقطعْ رجائي عمَّن سواك حتى لا أرجو إلا
إيّاك
(14
ثمَّ يترقَّى في العبوديَّة
فيقول
بسم الله الذي لا أرجو إلاّ فَضله
(15)
يا من ارجوه لكل خير
(16
هذه الروحية إن تركَّزت في
الإنسان المؤمن فسوف تُعمِّق جذورَها
فتزيل جميعَ الأشواك والموانع الصادَّة ،
لتنشرَ فروعَها الطيِّبة وثمارَها
الجنيَّة في السماء حتَّى تؤتى أكلَها كلَّ
حينٍ بإذنِ ربِّها ، فكيف لا يكون الانتظار
إذاً أفضلَ الأعمال بل أفضل العبادات ؟! وهو
الذي يُخيِّم على جميع الأعمال ويُلقي
الضوء عليها.
ما هو الأمر المتوقع من المجاهد
في سبيل الله حين الجهاد ؟ وما قيمة المجاهد
لولا النيّةُ الصادقة المنطلقة من رضا الله
؟
هذا الأمر بنفسه بل أعلى مستوى
منه متوفِّرٌ في المنتظر الحقيقي الذي
يتمنَّى في كلِّ صباحٍ ومساءٍ أن يعيش في
ظلِّ ذلك المعشوق روحي لتراب مقدمه الفداء
و لسان حاله
فأخرجني
من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرداً
قناتي ملبياً دعوةَ الداعي في الحاضرِ و
البادي (17
وهو بقربه إلى الله وشهوده مقامَ
ربِّه صار كالشهيد متشحِّطاً بدمه في سبيل
الله ، وليس للشهيد خصوصيةٌ كوجودٍ في
الخارج بل الخصوصية والقيمة لمفهوم
الشهادة التي تعني الوصول إلى الله وشهود
وجه المحبوب ، والمنتظِر يؤدِّي نفس الدور
حيث يشاهد وجهَ ربه وهو في نفس الوقت يعايش
الناس ، وهذه الحالة هي التي تحقِّق فيه
الصفاتِ الحسنة التي ذكرت في الأحاديث
الشريفة على ما سيأتي عند بيان أخلاق
المُنتظِر
والحديث التالي قد بيَّن السر
الذي رفع مستوى الانتظار إلى هذه الدرجة
عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد
الكابلي عن علي بن الحسين عليه السلام قال:
تمتدُّ
الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و
الأئمة بعده ، يا أبا خالد إنَّ أهل زمان
غيبته والقائلين بإمامته المنتظرين لظهوره
أفضل أهل كل زمان لأن الله تعالى ذكرُه
أعطاهم من العقول و الإفهام و المعرفة ما
صارت به الغيبةُ عندهم بمنزلةِ المشاهدة
وجَعلهم في ذلك الزمان بمنزله المجاهدين
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله و
سلَّم بالسيف، أولئك المخلصون حقاً و
شيعتُنا صدقاً و الدعاةُ إلى دين الله سراً
و جهراً
(18
وماذا بعد الفرج إلا كشف الكربة
عن وجه المؤمن برؤية الواقع والأمر، حينما
تتحقق تلك الدولة العظيمة التي تملأ الأرض
قسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظلماً وجَوراً
فالانتظار إذاً له نتيجتان
- إنَّه بالفعل يُحقِّق "
كشف
الكربة" بنحو
مجمل .
إنَّه عاملٌ جذري أساسي للفرج بظهوره
سلام الله عليه حيث يسود الحكمُ الإلهي
الأرضَ كلّها .
ووِزانُ الانتظار وزانُ النية
التي هي خير من العمل حيث جاء في الحديث
نية المؤمن خير من عمله
لأن هذه النية من ناحيةٍ هي
التِّي ترفع مستوى الإنسان ومن ناحية أخرى
تلازم العمل بل توجده قال تعالى :
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ
هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
[الإسراء/84]
وليُعلمْ أنَّ تعجيل الفرج
يتناسب مع الانتظار شدَّةً وضعفاً ، ولهذا
تصرح الآية المباركة
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ
اللَّهِ قَرِيبٌ
[البقرة/214]
فقربُ نصر الله متناسبٌ مع طلب
النصر متى نصر الله وهذا الطلب الأكيد لا
يحصل إلاّ بعد اليأس قال تعالى :
حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ
الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ
مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا
عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
[يوسف/110
الانتظار و جانباه الإيجابي و
السلبي
إنَّ كلمة الانتظار تدُّل على
حالتين كامنتين في روح المنتظر ، فمع
التأمَّل في هذه الكلمة نشاهد أنَّها تدلُّ
على جانبين أساسيين لكل منهما دور مهمّ في
معنى الكلمة وهذان الجانبان هما :
- الجانب المطلوب والمحبوب للمنتظِر
والمتوقَّع الوصول إليه ، وهو الخير
والبركة وتمكين الدين على الأرض كلِّه ،
فلو لم يتوقع حدوث حالة جديدة وإيجابية
في المستقبل فلا مصداقية للانتظار ولا
معنى له.
-
- الجانب غير المطلوب وغير المحبوب الذي
يتمثَّل في الحالة الفعلية التي يعيشها
المنتظر ، تلك الحالة المؤلمة التي يرجو
المنتظر الخلاص منها ، فلو كان الوضع
الفعلي هو الوضع المطلوب فلا معنى
للانتظار إذاً ولا مبرر له .
-
وبعبارة أوضح: هناك تناسب عكسي
بين أمرين هما
اليأس من الحالة الفعليَّة المعاشَة .
الرغبة في الحالة المستقبليَّة المتوقعة
.
هذا ما يستفاد من نفس كلمة
الانتظار من دون النظر إلى أي أمرٍ آخر خارج
عنها وتشهد لهذه الحقيقة الآية الكريمة
التِّي وردت في هذا المجال حيث السياق وحيث
الأحاديث الدالَّة على ذلك
قال تعالى:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ
إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ
أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا
تَذَكَّرُونَ
[النمل/62
الآية الكريمة تشير إلى
الجانبين المتواجدين في نفس المضطر
- سوءٌ غير مكشوف وهو السوء المطلق الذي
من خلاله حدثت سائر مصاديق السوء ، وهذا
السوء يتمثَّل في أمرٍ واحد وهو أنَّ
خلافة الأرض ليست بيد المُضطَر .
- وهناك توقُّع ورجاء ورغبة كامنة في نفس
المضطر وهي أن تكون الخلافة العامَّة على
جميع الأرض له ولمن يقتدي به ويخطو
خطاه
وأمّا الحديث عن شخصيَّة المضطر
وأنَّه من هو ؟ فهو خارج عن بحثنا ههنا ولكن
قوله تعالى "
ويجعلَكم
خلفاء الأرض"
يُنبأنا عن حقائق كثيرة لعلَّنا شرحناها
فيما بعد
فلا يمكن للمؤمن ممارسةُ عمليةِ
الانتظار إلاّ بعد معرفة أمرين متلازمين
الأول
:
وهو الأصل والأهم ، ويتمثَّل في "معرفة
تلك الخلافة الإلهيَّة" وهذا هو
التولِّي الذي يُعدُّ من فروع الدين .
الثاني
:
وهو تابعٌ وملازم للأصل ، وهو "معرفة
السوء" الذي يتمثَّل في الواقع الفعلي
ومن ثمَّ التبرِّي منه الذي هو أيضاً من
فروع الدين .
وكلا الأمرين يفتقران إلى الوعي
والتدبُّر
فنقول:
إنَّه من الأفضل أن نبدأ بالأمر
الثاني أعني معرفة السوء ورفضه تحت عنوان
"
الانتظار
والرفض" ،
ثمَّ نتحدَّث عن الأمر الأوَّل تحت عنوان
"الانتظار
والرجاء" .
الانتظار و الرف
إنَّه من الضروري لمن يعيش حالة
الانتظار أن يعرف مدى انحراف الواقع الفعلي
عن الحقيقة والصواب ، وينبغي أن يصل إلى
مستوى من الإنزجار والتنفُّر بحيث يحسّ
بأنَّه بالفعل سجين في هذه الدنيا مقيّدٌ
بأنواع القيود التِّي لا مفكَّ و لا خلاص
منها إلاّ بظهور المنجي الحقيقي وهو "
الحجة
بن الحسن المهدي"
عجل الله تعالى فرجه
وينبغي له أن يشعر بأنَّ المشكلة
التِّي يعيشها ليست هي مُشكلةٌ جزئيَّة
يمكن التخلُّص منها بسهولة بل هي مُشكلةٌ
كبيرة ومعضلةٌ عظمى قد رسَّخت جذورَها في
جميع الأرجاء ونشرت سمومَها في كافة
الأنحاء ، فعندما نلاحظ المجتمع نري بشاعة
الظلم و انتشار الجور و ضياع الحقوق و
الحرِّيات و اختلاط الحق بالباطل
فمثلاً نشاهد أنَّ أجهزة
الإعلام العالميَّة تجسِّد الباطل كأنَّه
الحقّ وتصوِّر الكذب كأنه الصدق ، وكلُّ
شئٍ حول الإنسان مزيَّف ولكنَّه لا يشعر
بهذه المشكلة التي تحيط به ، بل يتوهَّم
الحريَّة الزائفة ، فلا يفكر إذاً في تبديل
ما هو عليه من الانحراف والإغفال
فإذاً للتعجيل في فرجه عليه
السلام ولإيجاد الداعي في المجتمع يجب أن
يعُمُّ ، وعلى الأقلّ الشعور بالمظلوميَّة
كي يعلم الإنسان ويحس بكلِّ وجوده بأن
الظلم قد شمله هو أيضاً و أنَّه يعيش تحت
ظلّ تلك الشجرة الخبيثة التّي غرسها من
أسَّس أساس الظلم و الجور على أهل البيت
عليهم السلام حيث ظهر الفساد في البرِّ
والبحر ، وبعد انتشار هذا المنطق لا محالة
سوف يفكر المنتظِر في إنقاذ نفسه و أهله و
مجتمعه من هذه المشكلة
و للخلاص من هذه المعظلة من رأس
ينبغي لنا أن نعرفَ أنَّه لا محيص ولا مناص
إلاّ بتوجُّهه عليه السلام ، ومن ثمَّ
ظهوره ومباشرته للحلّ بأسلوبٍ ملكوتي
إلهي
وعلينا أن نُدرك هذه الحقيقة
بجميع وجودنا ، و بأرواحنا ودمائنا و
أجسادنا وجوارحنا ، بحيث لا تمرُّ علينا
ساعة بل لحظة واحدة إلا و نشعر بفقدان النور
وهيمنة الظلام ، وهذه الحالة لا تحصـل إلا
بالمعرفـة ، أعنى معرفة الله ومعرفتهم
عليهم السلام ودولتهم المباركة ، فلا بد أن
نكون على بصيرة من أمرنا حيث أن الأعمى لا
يمكنه أن يدرك النور مهما شُرِح له.
وهذه المعرفة تلازمها معرفة
أخرى وهي معرفة أساليب الأعداء
الشيطانيَّة ومستوى عداوتهم للحق
وانحرافهم عن الواقع وبُعدهم عن الله
تعالى
فعند وصول المؤمن إلى هذه
المرحلة من الوعي والإدراك ينبغي له أن
يلتزم بواجب هو من أهمِّ الواجبات ألا وهو
التبرى من أعداء الله
ثمَّ إنَّ هذه الحالة النفسية
أعني
الرفض
سوف تكون لها آثار إيجابيَّة في أخلاقه
وأعماله تجعله يشتاق إلى ما سيحقَّق من
النصر وتمكين الحق ، وهكذا سوف يزداد
الاشتياق إلى أن ينقلبَ إلى قرارٍ حاسمٍ
ومن ثمَّ إرادة جدِّية وطلب مؤكَّد ،
وحينئذ سوف يراه المهدي عليه السلام:
متى ترانا
ومثل هذا الإنسان سوف يتفاجأ
برؤية الإمام عليه السلام فلا يرى نفسَه
إلاّ ويعيش دولته العظيمة وظلِّه الملكوتي
المبارك :
ونراك وقد نشرت راية الحق تُرى
الرفض من العبادات الاجتماعيَّة
من النتائج الخبيثة والآثار
السيِّئة التي نشأت جرّاء عزل الدين عن
المجتمع وفصله عن الحُكم خلال قرونٍ
متواليةٍ ، هو تحريف المفاهيم الدينية
وتفسيرها تفسيراً مؤطَّراً بإطار الفرد لا
يتخطاه قيد أنملة وكأنَّ الدين لا يمتُّ
إلى المجتمع بصلة، وهذه الآفة قد تسرَّبت
بشدّة في تقييم المفاهيم الأخلاقية
الواردة في القرآن الكريم والأحاديث
الشريفة ، فقد فُسِّرت جميعها أو أكثرها
تفسيراً فردياً وكأنَّها لا علاقة لها
بالمجتمع ولا مساس لها بالأمَّة، وكأن
الغاية من بعث الرسل وإنزال الكتب هي إيصال
الأفراد فحسب إلى الكمال المطلوب
ومن المؤسف أنَّ هذا النوع من
التفسير مع غاية بعده عن روح الإسلام صار
كالبديهي عند أكثر المسلمين حتى عند
علمائهم ، فترسَّخت جذورها في المجتمع
الإسلامي إلى حدٍّ أصبح كلُّ من يخالفها من
جملة الشاذِّين عن الدين وفي زمرة
المنحرفين عن الصراط المستقيم وبالنتيجة
من المطرودين والخارجين عن ربقة الإسلام
والمسلمين!
هذا والقرآن بصريح العبارة
يبيِّن السرّ في بعث الرسل بقوله
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ
[الحديد/25
ومن الواضح أنَّ "
للحديد"
الذي هو كناية عن القدرة دورٌ مهم وأساسي في
بناء المجتمع فهو الساعد الآخر الذي يضمن
تنفيذَ قوانين الدين بعد "الإيمان
بالله"
ولم يكتف القرآن بذلك بل حرَّضَ
كافة المؤمنين على القيام بالقسط فقال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ
[النساء/135
وعلى ضوئه ينبغي أن لا ننظر إلى
المفاهيم الإسلامية من منظار فردي فحسب ،
بل لا بد أن يكون المنظار الاجتماعي هو
الحاكم وهو المخيم عليها
ف
التقوى
مثلاً ليس مفهوماً أخلاقياً فردياً فحسب بل
هو مفهوم اجتماعي أيضا ، فهناك تقوى في
الإنسان كفرد وهناك تقوى أهمّ و هو التقوى
بمفهومه الاجتماعي الذي يرجع إلى الأمَّة
المؤمنة ، ولكلٍ أثره الخاص به و جزائه
المترتب عليه و ثوابه المنسجم معه
وكذلك مفهوم الإيثار و الإخلاص و
الكرم و الجود و الغيرة والشجاعة وغيرها من
القيم الإنسانية الإسلامية
نفس الكلام يتأتّى في المفاهيم
المضادَّة و القِيم المنحرفة الشاذَّة
كالبخل و الرياء والنفاق و الخيانة و الشره
و الجبن وغيرها
نعم هناك بعض المفاهيم ، وهي
قليلة ، يتغلَّبُ عليها الجانب الفردي كما
أن هناك مفاهيمَ يتغلب عليها الجانب
الاجتماعي ، مع ذلك لا يعني هذا أن نتمسك
بها كمفاهيم خاصّة فرديَّة
والمتأمل في القرآن الكريم
والأحاديث الشريفة سوف يذعن بما قلناه ولا
بأس بذكر مثال واحد و هو ما ورد في سورة
الشعراء في آياتٍ ثمانية عن لسان عددٍ من
الأنبياء
فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ
[الشعراء/108
وكذلك في سورة الزخرف
(19)
فهذا الخطاب هو خطابٌ للمجتمع البعيد عن
واقع الدين ، وليس الخطاب متوجِّهٌ إلى
الأفراد خاصَّةً
ومن هذا المنطلق نقول لو أن
القيم الأخلاقية أو المفاهيم الاعتقادية
رسخت في عدد من الأفراد حق الرسوخ ولكن لم
تتجسد تلك المفاهيم في الأمة الإسلامية
كأمَّة فهل يجدي ذلك نفعا للأمة؟ وهل يرتفع
الضرر عن الأمة؟ من الواضح أن ذلك لا يجلب
منفعة للأمَّة كما أنه سوف لا يدفع شراً
عنها بل الآفة حينئذٍ سوف تتسرَّب إلى
الأفراد أيضًا مهما حاولوا التخلُّص منها !
قال تعالى
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا
بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ
عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ
[الأعراف/165
وقال تعالى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ
[الأنفال/25
وذلك حيث لا استثناء في القانون
الإلهي ، بل لو دققنا النظر وتعمقنا في
الأمر لوصلنا إلى حقيقة أخرى قد استترت عن
الكثير
وهي: أنه من الصعب أن نحكم بصلاح
فرد وهو يعيش في أمة فاسدة ، ذلك الفرد الذي
لم يوصل نفسَه إلى مستوى القيادة والإشراف
على أمَّته أو لم يهجرهم هجراً جميلاً كي
يسلم من آفاتهم !!
وربما نستلهم هذا الأمر من
الآيتين السابقتين
فبالنسبة إلى الآية الأولي
نلاحظ أنَّ الذين نجَوا هم الذين "
ينهون
عن السوء" ،
وأمّا الذين ظلموا وهُمْ الفسّاق ، سواء
المظهِر لفسقِه أو الساكت عن الجريمة ،
فإنَّ الله سوف يأخذهم بعذابٍ بئيس
وبالنسبة إلى الآية الثانية
نشاهد أنَّ غير الظالمين أيضاً قد شملتهم
الفتنة و ذلك لأنَّ الاستسلام للظلم في
القاموس الإلهي هو ظلمٌ أيضاً
صفات المنتظر
الأحاديث الشريفة قد ذكرت
صفاتاً للمنتظر وهي:
"
الحزن
- التسليم - اليأس - طول السجود وقيام الليل
واجتناب المحارم - الدعوة إلى دين الله سراً
وجهراً - حسن العزاء وكرم الصحبة - حسن
الجوار وبذل المعروف وكف الأذى وبسط الوجه
والنصيحة والرحمة للمؤمنين وأداء الأمانة
إلى البر والفاجر
و
على
ضوء ما شرحنا
ينبغي أن نعرف بأن صفات المنتظر ليست هي
صفات فرديَّة فحسب ، بل الفردُ ينبغي عليه
أن ينطلق منها في بادئ الأمر لتستوعب
كافَّة زوايا المجتمع الذي يعيشه ، وتتفاعل
بها الأمَّة حتى تعمُّ فائدتها
فالانتظار وما يترتب عليه من
الصبر والحزن وحسن العزاء واليأس ووو.. كلها
لا بد أن تتجسد في المجتمع ولا تنحصر في
الفرد ، ومع تجسُّدها في المجتمع سوف يقترب
الفرج و ينكشف الضرّ إنشاء الله
الرفض الاجتماعي
وههنا وبصريح العبارة نقول:
أنَّ التكليف الرئيسي الذي
يُمثِّل أهم التكاليف في عصر الغيبة هو ما
أشرنا إليه سابقاً وهو "
الرفض"
ولكن هذا التكليف ليس هو تكليفاً فردياً
فحسب بل هو تكليفٌ اجتماعي ، فيلزم على
المؤمن أن يكون رفضُه رفضاً ينطلق من منطلق
شرعي إلهي حتى يتقرب به إلى الله فيكون
عبادةً من نمط العبادات الاجتماعية التي
تخيِّم على جميع العبادات الفردية
ولأجل أن يتَّسم الرافض للمجتمع
الفاسد بوسامٍ إلهي ينبغي له أن يمارس
الأمور التالية
الأول
:
البناء الفردي
و هو السعي للتقرب إلى الله
سبحانه و تعالى بالتلبس بلباس التقوى الذي
هو خير لباسٍ حتَّى يرتفع مستوى رفضه هذا من
السلب المطلق الذِّي هو (لا) إلى سلبٍ
يتضمَّن
إيجاباً
، وعندئذ سوف يكون رفضُه رفضاً مقدَّساً له
معنى ومفهوم رسالي عميق ، فليس كلُّ "لاءٍ"
هي بالفعل لاء المذمومة ، بل هذه "اللاء"
التي يعتقد بها المنتظر الحقيقي هي أفضل من
ألف "نعم"،
إن صحَّ القياس بينهما !
فهذا الرفض ليس من السكوت
المذموم الذي هو حالةٌ سلبيةٌ جوفاءُ
تُعرقل الإنسان والمجتمع ، كلاّ ! بل هو
حالةُ صراخٍ ليس مثلها صراخ (ويكفيك
نموذجاً سكوت عليٍّ عليه السلام طوال خمسة
وعشرين سنة) وهذه الحالة هي الحالة
التكاملية التِّي تبني الإنسان وترفع من
مستواه إلى الأعلى وتجعله يتكامل شيئاً
فشيئاً من دون الوقوف عند حدٍّ ، وكذلك
تُنمِّي المجتمع وترفع مستواه وتجعله يعيش
عيشة عزيزة لا يعتريها ذلٌّ وهوان ولا
تحتويه آفةٌ وخذلان.
إذاً لِمَ لا تكون هذه الحالة
أفضل العبادة و أفضل الجهاد ؟
ولِمَ لا يصل هذا الإنسان
المتحلِّي به إلى مستوى
المتشحِّط
بدمه في سبيل
الله
الثاني
: تعزيز الرفض بخصال حميدة أخرى وهي
1- الصبر
وهذه الصفة هي أهم تلك الصفات ،
لأنَّها في الواقع هي الضمان لاستمرار
الرفض
والصبر ههنا يختلف عن الصبر في
المواطن الأخرى ، فهذا النوع من الصبر في
الواقع هو الصبر الحقيقي الذي هو كالأم
لسائر موارد الصبر حيث اشتماله على جميع
أنواع الصبر التي نطقت بها أحاديثنا
الشريفة، وهي ثلاثة كما في الحديث الذي
نقله المحدِّث الكليني قدِّس سرُّه:
بإسناده عن علي عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم:
الصبر
ثلاثة صبرٌ عند المصيبة ، وصبرٌ على الطاعة
، وصبرٌ عن المعصية
(20
ثمَّ ذكر رسول الله صلى الله
عليه وآله درجاتٍ أخروية لكلٍّ من هذه
الأصناف الثلاثة
ولكنَّ
الصبر الملازم للانتظار قد شمل هذه المراحل
الثلاثة وذلك لأنَّه :
هناك أعظم مصيبة ابتلى بها
المؤمن المنتظر وهي مصيبة فقدان قائده
الروحي و إمامه الثاني عشر الحجَّة بن
الحسن المهدي عجَّل الله تعالى فرجه الشريف
، فهو يعيش حالةَ اليتم ، وهذه المعضلة
العظمى بطبيعتها تتطلَّب الصبر .
وهناك طاعة تتجسد في
التبري
من كل ما ومن هو يزاحم هذه الروحيَّة (أعني
روحيَّة الانتظار
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ
رَبَّ الْعَالَمِينَ
[الشعراء/77
وهناك معاصٍ محيطة بهذا الإنسان
المؤمن إحاطة كاملةً ، و هي القضايا التي
تقصم الظهر من التسويلات الشيطانية و
المُغريات المادِّية المنتشرة على مستوى
وسيع بحيث لا يلتفت الإنسان يميناً أو
يساراً إلاّ وهي تبرز أمامَه خصوصاً في
عصرنا الحالي حيث الأقمار الصناعية وحيث
الشبكات الدوليَّة مثل الإنترنت و أيضاً
الأجهزة الإعلاميّة التّي مهمَّتُها
الرئيسي نقل الفساد إلى العالم الثالث.
فالمنتظر للدولة المباركة سوف
يعيش كلَّ تلك المغريات طوال حياته ،
فيشاهد بأمّ عينيه أنَّه يسير إلى جهة و
العالم أجمع يسيرون إلى جهة أخرى مضادَّةٍ
له تماماً ، ومن ناحية أخرى يشاهد أنَّ جنود
الشيطان وأهل الدنيا يمثِّلون السواد
الأعظم فهم الملأ الذين يملئون أعيُن الناس
فهو إذاً الشاذ بينهم .
ومن المؤسف
جدّاً أنَّ أرباب الدنيا ربَّما ينطلقون من
منطلق النصيحة والإصلاح والحبّ في مسيرتهم
الباطلة حيث يُتراءى أنهّا حركة إصلاحية بل
إسلامية يتقرب بها إلى الله ، ومن الصعب أن
يقتنعوا بخطئهم أو يحتملوا ذلك .
فمن الواضح أنَّ هذا الأمر سوف
يجعل المؤمن المنتظر الصابر يعيش حالةً
أخرى صعبة و هي حالة "الغربة" ، ولا
تتلخَّص هذه الحالة في الغربة الاجتماعية،
بل هناك غربة أصعب من ذلك ألا وهي الغربة
الفكرية والأيديولوجية التي تؤكد عليها
الأحاديث الشريفة وتجعلها من صفات وعلائم
المنتظر الحقيقي كالحديث التالي:
على بن موسى الرضا عليه السلام
قال:
بدأ
الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء
قيل يا رسول الله ثم يكون ماذا ؟ قال ثم يرجع
الحق إلى أهله
(21
2- التصابر
فماذا يفعل إذاً هذا الصابر كي
يستقيم في صبره ولا يهون؟
لابدّ وأن ينتقل من مرحلة "الصبر"
إلى مرحلة أرقى وهي "
التصابر"
و ذلك كي يخلق الصبر في الآخرين حتَّى
ينسجموا معه فلا يرى نفسه وحيداً فيستمرَّ
في مسيرته ويصمد في مواقفه حتى تحقُّق تلك
الدولة العالميَّة المباركة ، وهذه
الحقيقة ظاهرة في سورة القدر فهي التِّي
ترسم الطريق للمؤمنين المنتظرين قال تعالى:
وَالْعَصْرِ
[العصر/1]
أي قسماً بالعصر ، ربَّما يكون
المقصود من العصر في هذه السورة هو عصر
الحجَّة عجلّ الله تعالى فرجه الشريف .
أو ما ذكره الإمام قدِّس سرُّه
حيث قال:
يقال:
أن العصر هو الإنسان الكامل ، وهو إمام
الزمان سلام الله عليه أي عصارة جميع
الموجودات ، أي قسماً بعصارة جميع
الموجودات ، قسما بالإنسان الكامل
أقول
:
ولا منافاة بين التفسيرين
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ
[العصر/2]
هذا الإنسان الذي قد حُكم عليه
بالخسران المطلق هو الإنسان الذي يعيش خارج
العصر أي يعيش حالة الغيبة .
والإنسان المذكور هنا يشمل
جميعَه
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
[العصر/3]
والاستثناء بطبيعته يدلُّ على
النُدورة والغربة ، فالنادر من الناس
والقليل منهم يتَّسمون بهذه السمات
الأربعة المتوالية ، التِّي ترجع بالأخير
إلى صفة فاردة وهي "
انتظار
الفرج" على
ضوء ما قدمنا.
إلى متى
والجدير بالذكر
أنَّ التواصي بالحق والتواصي بالصبر هي
حالة ثابتة للمؤمن مادام هو مؤمن .
فمن الحري أن يُسأل إلى متى هذا
التواصي
؟ و هل
لمجتمعٍ أن يعيش الراحة والطمأنينة و
الهدوء في آخر المطاف؟ وإن كان الجواب
سلباً فأين حكمة الله البالغة وأين لطفه
الشامل وأين كرمه الجميل ؟
أقول:
"
لابدَّ
من وصول الإنسان المؤمن المتَّسم بتلك
الصفات إلى مرحلة نهائية وهي مرحلة الكمال
، ومرحلة العيش في العصرِ لا خارجه ، على ما
تدلُّ عليه السورة المباركة ".
الانتظار والرجاء
قلنا أنَّ هناك بُعدين للانتظار:
أحدها
: الرفض .
الثاني
:
الرجاء .
فصَّلنا الحديث في البعد
الأوَّل ، وحان الآن التحدُّث عن البعد
الثاني فنقول:
هناك أحاديث تؤكِّد علىأنَّ
أمر
الأئمَّة عليهم
السلام هو المُنتَظَر
فهل هناك طريقٌ يوصلنا إلى
أمرهِم عليهم السلام ؟ وهل من السهل أن
نعرفَ أمرَهُم ؟
- أمرهم صعبٌ مستصعب
وردت أحاديث كثيرة جدّاً
تؤَّكِّد :
و أيضاً من كُتبٍ أخرى ذكرها
العلامَّة المجلسي في بحار الأنوار ، مَن
أراد الإطلاّع عليها فليراجع.
فلا تناقض إذاً و لا تخالف بين
الحديث و الكلام و الأمر ، مادامت كلها
تنطلق من ذلك النور ، بل في الواقع كلُّها
ترجع إلى شيءٍ واحد وهو الأمر".