شبهات وردود -مصحف فاطمة بين الحقيقة والأوهام

مصحف فاطمة بين الحقيقة والأوهام

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شك أن أهل البيت عليهم السلام هم ورثة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والأمناء عليه فقد تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) (1) وهو كالصريح بكونه عليه السلام عيبة علمه ومستودع المعارف الإلهية ، وقد توارثها منه الأئمة المعصومون المطهّرون من ولده . فقد كانوا يتوارثون ما في القرآن الكريم وكتب الأنبياء السابقين من دقائق المعارف والأحكام الشرعية .

ومن جملة التراث العلمي الذي كان يتوارثه أئمة أهل البيت عليهم السلام (( مصحف فاطمة )) الذي دوّن فيه علم ما يكون ، مما سمعته الزهراء عليها السلام من حديث الملائكة بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم كما سنرى من خلال النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة ، وقد كانوا عليهم السلام يحدثون أصحابهم أحيانا عن تلك العلوم المدوّنة عندهم في هذا الكتاب ويبيّنون حقيقته .

____________________

(1) راجع مصادر الحديث في الهوامش التحقيقية لكتاب المراجعات للسيد شرف الدّين هامش المراجعة رقم 48 ص 387 من طبعة المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام . وكتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي للحسني المغربي .

(1)

لقد أثار مصحف فاطمة حفيظة العديد من الكّتاب ، واتخذوا منه وسيلة للطعن والتشنيع على أتباع أهل البيت عليهم السلام تارة باستغلال اسمه – باعتبار أنه يطلق عليه ( مصحف ) – وجعله باباً لأنهامهم بأنّهم لا يعترفون بالقرآن الموجود بين الدّفتين والمتداول بين المسلمين قاطبة فيوقعون الناس في وهم بأن مصحف فاطمة المذكور هو القرآن الذي يعتقده الشيعة ، وتارةً أخرى بأن الإعتقاد بمصحف فاطمة يعني الإعتقاد بنزول الوحي بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويرتّبون على ذلك نتائج عديدة ، منها : أنّ الشيعة يعتقدون بنبوّة فاطمة وعلي عليهما السلام .

وفي هذا الباب نتعرّض للبحث عن حقيقة مصحف فاطمة عليها السلام ونعالج الشبهات التي تثار حوله ، والضّجة المفتعلة التي يطلقها هؤلاء الكتاب الذين ينقصهم الإطلاع الكافي والدّقة العلمية – إن أحسنت الظنّ بهم – أو تنقصهم الأمانة والإنصاف .

المصحف في اللغة :

المصحف – مثلثة الميم ، من أصحف بالضّم – أي جعلت فيه الصحف (1) وسمي مصحفاً لأنه أصحف أي جعل جامعاً

_____________________

(1) الفيروز آبادي : القاموس المحيط / مادة صحف .

(2)

للصحف المكتوبة بين الدّفتين . (1)

وبناءً عليه ، فالمصحف ليس اسماً مختصاً بالقرآن الكريم . ويشهد لذلك ما رووه في وجه تسمية المصحف مصحفاً ، فقد روى ابن أشته في كتاب المصاحف أنه لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر : التمسوا له إسماً ، فقال بعضهم السِفر ، وقال بعضهم : المصحف فإنّ الحبشة يسمونه المصحف . قال : وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسمّاه المصحف . (2) .

ونحن لا نوافق على مضمون هذه الرواية لأننا نعتقد أن القرآن جمع في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (3) وكلمة المصحف من أصل عربي فلا معنى للاتيان بها من الحبشة ، لكن أوردناه لإقامة الحجة على من يقبلها .

فالمصحف كل كتاب أصحف وجمع بين الدّفتين ، لكن كثرة استعماله في القرآن الكريم أوجبت انصراف الأذهان إليه ، وهو لا يكفي لحمل ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام التي تتحدّث عن مصحف فاطمة على المصحف المعروف ، خاصة مع وجود التقييد بإضافته إليها عليها السلام .

_____________________

(1) الخليل : العين 3 / 10 . وابن منظور : لسان العرب / مادة صحف .

(2) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن ج 1 ص 185 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .

(3) راجع كتاب حقائق هامة في القرآن الكريم للسيد جعفر مرتضى العاملي ( فصل جمع القرآن ) 90- 91 .

(3)

ويؤيد ذلك استعمال كلمة المصحف بمعنى الكتاب من قبل المسلمين في القرن الأول فقد قيل في خالد بن معدان : ( كان علمه في مصحف له أزرار وعري ) (1) .

 

مصحف فاطمة في أخبار أهل البيت عليهم السلام :

 

(1) عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام : (( ... إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً ، وكان دخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ، ويطيّب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذرّيتها ، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة عليها السلام )) (2) .

 

(2) عن أبي حمزة أن أبا عبد الله عليه السلام قال : (( مصحف فاطمة ما فيه شيء من كتاب الله وإنّما هو شيء ألقي إليها بعد موت أبيها صلوات الله عليهما )) (3) .

______________________

(1) محمد أبو زهرة : الحديث والمحدثون /221 عن محمد رشيد رضا في مجلة المنار المجلد 10 / 10 .

(2) الصفار : بصائر الدرجات /153 ط المرعشي . والكليني : الكافي 1/241 . والمجلسي : بحار الأنوار 26/41 . والقطب الراوندي : الخرائج والجرائح 2/526 وفيه تخريج الحديث في مصادر عدّة .

(3) الصفار : بصائر الدرجات / 159 ط المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26 /48 .

(4)

(3) عن عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله عليه السلام : (( ... ومصحف فاطمة أما والله ما أزعم أنه قرآن )) (1) .

(4) عن الحسين بن أبي العلاء قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : (( إن عندي ... ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآناً )) (2) .

(5) عن محمد بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام : (( ... وعندنا مصحف فاطمة عليها السلام أما والله ما هو بالقرآن )) (3) .

(6) عن علي بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : (( ... وفيه مصحف فاطمة ما فيه آية من القرآن )) (4) .

(7) عن علي بن أبي حمزة عن الكاظم عليه السلام قال : (( عندي مصحف فاطمة ليس فيه شيء من القرآن )) (5) .

(7) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : (( وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : قلت :

__________________

(1) الصفار : بصائر الدرجات/ 154 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/45 .

(2) الصفار : بصائر الرجات /150 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/37 .

(3) الصفار : بصائر الدرجات /151 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26 / 38 ، 47/271 .

(4) الصفار : بصائر الدرجات / 156 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/43 ، 47 /272 .

(5) الصفار : بصائر الدرجات / 154 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26 / 45 .

(5)

وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد )) (1) .

هذه الروايات وأمثالها تدلّ على أنّ مصحف فاطمة الذي يعتقد الإمامية أنه عند أئمتهم وضمن ميراثهم العلمي ليس المصحف الذي فيه القرآن الكريم ، وأنه كتاب آخر يتضمّن علماً ، لكن ما هو ذلك العلم ؟ تشير إليه بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام منها :

1ـ سئل الصادق عليه السلام عن محمد بن عبد الله بن الحسن فقال : (( ما من نبيّ ولا وصيّ ولا ملكٍ إلاّ هو في كتاب عندي – يعني مصحف فاطمة – والله ما لمحمد بن عبد الله فيه إسم )) (2) .

2ـ روي عن الوليد بن صبيح أنه قال : قال لي أبو عبد الله عليه السلام : (( يا وليد إني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام فلم أجد لبني فلان فيه إلا كغبار النعل )) (3) .

3ـ عن فضيل بن سكرة قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال :

__________________

(1) الكليني : الكافي 1/239 ، الصفار : بصائر الدرجات /152 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26 / 39 .

(2) ابن شهرآشوب : مناقب آل أبي طالب 3/249 ، والمجلسي : بحار الأنوار 47 / 32 ، والمراد بمحمد بن عبد الله هو محمد بن عبد الله بن الحسن المثنّى .

(3) الصفار : بصائر الدرجات /161 ، 170 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/48 ، 156 .

(6)

(( يا فضيل ، أتدري في أي شيء كنت أنظر قبيل ؟ )) قال : قلت : لا ، قال : (( كنت أنظر في كتاب فاطمة عليها السلام ليس من ملك يملك { الأرض } إلاّ وهو مكتوب فيه اسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً )) (1) .

4ـ عن سليمان بن خالد قال : قال : أبو عبد الله عليه السلام : (( ... وليخرجوا مصحف فاطمة فإن فيه وصية فاطمة ... )) (2) .

5ـ عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : (( إن الله تعالى لمّا قبض نبيّه صلى الله عليه وآله وسلّم دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عز وجل ، فأرسل الله إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين عليه السلام يكتب كلّما سمع حتّى أثبت من ذلك مصحفاً ، قال : ثم قال : أما أنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون )) (3) .

___________________

(1) الكليني : الكافي 1/244 ، وقريب منه جداً نقله الصفار في بصائر الدرجات /169 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار ألأنوار 26/155 و 47 /273 .

(2) الصفار : بصائر الدرجات /157 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/ 43 .

(3) الصفار : بصائر الدرجات /157 ط . المرعشي ، والمجلسي : بحار الأنوار 26/44 ، والكليني : الكافي 1/240 .

(7)

يتبيّن من خلال هذه الروايات أن مصحف فاطمة عليها السلام ليس قرآناً ، وليس بكتاب أحكام ، فهو مغاير لكتاب علي عليه السلام الذي أملاه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي ورد ذكره في أخبارهم عليهم السلام إلى جنب مصحف فاطمة ، وسمّوه بالجامعة تارة والصحيفة أخرى وكتاب علي عليه السلام غالباً .

وليس هناك أيّ رواية توهم كونه قرآناً ، فضلا عن كونها ظاهرة في ذلك ليتمسك بها من يفتّش عن المطاعن وعلى فرض وجودها فإن الروايات المستفيضة الواضحة صريحة والتي قدّمنا طائفة منها تقتضي رفع ذلك التوهم أو الظهور ولو تمّ وسلّم .

فاطمة عليها السلام محدّثة

قد يتوقف البعض عند قصة مصحف فاطمة عليها السلام ويرفض مسألة تكليم الملائكة الزهراء عليها السلام متيجة توهّم التلازم بين النبوّة والوحي ، أو بين النبوّة وتحديث الملائكة ، وعليه فإن كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والرسل يقتضي عدم نزول الملائكة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلون هذا دليلاً على عدم صحة قصّة المصحف المذكور ، وقد اعتمد على هذا النحو من الإستدلال عبد الله القصيمي في كتابه الموسوم بـ (( الصراع بين الإسلام والوثنية )) متّهماً الشيعة الإمامية بأنهم

(8)

يزعمون لفاطمة وللأئمة من ولدها ما يزعمون للأنبياء والرسل (1) . كلّ ذلك اعتماداً على الملازمة المزعومة بين تكليم الملائكة وبين النبوّة وهذه غفلة ما بعدها غفلة .

تعال معي إلى كتاب الله عزّ وجل وهو يتحدث عمّن كلّمتهم الملائكة أو أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم :

1ـ { وإذْ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين } . (2) .

2ـ { إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح } . (3) .

3ـ { فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً * قال إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً } (4) .

4ـ { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى .... وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيء عجيب * قالوا

________________

(1) الأميني : الغدير 5/50- 51 ، نقلاً عن الصراع بين الإسلام والوثنية 1/1و2 / 35 .

(2) و (3) سورة آل عمران / 42 و 45 .

(4) سورة مريم / 17 – 19 .

(9)

أتعجبين من أمر الله ... } (1) .

فهذه نماذج من النساء حدثنا القرآن الكريم عنهنّ ولم يكنّ نبيّات ومع ذلك شاهدن الملائكة وحدّثنهم ، أو أوحي إليهّن باسلوب آخر غير تحديث الملائكة ، ولم يستنكر ذلك أحد . ففاطمة عليها السلام دلّت النصوص على أنها كانت محدّثة ولم تكن نبيّة ، وكذلك تقول الشيعة الإمامية بالنسبة لأئمة أهل البيت عليهم السلام دون أن يدّعي أحد منهم لهم النبوّة إذ لا تلازم بينهما كما تقدم .

ثم إن الإ‘تقاد بنزول الملائكة على فاطمة الزهراء – سلام الله عليها – لا يعدّ غلوّاً ، ولا مبالغة في فضلها ، فهي سلام الله عليها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وأفضل من مريم بنت عمران ومن سارة امرأة ابراهيم عليه وعلى نبينا السلام ، وقد ثبت بالنصوص القرآنية مشاهدتهما للملائكة وتكليمهما لهم ، فأيّ غلوّ في نسبة مثل ذلك لمن هي أفضل منهما ؟

روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة )) (2)

_________________

(1) سورة هود / 69 – 73 .

(2) صحيح البخاري 4 /209 – 219 .

(10)

وروى مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال لها : (( يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمّة )) (1) .

وهي سلام الله عليها ممن نزلت بهم آية المباهلة والتطهير وضمّهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بكسائه .

ومن الجدير بالذّكر أن الوحي له أساليب وأغراض متعددّة ولا تلازم بين الوحي والنبوّة ، وإن كان كل نبي لا بدّ أن يوحى إليه ، وكذلك لا تلازم بين الوحي والقرآنية ، فبالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكن كل ما نزل عليه من الوحي قرآناً ، فهناك الأحاديث القدسية وهناك تفسير القرآن وتأويله ، والإخبار بالموضوعات الخارجية وأمثال ذلك وكلها ليست قرآناً .

فاتضح أن تحديث الملائكة للزهراء سلام الله عليها لم يكن من الوحي النبوي ولا من الوحي القرآني .

المحدّثون عند أهل السنة

إذا كان تحدّث الملائكة مع أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا غلوّاً ، فلنلقي نظرة على كتب الحديث

__________________

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 16 / 6- 7 .

(11)

والسيرة والتاريخ عند أهل السنة ، لنرى كيف يدّعى تحديث الملائكة مع جماعة من رجالهم :

(1) أخرج البخاري في مناقب عمر بن الخطاب – وبعد حديث الغار – عن أبي هريرة ، وأخرج مسلم في فضائل عمر أيضاً عن عائشة : أن عمر بن الخطاب كان من المحدثين .

وقد حاول شرّاح البخاري أن يأولوه بأن المراد أنه من الملهمين أو من الّذين يلقى في روعهم أو يظنون فيصيبون الحق فكأنّه حُدّث (1) ... وهو كما ترى تأويل لا يساعد عليه ظاهر للفظ . ولأجل ذلك قال القرطبي : إنّه ليس المراد بالمحدّثين المصيبين فيما يظنون ، لأنه كثير في العلماء بل وفي العواك من يقوى حدسه قتصح إصابته ، فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر (2) .

(2) ممن ادّعى أن الملائكة تحدّثهم عمران بن الحصين الخزاعي المتوفى سنة 52 هـ قالوا : كانت الملائكة تسلّم عليه حتّى اكتوى بالنار فلم يسمعهم عاماً ، ثم أكرمه الله بردّ ذلك (3) .

__________________

(1) صحيح البخاري 4/200 ، وصحيح مسلم بشرح النووي 15/166، وسنن الترمذي 5/581 وراجع : ارشاد الساري شرح صحيح البخاري 6/99و 5/431 .

(2) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن .

(3) ابن سعد : الطبقات الكبرى 7/11و4/288 – 289 ، ومعجم الطبراني الكبير 18/107 ، ح /203 .

(12)

(3) ومنهم أبو المعالي الصالح المتوفى سنة 27هـ ، رووا أنه كلّمته الملائكة في صورة طائر (1) .

(4) أبو يحيى الناقد المتوفى سنة 285 هـ رووا أنّه كلّمته الحوراء (2) .

وأمثال هذه المرويات في كتب السّنة غير قليل ، ولم يستنكر ذلك أحد ولم يتّهم أصحابها بالغلو .

ومما يدلّ على عدم الملازمة بين تحديث الملائكة والنبوّة ما رواه الكليني عن حمران بن أعين قال : قال أبو جعفر { الباقر} عليه السلام : (( إن علياً كان محدّثاً )) فخرجت إلى أصحابي فقلت : جئتكم بعجيبة فقالوا : وما هي ؟ فقلت : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : كان علي عليه السلام محدثاً ، فقالوا : ما صنعت شيئاً ، ألا سألته من كان يحدّثه ، فرجعت إليه .. فقال لي : يحدّثه ملك ، قلت : تقول : إنّه نبي ؟ قال : فحرّك يده – هكذا (3) – أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أوما بلغكم أنه قال : وفيكم مثله (4) ؟ ! .

__________________

(1) ابن الجوزي : المنتظم 17/82 ، وصفوة الصفوة 2/250 .

(2) ابن الجوزي : المنتظم 12/ 386 ، والخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 8/362 .

(3) لعلّ المراد أنه أشار بيده نفياً ، و ((أو)) لعلّها من زيادة النساخ ، ولعلّها هو ، وفي البصائر : وكصاحب سليمان ...

(4) الكليني : الكافي 1/271 .

(13)

وفي (( بصائر الدرجات )) هذا الخبر هكذا : عن حمران بن أعين قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : ألست حدثتني أنّ عليّاً كان محدّثاً ؟ قال : بلى ، قلت : من يحدثه ؟ قال : ملك . قلت : فأقول : إنّه نبيّ أو رسول ؟ قال : لا . بل مثله مثل صاحب سليمان ومثل صاحب موسى ، ومثل ذي القرنين (1) { أما بلغك أن علياً سئل عن ذي القرنين ، فقالوا : كان نبيّاً ؟ قال : لا ، بل كان عبداً أحبّ الله فأحبّه وناصح الله فناصحه } (2) .

ولا بدّ من الإشارة إلى بعض رواياتنا التي تتحدث عن مصحف فاطمة أنه من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وخط علي عليه السلام :

(1) فعن علي بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام : (( ... وعندنا والله مصحف فاطمة ، مافيه آية من كتاب الله وانه لإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام بيده )) (3) .

(2) عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام : (( ... وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن ولكنه من كلام الله أنزل عليها إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم

______________________

(1) الصفار : بصائر الدرجات / 323 ط . المرعشي .

(2) الأميني الغدير 5/48 عن بصائر الدرجات ، إلاّ أن في البصائر المطبوعة سقطت هذه العبارة .

(3) المجلسي : بحار الأنوار 26/41 ، 47/271 ، والصفار : بصائر الدّرجات /153 ط . المرعشي .

(14)

وحط علي )) (1) .

(3) عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام : (( ... وعندنا مصحف فاطمة عليها السلام أما والله ما فيه حرف من القرآن ، ولكنه إملاء رسول الله وخط علي )) (2) .

هذه الروايات الثلاث تخالف الروايات المستفيضة المتقدمة في حقيقة مصحف فاطمة ، حيث ذكرت أنه (( إملاء رسول الله )) والثانية منها لا تخلو من تهافت حيث جعلته كلاماً من كلام الله أنزل عليها ، وفي عين الحال جعلته من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو كان من إملاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما كان منزلاً عليها بل عليه ، والحاصل أنه لا بد من علاج هذه الروايات أو طرحها والعلاج بأحد وجوه :

1ـ ربما كان ذلك من باب اشتباه الرواي أو الناسخ حيث خلط بين الصحيفة الجامعة التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام وخطها بيمينه ، وبين مصحف فاطمة الذي بيّنت الروايات أنه حدّث الملك به فاطمة وكتبه علي عليه السلام ، خاصة كون الإثنين واردين معاً في نفس النصوص المذكورة .

____________________

(1) المجلسي : بحار الأنوار 26 / 42 ، والصفار : بصائر الدرجات /155 ط . المرعشي .

(2) المجلسي : بحار الأنوار 26 / 48 – 49 ، والصفار : بصائر الدرجات / 161 ط . المرعشي .

(15)

2ـ أن يكون المراد برسول الله في هذه الأخبار الملك الذي كان يحدّث فاطمة عليها السلام لا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( كما احتمله المجلسي ) .

3- كما يحتمل أن يكون مصحف فاطمة عليها السلام متضمناً لبعض المعارف التي تلقّتها عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى ما تقدّم من الأمور التي كان يحدّثها بها الملك ، ولعلّ الرواية التي تذكر شمول المصحف المذكور لوصيّة فاطمة عليها السلام تقصد هذا . فيصحّ عنئذٍ أنه من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بهذا الإعتبار ، والله أعلم .

4ـ كما يحتمل أن تكون فاطمة عليها السلام قد تركت مصحفين ، الأول دونت فيه بخط علي عليه السلام ما حدّثتها الملائكة به بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم والآخر دونت فيه بعض العلوم التي أملاها عليها وعلى علي عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه فيتعدّد الموضوع .

وعلى أي حال فهذا لا يضرّ بمقصودنا ، وهو نفي التهمة التي يتمسّك بها المخالفون ، حيث صرّحت جميع الأخبار – بما فيها هذه الثلاثة المتقدمة – بنفي القرآنية عن مصحف فاطمة .

في نهاية المطاف نذكّر أن المصحف المذكور بقي عند أئمة أهل البيت عليهم السلام يتوارثونه مع بقيّة الكتب المتضمنّة لعلوم الأنبياء والرسل الماضين ، ومع صحيفة الأحكام الجامعة التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام ...

(16)

وقد كان هذا الميراث العلمي يشكل أحد علائم الإمامة الكبرى .

المهمّ هو الإشارة إلى أن مصحف فاطمة كبقية الصحف والكتب لم تنتقل إلى غيرهم عليهم السلام ، ولم تصل إلى شيعتهم ، وليس هناك أي واقع لما يدّعيه افتراءً بعض الكتّاب من كون هذا المصحف متداولاً في بعض مناطق الشيعة ، لا في بلاد الحجاز ولا في غيرها ، والمؤسف أن أصحاب هذه الأقلام يطلقون العنان لأقلامهم دون تدبّر ولا تثبّت ، ويأخذون معلوماتهم من العوام ، ويصدقون كل مقولة للطعن والتشنيع ، فيثبتونها في كتبهم لتصبح بعد ذلك مصادر يعتمد عليها المأجورون والساعون وراء تفريق المسلمين وزرع الفتن بينهم .

نسأله تعالى أن يعصمنا من الزلل وأن يغفر لنا هفوات الفكر واللسان وأن يحفظ المسلمين من كيد الشياطين وأهل الفتن .

بحث للشيخ مصطفى قصير العاملي  

شبهات وردود