إعلم أنّ
البناء على قبور الإنبياء والعباد المصطفين
تعظيمٌ لشعائرالله، وهو من تقوى القلوب، ومن
السنن الحسنة.
حيث إنّه احترامٌ لصاحب القبر،
وباعثٌ على زيارته، وعلى عبادة الله عزّ وجلّ
ـ بالصلاة والقراءة والذكر وغيرها ـ عنده،
وملجأٌ للزائرين والغرباء والمساكين
والتالين والمصّلين.
بل هو إعلاء لشأن الدين.
* وعن النبيّ صلّى الله عليه وآله
وسلّم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من
عمل بها»(99).
وقد بني على مراقد الأنبياء قبل
ظهور الإسلام وبعده، فلم ينكره النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم، ولا أحدٌ من الصحابة
والخلفاء، كالقباب المبنيّة على قبر دانيال
عليه السلام في شوشتر(100)، وهود وصالح ويونس
وذي الكفل عليهم السلام، والأنبياء في بيت
المقدس وما يليها، كالجبل الذي دفن فيه موسى
عليه السلام، وبلد الخليل مدفن سيّدنا
إبراهيم عليه السلام.
_________
(99) ورد
الحديث باختلاف يسير في: مسند أحمد 4/ 361، سنن
ابن ماجة 1/ 74
ـ 75 ح 203 ـ 208 باب من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة،
مشكل الآثار 1/ 94 و 96 و 481.
(100) هي
إحدى مدن مقاطعة خوزستان في إيران، ومعرّبها:
تستر؛ انظر معجم البلدان 2/ 29 (تستر).
بل
الحجر المبنيّ على قبر إسماعيل عليه السلام
وأُمّه رضي الله عنها.
بل أوّل من بنى حجرة قبر النبيّ
صلّى الله عليه وآله وسلّم باللبن ـ بعد أن
كانت مقوّمة بجريد النخل ـ عمر بن الخطّاب،
على ما نصّ عليه السمهودي في كتاب «الوفا»
(101) ثمّ تناوب الخلفاء على تعميرها(102)
.
* وروى البنّائي(103) واعظ أهل
الحجاز، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه
الحسين، عن أبيه عليّ، أنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم قال له: «والله لتقتلنّ في
أرض العراق وتدفن بها.
فقلت: يا رسول الله، ما لمن زار
قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟
فقال: يا أباالحسن، إنّ الله جعل
قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنّة [
وعرصة من عرصاتها ]، وإنّ الله جعل قلوب نجباء
من خلقه، وصفوة من عباده، تحنّ إليكم [ و تحتمل
المذلّة والأذى]، فيعمرون قبوركم، ويكثرون
زيارتها تقرّباً [ منهم] إلى الله تعالى،
ومودّة منهم لرسوله [ أولئك يا عليّ المخصوصون
بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في
الجنّة].
يا عليّ، من عمّر قبوركم وتعاهدها
فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت
المقدس...» إلى آخره(104) .
_________
(101) وفاء
الوفا 2/ 481.
(102) وفاء
الوفا 2/ 481 ـ 647.
(103) في
المصدر: التبّاني.
(104) فرحة
الغريّ: 77، وعنه في بحار
الأنوار 100/ 120 ح 22.
ولا
يخفى أنّ جعل معمّر قبورهم كالمعين على بناء
بيت المقدس، دالّ على أنّ تعظيم مراقدهم
تعظيم لشعائر الله سبحانه.
ونقل نحو ذلك ـ أيضاً ـ في حديثين
معتبرين، نقل أحدهما الوزير السعيد بسندٍ،
وثانيهما بسند آخر(105).
والسيرة القطعية ـ من قاطبة
المسلمين ـ المستمرّة، والإجماع، يغنيان عن
ذكر الأحاديث الدالّة على الجواز.
وما أعجب قول المفتين: «أمّا
البناء على القبور فممنوع إجماعاً»!
فإنّ مذهب الوهّابيّة ـ وهم فئة
قليلة بالنسبة إلى سائر المسلمين ـ لم يظهر
إلاّ قريباً من قرن واحد، ولا يتفوّه أحد من
المسلمين ـ سوى الوهّابيّة ـ بحرمة البناء،
فأين الإجماع المدّعى؟!
ودعوى ورود الأحاديث الصحيحة على
المنع ـ لو ثبت ـ غير مجدٍ لإثبات الحرمة؛
لأنّ أخبار الاحاد لا تنهض لدفع السيرة
والإجماع القطعي، مع أنّ أصل الدعوى ممنوع
جدّاً.
فأنّ مثل رواية جابر: «نهى رسول
الله أن تجصّص القبور، وأن يكتب عليها، وأن
يبنى عليها، وأن توطأ» (106)لا تدلّ على
التحريم؛ لعدم حرمة الكتابة على القبور
ووطئها، فذلك من أقوى القرائن على أنّ النهي
في الرواية غير دالٍّ على الحرمة، ولا نمنع
الكراهة في غير قبور مخصوصة.
مع أنّ الظاهر من قوله: «يبنى عليها»
إحداث بناء كالجدار على
_________
(105) فرحة
الغريّ: 78، وعنه في بحار الأنوار 100/ 121 ح 23 و 24.
(106) سنن
الترمذي 3/ 368
ح 1052.
نفس
القبر، فأنّ بناء القبّة وجدرانها بعيدة عن
القبر، ليس بناءً على القبر على الحقيقة،
وإنّما هو نوع من المجاز، وحمل اللفظ على
الحقيقة حيث لا صارف عنها معيّن، مع أنّ النهي
عن الوطء يؤكّد هذا المعنى، لا الذي فهموه من
الرواية.
وأمّا الاستدلال على وجوب هدم
القباب بحديث أبي الهيّاج، فغير تامٍّ في
نفسه ـ مع قطع النظر عن مخالفته للإجماع
والسيرة ـ لوجوه:
* الأَوّل: إنّ الحديث مضطرب المتن
والسند.
فتارة يذكرعن أبي الهيّاج أنّه قال:
«قال لي عليُّ» كما في رواية أحمد عن
عبدالرحمن(107) .
وتارة يذكر عن أبي وائل، أنّ
عليّاً قال لأبي الهيّاج(108).
ورواه عبدالله بن أحمد في «مسند
علي» هكذا: «لأبعثنّك فيما بعثني فيه رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، أنْ أُسوّي كلّ
قبر، وأنْ أطمس كلّ صنم»(109) .
فالاضطراب المزبور يسقطه عن
الحجّيّة والاعتبار.
* الثاني: إنّه من الواضح أنّ
المأمور به في الرواية لم يكن هدم جميع قبور
العالم، بل الحديث وارد في بعث خاصّ وواقعة
مخصوصة، فلعلّ البعث قد كان إلى قبور
المشركين لطمس آثار الجاهلية ـ كما يؤيِّده
ذكر الصنم ـ أو إلى غيرها ممّا لا نعرف وجه
مصلحتها، فكيف يتمسّك بمثل هذه الرواية لقبور
الأنبياء والأولياء؟!
_________
(107) مسند
أحمد 1/ 96.
(108) مسند
أحمد 1/ 129.
(109) مسند
أحمد 1/ 89 و 111.
قال
بعض علماء الشيعة من المعاصرين:
إنّ المقصود من تلك القبور، التي
أمر عليّ عليه السلام بتسويتها، ليست هي إلاّ
تلك القبور التي كانت تتّخذ قبلةً عند بعض أهل
الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى
وتماثيلهم، فيعبدونها من دون الله.
إلى أن قال:
وليت شعري لو كان المقصود من
القبور ـ التي أمر عليّ عليه السلام بتسويتها
ـ هي عامّة القبور على الإطلاق، فأين كان عليه
السلام ـ وهو الحاكم المطلق يؤمئذٍ ـ عن قبور
الأنبياء التي كانت مشيّدة على عهده؟! ولا
تزال مشيّدة إلى اليوم في فلسطين وسورية
والعراق وإيران، ولو شاء تسويتها لقضى عليها
بأقصر وقت.
فهل ترى أنّ عليّاً عليه السلام
يأمر أبا الهيّاج بالحقّ وهو يروغ عنه فلا
يفعله؟!
انتهى ما أردنا نقله منه.
* الثالث: قال بعض المعاصرين من أهل
العلم:
لا يخفى من اللغة والعرف أنّ تسوية
الشيء من دون ذكر القرين المساوي معه، إنّما
هو جعل الشيء متساوياً في نفسه، فليس لتسوية
القبر في الحديث معنى إلاّ جعله متساوياً في
نفسه، وما ذلك إلاّ جعل سطحه متساوياً.
ولو كان المراد تسوية القبر مع
الأرض، لكان الواجب في صحيح الكلام أن يقال:
إلاّ سوّيته مع الأرض.
فإنّ التسوية بين الشيئين
المتغايرين لا بُدّ فيها من أن يذكر الشيئان
اللذان تراد مساواتهما.
وهذا
ظاهر لكلّ من يعطي الكلام حقّه من النظر، فلا
دلالة في الحديث إلاّ على أحد أمرين:
أوّلهما: تسطيح القبور وجعلها
متساوية برفع سنامها، ولا نظر في الحديث إلى
علوّها، ولا تشبّث فيه بلفظ (المشرف) فإنّ
الشرف إن ذكرَ أنّه بمعنى العلوّ، فقد ذكر
أنّه من البعير سنامه، كما في القاموس وغيره،(110)
فيكون معنى (المشرف) في الحديث هو: القبر ذو
السنام، ومعنى تسويته: هدم سنامه.
وثانيهما: أنّ يكون المراد: القبور
التي يجعل لها شرف من جوانب سطحها، والمراد من
تسويته أن تهدم شرفه ويجعل مسطّحاً أجمّ، كما
في حديث ابن عبّاس: أمرنا أن نبنيّ المدائن
شرفاً والمساجد جمّاً(111).
وعلى كلّ حال، فلا يمكن في اللغة
والاستعمال أن يراد من التسوية في الحديث أن
يساوى القبر مع الأرض، بل لا بدً أن يراد منه
أحد المعنيين المذكورين.
وأيضاً: كيف يكون المراد مساواة
القبر مع الأرض، مع أنّ سيرة المسلمين
المتسلسلة على رفع القبور عن الأرض؟!
وفي آخر كتاب الجنائز من جامع
البخاري، مسنداً عن سفيان التمًار، أنًه رأى
قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسنّماً(112)
.
_________
(110) انظر
مادّة (شرف) في: القاموس المحيط 3/ 157، تهذيب
اللغة 11/ 341، لسان
العرب 9/ 171.
(111) غريب الحديث 4/
225، الفائق 1/ 234، لسان العرب 9/ 171؛ والجمّ: هي
التي لا شرف لها.
(112) صحيح البخاري
2/ 128.
وأسند
أبو داود في كتاب الجنائز عن القاسم، قال:
دخلت على عائشة فقلت:
يا أمه، اكشفي لي عن قبر رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه؛ فكشفت عن
ثلاثة قبور لا مشرّفة ولا لاطئة(113) .
وأسند ابن جرير، عن الشعبي، أنّ
كلّ قبور الشهداء مسنّمة.(114)
انتهى ما أردنا نقله منه.
وأقول بعد ذلك: لو كان قوله: «مشرفاً»
بمعنى عالياً، فليس يعمّ كلّ قبر ارتفع عن
الأرض ولو بمقدار قليل، فأنّه لا يصدق عليه
القبر العالي، فإنّ العلوّ في كلّ قبر إنّما
هو بالإضافة إلى سائر القبور، فلا يبعد أن
يكون أمراً بتسوية القبور العالية فوق القدر
المتعارف المعهود في ذلك الزمان إلى حدّ
المتعارف، وقد أفتى جمع من العلماء بكراهة
رفع القبر أزيد من أربع أصابع(115).
ولتخصيص الكراهة ـ لو ثبت ـ بغير
قبور الأنبياء والمصطفين من الأولياء وجهُ.
* الرابع: لو سلم أيّ دلالة في
الرواية، فلا ربط لها ببناء السقوف والقباب
ووجوب هدمها، كما هو واضح.
وأمّا قول السائل: «وإذا كان
البناء في مسبلة ـ كالبقيع ـ وهو مانع ... إلى
آخره».
فقد أجاب بعض المعاصرين عنه بما
حاصله:
_________
(113) سنن
أبي داود 3/ 215 ح 3220؛ ولاطئة: أي لازقة بالأرض.
انظر: لسان العرب 15/ 247 ـ لطا.
(114) كنز العمّال
15/ 736 ح 42932.
(115) منتهى المطلب
1/ 462.
أنّ
أرض البقيع ليست وقفاً، بل هي باقية على
إباحتها الأصلية، ولو شككنا في وقفيّتها
يكفينا استصحاب إباحتها.
وأقول: بل وقفيّتها غير مانع عن
البناء؛ لأنّها موقفة مقبرةً على جميع الشؤون
المرعيّة في المقابر، ومنها: البناء على قبور
أشخاص مخصوصين كالأصفياء، فإنّ البناء على
القبور ليس أمراً حديثاً، بل كان أمراً
متعارفاً من قديم الأيّام.
في
الصلاة عند القبور،
وإيقاد السرج عليها
[
الصلاة عند القبور: ]
وقد
جرت سيرة المسلمين ـ السيرة المستمرّة ـ على
جواز ذلك.
وأمّا حديث ابن عباس: «لعن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم زائرات القبور،
والمتّخذين عليها المساجد والسرج»(116)
فالظاهر والمتبادر ـ من اتّخاذ المسجد على
القبر ـ : السجود على نفس القبر، وهذا غير
الصلاة عند القبر.
هذا لو حملنا المساجد على المعنى
اللغوي.
ولو حملناه على المعنى الاصطلاحي،
فالمذموم اتّخاذ المسجد عند القبور، لا مجرّد
إيقاع الصلاة، كما هو المتعارف بين المسلمين،
فإنّهم لا يتّخذون المساجد على المراقد، فإنّ
اتّخاذ المسجد ينافي الغرض في إعداد ما حول
القبر إعانة للزوّار على الجلوس لتلاوة
القرآن وذكر الله والدعاء والاستغفار، بل
يصلّون عندها، كما يأتون بسائَر العبادات
هنالك.
هذا، مع أنّ اللعن غير دالٍّ على
الحرمة، بل يجامع الكراهة أيضاً.
_________
(116) سنن
أبي داود 3/ 218 ح 3236، سنن النسائي 4/ 95.
]
إيقاد السرج : ]
وأمّا إيقاد السرج، فإنّ الرواية
لا تدلّ إلاّ على ذمّ الإسراج لمجرّد إضاءة
القبر، وأمّا الإسراج لإعانة الزائرين على
التلاوة والصلاة والزيارة وغيرها ، فلا دلالة
في الرواية على ذمّه.
وإن شئت توضيح ذلك فارجع إلى هذا
المثل:
إنّك لو أًضعت شيئاً عند قبر،
فأسرجت هناك لطلب ضالّتك، فهل في تلك الرواية
دلالة على ذمّ هذا العمل؟!
فكذلك ما ذكرناه.
هذا، مع ما عرفت أنّ اللعن ـ حقيقة
ـ هو البعد من الرحمة، ولا يستلزم الحرمة،
فإنّ عمل المكروه ـ أيضاً ـ مبعّد من الله،
كما أنّ فعل المستحبّ مقرّب إليه عزّ وجلّ.
هذا، وذكر بعض العلماء في الجواب:
أنّ المقصود من النهي عن اتّخاذ القبور
مساجد، أن لا تتّخذ قبلةً يصلّى إليها
باستقبال أيّ جهة منها، كما كان يفعله بعض أهل
الملل الباطلة.
وممّا يدلّ عليه ما رواه مسلم في «الصحيح»:
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:
إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات
بنوا على قبره مسجداً وصورّوا فيه تلك
الصورة، أولئك شرار الخلق عندالله عزّ وجلّ
يوم القيامة(117) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: لعن
الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد(118).
_________
(117) صحيح
مسلم 1/ 376 ح 528.
(118) مسند أحمد 2/
285.
فإنّه
من المعلوم لدى الخبراء بتقاليد أولئك
المبطلين، أنّهم كانوا يتّخذون قبور
أنبيائهم وصلحائهم مساجد على الوجه المذكور،
وذلك بجعل ما برز من أثر القبر قبلةً: وما دار
حوله من الأرض مصلّيً، ولذلك قالت أمّ
المؤمنين عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير
إنّه خشي أن يتّخذ مسجدا(119).
فلو كان اتّخاذه مسجداً على معنى
إيقاع الصلاة عنده ـ وإنْ كان التوجه بها إلى
الكعبة ـ لما كان الإبراز سبباً لحصول
الخشية، فإنّ الصلاة ـ كذلك ـ غير موقوفة على
أن يكون للقبر أثر بارز، وإنّما الّذي يتوقّف
على بروز الأثر هو: الصلاة إليه نفسه.
انتهى.
ثمّ استشهد بكلام النووي في شرح
صحيح مسلم، قال:
«قال العلماء: إنّما نهى النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم عن اتّخاذ قبره وقبر
غيره مسجداّ خوفاً من الافتتان به، فربما
أدّى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم
الخالية، ولما احتاجت الصحابة ـ رضوان الله
عليهم أجمعين ـ والتابعون إلى الزيادة في
مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين كثر
المسلمون، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت
أمّهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة ـ رضي
الله عنها ـ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة
مستديرة حوله، لئلاّ يظهر في المسجد فيصلّي
إليه العوامّ ويؤدّي إلى المحذور.
ثمّ بنوا جدارين من ركني القبر
الشماليّين وحرّفوهما حتّى التقيا، حتّى لا
يتمكّن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في
الحديث: (ولولا
_________
(119) مسند
أحمد 6/ 80، صحيح مسلم 1/ 376 ح
529.
ذلك
لأبرز قبره، غير إنّه خشي أن يتّخذ مسجداً)
والله العالم بالصواب»(120).
انتهى.
ثمّ استظهر العالم المومى إليه أن
يكون الإسراج المنهيّ عنه:
أمّا الإسراج على قبور أولئك
المبطلين الّذين كانوا يتّخذونها قبلة، كما
ربّما يشهد بذلك سياق الحديث المومى إليه.
أو الإسراج الذي يتّخذه بعض جهلة
المسلمين على مقابر موتاهم في ليالٍ مخصوصة،
لأجل إقامة المناجاة عليها والنوح على أهلها
بالباطل.
_________
(120) شرح
النووي على صحيح مسلم 5/ 13 ـ 14.
في
الذبائح والنذور:
إعلم أنّ من المسائل المسلّمة
الواضحة الضرورية عند طوائف المسلمين: اختصاص
الذبح والتقرّب بالقربان به سبحانه، فلا يصحّ
الذبح إلاّ لله.
وهكذا أمر النذر، فمن المؤكّد
المتّفق عليه بين طوائف المسلمين أن النذر لا
يصحّ إلاّ لله ، ولذا يذكر في صيغته: لله عليّ
كذا.
أمّا الذبح عن الأموات، فلا بدّ أن
يكون لله وحده وإن كان عن الميّت، وكم بين
الذبح عن الميّت والذبح له، والممنوع
هوالثاني لا الأوّل.
قال بعض العلماء ـ رحمه الله ـ في «المنهج»(121)
: وأمّا من ذبح عن الأنبياء والأوصياء
والمؤمنين، ليصل الثواب إليهم ـ كما نقرأ
القرآن ونهدي إليهم، ونصلّي لهم، وندعو لهم،
ونفعل جميع الخيرات عنهم ـ ففي ذلك أجر عظيم.
وليس قصد أحدٍ من الذابحين
للأنبياء أو لغير الله سوى ذلك.
أمّا العارفون منهم فلا كلام،
وأمّا الجهّال فهم على نحو عرفائهم.
_________
(121)
ورد مضمونه في:
منهج الرشاد: 160.
وقد
روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه ذبح
بيده وقال: اللّهمّ هذا عنّي وعن من لم يضحّ من
أمّتي.
رواه أحمد وأبو داود والترمذي(122) ...
إلى آخره.
وقال بعض المعاصرين:
أمّا التقرّب إلى الضرائح بالنذور
ودعاء أهلها مع الله، فلا نعهد واحداً من
أوباش المسلمين وغيرهم يفعل ذلك، وإنّما
ينذرون لله بالنذر المشروع، فيجعلون المنذور
في سبيل إعانة الزائرين على البرّ، أو
للإنفاق على الفقراء والمحاويج، لإهداء
ثوابه لصاحب القبر، لكونه من أهل الكرامة في
الدين والقربى ... إلى آخره.
|